وكان العطاء أربعة أربعة فأخذوا عطائهم ورجعوا، فأخذ بعض مشائخهم ديناراً معه، فأعطاه البيع فرده، ثم آخر ثم آخر [وهم يردونه] فغضب، وقال: كيف تردون دينار مولانا؟ فأدناه البيع من أنفه فشم رائحة الصفر فالتفت إلى أصحابه فأخبرهم، فرموا بتلك الدنانير وانصرفوا غضاباً، وكانوا بعد ذلك من أشد الناس عداوة له ومحبة لآل القاسم.
ومن فضائل هذا الأمير وغاراته على الدين وأهله وحميته على المذهب اليحيوي، والمنصب النبوي: أنه كان في سنة ثلاث وستين وأربعمائة خطب جعفر بن الحسن الشمري بصعدة للصليحيين على منبر الهادي -عليه السلام- بصعدة فنهض الفاضل بنفسه، ولم يرض بنائب غيره حتى دخل صعدة فقبض على الشمري، ورجع به إلى شهارة فلبث في سجنها إلى سنة سبعين وأربعمائة، فمدح بذلك وأثني عليه، فمما قيل فيه من الشعر:
قدنا من الجبل المنيع جيادنا.... لدن الأعنة كالصخور صلادماً
فمضين شعثاً كالعشار بواطناً.... وسلكن شرقاً كالظباء سواهما
يتبعن أشمط هاشم وهمامها.... نجل الأئمة ذا المهابة قاسما
الماجد الورع التقي الزاهد البـ.... ـر الكمي الأريحي العالما
يقصدن هجرة جده الهادي بها.... أكرم بها وبه إليها قادماً
متغضباً لما طغت واستعملت.... سكان صعدة رأيها المتقادما
ودعا المخلع فوق منبر جدنا.... قدنا إليه الماقط المتلاحما
فرجعنا بالأسرى وكان مرادنا.... دون الغنائم والإياب غنائما(2/96)


قالوا: ومن كماله ودهائه أنه كتب إلى أحمد بن المظفر الصليحي وهو بصنعاء وأعطى الكتاب رسولاً له أيام حدوثه بصنعاء، فقال له الرسول: أين أجدك عند رجوعي بالجواب؟ فقال: إسأل أحمد بن المظفر عني.
وكان أحمد هذا كبير الصليحيين في دولة المكرم، ومجربهم للأمور، والخبير بأمور الناس. فلما قدم الرسول صنعاء وأخذ الجواب وأراد الرجوع، فقال لأحمد بن المظفر: أين أجد الشريف القاسم ؟ فقال: ولِمَ سألتني عنه؟ قال: أخبرني بذلك، فضحك وقال: إنه لشيطان.
وقال أتاني الثقة بأنه نفذ أمس من بني فلان، وأمسى البارحة بمكان كذا، وهو اليوم بناحية كذا، وتجده غداً إن شاء الله عند بني فلان بمكان كذا، فانصرف الرسول فوجده حيث كان.
قال: وهذا يدل على دهاء الرجلين جميعاً، وقد ألمَّ السيد صارم الدين في البيت المتقدم بقول الشاعر:
عهدت قومي كعديد الطيسي.... إذ ذهب القوم الكرام ليسي
والطيس: هو الكثير من الرمل، وبقول الحريري :
وأقبلت يوم حد البين في حلل.... سود تعضَّ بنان النادم الحصر(2/97)


[أخبار حمزة بن أبي هاشم]
وحمزة روت المنوى له بدم.... وفرقت منه بين الرأس والقصرِ
سر الزواحي والأصلوح مصرعه.... وقد ثأرنا به منهم على الأثرِ
بعامر وبمنصور وأسرته.... فما التقى رايح منهم بمبتكرِ
المراد بحمزة هنا هو: حمزة بن أبي هاشم الحسن، وكنيته النفس الزكية بن عبد الرحمن بن يحيى بن عبد الله بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم -عليهم السلام-
قام محتسباً وليس بإمام، شهد بفضله الموالف والمخالف، وقد ذكره الإمام المتوكل [على الله] أحمد بن سليمان في بعض رسائله على المطرفية في جملة من ذكر من أهل البيت الذين أنكروا على المطرفية، وكانت لحمزة هذا مع بني الصليحي وقعات مشهورة، وكان في بعض أيامه بمسجد حلملم، وقد اجتمع إليه أهل الطرق، وأراد الصلح بينهم في أمور كانت، فأحدث واحد بالقرب من المسجد صوتاً يريد به تفريق الناس حتى ينصرفوا بغير صلح.
فقال حمزة: من هذا الذي غيَّر محضرنا، غير الله لونه؟ فأنزل الله بذلك الرجل البرص في مجلسه، عقيب دعائه -عليه السلام-، وصار آية شاهدة بفضله، ولم يزل مجاهداً حتى قتل في المعركة في المنوى موضع بالخشب معروف، وذلك في سنة تسع وخمسين وأربعمائة، في أيام علي بن محمد الصليحي.
وكان يقاتل يوم قتل، وهو يقول:
أطعن طعناً ثائراً غباره
طعن غلام بعدت أنصاره
وانتزحت عن قومه دياره
وفيه يقول شاعر المكرم علي بن محمد الصليحي:
فصرعن بالمنوى منكم سيداً.... قرماً ولم يسمح به أن يصرعا
ملك لو ان بني سليمان معاً.... وزنوه يوماً لم يوازن إصبعا(2/98)


قالوا: وكان جيشه ألفاً وخمسمائة فارس وخمسة عشر ألف راجل.
ووقف عنده تسعون شيخاً من همدان يجالدون دونه حتى هلكوا.
وقتل معه عشرة من رؤساء همدان، لكل واحد منهم من الأولاد عشرة ذكور وعشر بنات، فعجل الله انتقام قاتله علي بن محمد الصليحي، فلم يحل عليه الحول حتى قتله سعيد بن نجاح الأحول، وقتل معه أخاه عبد الله وجماعة من أهله، وسبيت حريمه، وقد أشار إلى ذلك الإمام المنصور بالله [عبد الله بن حمزة] -عليه السلام- حيث يقول:
كم بين قولي عن أبي عن جده.... وأبو أبي فهو النبي الهادي
وفتى يقول: حكى لنا أشياخنا.... ما ذلك الإسناد من إسنادي
ما أحسن النظر البليغ لمنصف.... في مقتضى الإصدار والإيرادِ
أفليس جدي حمزة نعش الهدى.... بحسامه وبعزمه الوقَّادِ
خمساً إلى أن ذاق كأس حمامه.... وسط العجاجة والخيول غوادي
لم يرتدع في حربه عن عامر.... عن فرط إبراق ولا إرعادِ
يعني عامر بن سليمان الزواحي الذي قتله الأمير المحسن بن الحسن بين ثلا وشبام، وثأر بحمزة بن أبي هاشم، وحمل السلطان عامر بن سليمان على الأمير المحسن فتطارد له، ثم لقاه الرمح في هزمته، فوقع في نحره، فعطف عليه ولده، فنشل شيعي من خلصان الزيدية كنانته ورماه بسهم كان فيه حمام ولده، فقال شاعر الزيدية:
إنَّا قتلنا عامراً وابنه.... يحيى وكانا ملكي حمير
لله در محسن من طاعن.... والخيل بين عجاجة وستور
جادت له كف الأمير بطعنة.... ضمنت له منها بموت أحمر(2/99)


وفي الرواية : أن حمزة لما دفن وأراد أولاده نقله من الموضع الذي دفن فيه أقاموا مدة يطوفون قبره ليلاً حتى أمكنتهم الفرصة، فحملوه في شملة [ليلاً] وله نور [ساطع] يرى منه أهداب تلك الشملة.
وحمزة هذا هو جد بني حمزة كافة.(2/100)

100 / 205
ع
En
A+
A-