الكتاب : مآثر الأبرار
المؤلف : محمد بن علي بن يونس الزحيف الصعدي، بدر الدين، المعروف بابن فند

تصدير
بسم الله الرحمن الرحيم
قد لا نذهب بعيداً إذا زعمنا أن من أبرز ما واجهته النظرية السياسية الإسلامية الحديثة فقدانها لأصول تاريخية، سواءً على مستوى التشريع أو على مستوى التطبيق.
فتشريعياً لا يمكن الاستناد على الرؤية السُّنية التي سادت قروناً من الزمان، وذلك لهيمنة عنصر شرعنة الأمر الواقع مهما فسد على تلك الرؤية، ويكفي دلالة على هذه الشرعنة الحديث المنسوب للنبي صلوات الله عليه وعلى آله -وهو منه براء- والذي فيه يأمر الرسول بطاعة الحاكم ولو كان قلبه قلب شيطان، ولا يستن بالسنة ولا يهتدي بالهدى، ويضرب ظهور رعاياه، ويأخذ أموالهم !! وكذلك لا يمكن الاستناد إلى النظرية الشيعية الإمامية، وذلك لأنها وأَدَتْ نفسها بنفسها حين اشترطت إمامة المعصوم في الوقت الذي قالت بغيبته.
وكما لا يمكن الاستناد اليوم إلى تلك الرؤى لما فيها، فإنها -ولذلك الأمر نفسه- لم تستطع في الماضي أن تفرز تجارب سياسية مستندة عليها، ومستوحاة منها، فالنظرية السنية مع كل ما فيها من مُثل إلا أنها أعاقت أي إمكانية لتنزيلها على الواقع؛ لما شرعت للأمر الواقع، واعتبرته على أي صفة كانت -تقريباً- ممثلاً لإرادة الله تعالى ومحرماً تغييره من أصله؛ وبذلك كان دورها التأريخي الأبرز إضفاء الشرعية على من تربع سدة الحكم على أي صفة كان، وأما النظرية الاثني عشرية فقد عملت عكس ذلك؛ حيث سلبت الشرعية عن كل نظام قائم صلح أو فسد، عدل أو جار، فكل ما سوى إمامة الإمام المعصوم لا يجوز، ولكنها إذ سلبت الأنظمة كل مشروعية لم تتقدم هي برؤية بديلة.(1/1)


فلم يكن بالإمكان في الماضي -في غالبية الأقطار المسلمة- وجود تجربة متوافقة مع المثال المنشود، وكيف ذلك.. وهناك نظرية تجيز الأمر الواقع، وتأمر بالانصياع له، وأخرى ترى في كل ما هو قائم جوراً وضلالة واغتصاباً لحق الإمام الغائب، حتى وإن حُكم بالعدل، وأقيم القسط!! فكيف والحال هكذا أن يخلق الحافز الكافي لصنع واقع متوافق مع الحالة المثلى التي ينشدها الجميع.
ولذلك نجد أن الإسلام -في أغلبيته السكانية- عاش أكثر زمنه خارج الدولة؛ أي خارج الحياة العامة، واقتصر دوره على التقنين لها، حيث لم يكن مقنن سواه.
ولذلك أيضاً نجد أن علمنة الأنظمة لم تكن عملية ذات جهد كبير؛ حيث أنها كانت قد تعلمنت عملياً منذ زمن بعيد، وما بقي إلا أن تعلمن نظرياً وتشريعياً، وفي كل الأحوال فإنه في ظل هذا الغياب التشريعي والتأريخي نجد أن الحاجة إلى إبراز النظرية والتجربة السياسية الإسلامية للزيدية أمر يتجاوز مجرد التأريخ إلى إيجاد الامتداد التأريخي العميق لأي توجه يسعى إلى عودة الإسلام إلى الحياة العامة للأمة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى إلى إبراز أصالة النظرية السياسية المنشودة، وانتمائها إلى الفكر الإسلامي قبل الاصطدام بالحضارات الأخرى التي فرضت علينا فرضاً إعادة النظر في كل شيء، هذا كله على اعتبار أن الاستلهام والاستفادة الفردية أمر مسلم به، ومفروغ من ضرورته.
هذه الحاجة الملحة تجد ما يسوغها في أكثر من أمر، لعل أبرزها:(1/2)


أولاً: إن التجربة الزيدية بخلاف غيرها كانت في جميع مراحلها منبثقة عن نظرية سياسية إسلامية تسعى لأن تجد لنفسها تجسيداً على واقع الأمة، وكانت على الدوام مع كل ما رافقها من نقص في الأداء، باختلاف مستويات ذلك النقص في سعي متواصل لتحقيق ذاتها وفق تلك النظرية، وبالتالي فإن دراسة تأريخها إنما هو دراسة لتجربة الإسلام السياسي بمختلف ظروفه وأوضاعه، عبر الأربعة عشر قرناً الماضية، أو على الأقل عبر ثلاثة عشر قرناً ولّت، إنها دراسة لفكرة تحركت في الواقع وتفاعلت معه، وليس مجرد دراسة لتأريخ أنظمة حُكم تعاقبت عبر مراحل تأريخية مختلفة.
ونحن اليوم إذ نحاول أن نبلور لنظرية إسلامية سياسية أحوج ما نكون إلى تجارب تأريخية سابقة، خصوصاً تلك التي كان أصحابها وروادها من أهل العلم والديانة بمكان.
ثانياً: إن العناصر الجوهرية للفكر السياسي الإسلامي وفق صياغة الزيدية له ضرورية لتأسيس أي نظام سياسي معاصر من جهة، ومن جهة أخرى مؤسسة على قواعد قرآنية مما يمنحها شرعية كاملة لابد منها في تعزيز الالتزام بها، وأصالة حضارية وتأريخية حيث أنها تنتمي إلى الإسلام الحضاري، وليست مستوردة من حضارات أخرى.
هذه العناصر الجوهرية يمكن اعتبارها ضمن ما يلي:(1/3)


الأول منها وهو الأهم: أن الله تعالى خلق البشر متساوين في الحقوق الاجتماعية والسياسية، وبالتالي فلا يحق لأحدٍ مهما كان أن يقيد حرية أي مخلوق آخر إلا برضاه، أو بإذن من الله، كما لا يحق لأحدٍ أن يتقدم أو يتصدر غيره من الناس إلا برضاهم، أو بإذن من الله تعالى، وإن الله تعالى إذ يأذن فلا يأذن إلا بما يقره العقل ويؤيده؛ لأن الله تعالى لا يأذن بما يخالف العقل أبداً.
الثاني: أن إقامة نظام سياسي عادل يرعى حقوق الناس، ويؤمنهم من الظلم والخوف والفقر والجهل، هو من أصول الدين، بل إن أصول الدين إنما تنقسم إلى قسمين:
أحدهما: يدور حول معرفة الله والإنسان، وعلاقة الله تعالى به، وموقعه من الله، وسبب وجوده ودوره في الحياة ومآله.
والآخر منهما: يدور حول وجوب إقامة الدولة العادلة القائمة بالقسط، فأصول الدين إنما هي القضايا التي يرتكز عليها الدين وجوداً وحركة في الحياة، والأمران السابقان هما ما لا يمكن للدين بغيره أن تقوم له قائمة، ونقص كل ما سواها يثلم الدين، ولكنه لا يهدم أساسه الفكري، أو وجوده العملي في الحياة، وهذه الرؤية لأصول الدين تنطلق من تصورين واضحين ومحددين له -أي للدين- التصور الأول باعتباره فكرة عن الحياة لا يمكن أن تتحقق إلا في ظل ظرف تأريخي مناسب، هذا الظرف التأريخي إنما هو مجتمع محكوم بالقسط، وهو أمر لا يتحقق إلا من خلال نظام سياسي عادل.(1/4)


وأما التصور الثاني فباعتبار أن الدين أساساً ما هو إلا لرعاية مصالح الإنسان؛ فالله تعالى غني عن العالمين، وأهم ما يحقق للناس مصالحهم في الدنيا هي الدولة العادلة، وبالتالي فإن ذهاب الدولة يعني فقدان المسوغ الأساسي للفكرة الدينية.
الثالث: وهو يتفرع بشكل طبيعي عن الثاني، وهو وجوب المشاركة السياسية الفاعلة من جميع أفراد الأمة في تأسيس ذلك النظام، وفي رعايته وحمايته. وهذا يفرض على المجتمع المسلم التواجد الإيجابي والفاعل في الساحة السياسية، مع اختلاف شكل التواجد وآليته باختلاف الظروف الموضوعية، كما يفرض على المجتمع السعي الدؤوب وصولاً لنحو ذلك النظام، حتى لو لزم الأمر التدخل القسري، وبالتالي يخلق لنا مجتمعاً مشاركاً ومراقباً للوضع السياسي في البلاد، إضافة إلى أنه يخلق شعوراً لدى القائمين بالأمر بالمراقبة المستمرة لهم ولأعمالهم.(1/5)

1 / 205
ع
En
A+
A-