الشافي، وصاحب الكشاف عند تفسير قوله ـ جل وعلا ـ: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى } [الشورى:23]، والرازي في مفاتيح الغيب، وفيه: ((ألا من مات على حب آل محمد مات على السنة والجماعة))، ونحوه في إشراق الإصباح.
وعنه ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((من أحب حسناً وحسيناً وأباهما وأمهما كان معي في الجنة، ومات متبعاً للسنة))، أخرجه أبو داود.
وفي معناها أخبار لا حاجة لاستقصائها؛ والحق أوضح من فلق النهار، لأولي الأبصار.
وإن من أبين البدعة، وأوضح الفرقة، ابتداع البدعة، واتباع الفرقة، وتسمية ذلك سنة وجماعة، ولزوماً للطاعة؛ وبالله عليك إن كنت ممن يؤمن بالله ورسوله، ويحكم كتاب الله، وسنة نبيه ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ هل تستقيم دعوى من يدعي اتباع السنة النبوية، مع رفضهم للعترة المحمدية، الموصى بهم في الأخبار المتواترة الضرورية، المطهرين من الرجس بنص الكتاب، المسؤولة مودتهم على جميع ذوي الألباب؟
فما يكون الجواب على الله ورسوله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ يوم العرض والحساب؟
وكيف يكون الحال وأئمة تلك السنة ـ المركون إليها ـ الدعاة إلى النار، كما صح في متواتر الأخبار؟
وهب أن هؤلاء الأغمار، خفي عليهم ذلك الأصل المنهار، المؤسس على شفا جُرف هار؛ فأيّ عذر لهم في الائتمام بالفجار، والمحامات عن أعداء الله، وأعداء رسوله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ، والتولي والترضي عن أولئك الطغاة البغاة الأشرار، والنصب والرفض لنجوم آل محمد الأطهار، والسب والبغض لأولياء العترة الأبرار؟
ولو ترى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعاً، وأن الله شديد العذاب؛ إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب، وقال الذين اتبعوا: لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرؤوا منا؛ كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات /606(2/606)
عليهم، وما هم بخارجين من النار.
فتلك سنتهم ـ على زعمهم ـ التي ابتدعوها، وجماعتهم التي اتبعوها، وهي سنة المضلين، وجماعة الظالمين، المخالفة لكتاب رب العالمين، وسنة سيد المرسلين ـ عليهم الصلاة والسلام ـ، والمفارقة لجماعة وصيه إمام المتقين، وأهل بيته قرناء الذكر المبين (ع)، ولصحابة الرسول السابقين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، ـ رضوان الله عليهم أجمعين ـ.
ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين، نولّه ما تولى ونصله جهنم، وساءت مصيراً؛ وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض، والله ولي المتقين؛ ولتعلمنّ نبأه بعد حين، ومن يتولى الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون؛ قل رب أحكم بالحق وربنا الرحمن المستعان على ما تصفون.
[الكلام على جعلهم السنة مكان العترة]
ومن أعجب الزيغ والخذلان، وأغرب الضلال والبطلان، زعم بعض أهل النصب والرين، المعارَضَةَ لأخبار الثقلين، المعلومة عند الفريقين، بحديث آحادي، مما رووه عن /607(2/607)
أبي هريرة وغيره، جعل فيه السنة مكان العترة، ولم يروه أحد من أهل صحاحهم.
ونقول: على فرض ثبوته، لا معارضة ولا منافاة، ولا سبيل إلى التفرقة بين حجج الله؛ فكتاب الله وسنة رسوله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ مؤداهما واحد، وبعضهما على بعض شاهد، والأمر بلزوم أحدهما أمر بلزوم الآخر، والدلالة على التمسك بالسنة النبوية، لا يوجب اطراح فرض التمسك بالعترة المحمدية، بل يوجب التمسك بهم؛ إذ هو نص السنة المعلومة، المجمع عليها بين البرية؛ أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض؟
وقد ورد في رواية آل محمد ـ صلوات الله عليهم ـ جمع الكتاب والسنة والعترة، وهو من آخر ما عهد رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ في مرضه، ولفظه: ((يا أيها الناس، إني خلفت فيكم كتاب الله وسنتي وعترتي، فالمضيع لكتاب الله كالمضيع لسنتي، والمضيع لسنتي كالمضيع لعترتي؛ أما إن ذلك لن يفترق حتى ألقاه على الحوض))، رواه الإمام الناطق بالحق أبو طالب بسنده إلى الإمام الأعظم زيد بن علي، بسند آبائه ـ صلوات الله وسلامه عليهم ـ وقد سبق في سند المجموع الشريف.
وفي إتيانه ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ بعكس التشبيه، ما لا يخفى من المبالغة البليغة والتنبيه؛ فيا سبحان الله! كيف يعدل المدعون للسنة إلى المعارضة بحديث آحادي لا معارضة فيه، ولم يروه أحد من أهل معتمداتهم الستة، وإنما رواه مالك بلاغاً، ولا حجة عندهم في مرسل، وأورده الحاكم؟!
وقد أخرج خبر التمسك بالكتاب والعترة من ثلاث طرق، قال: في كل واحدة: صحيح على شرط الشيخين، وإنما استدركها لعدم إخراج البخاري ومسلم لها من تلك الطرق خاصة.
وإلا فقد أخرج خبر التمسك بالكتاب والعترة طوائفُ الأمة كما قدمنا في الفصل الأول، فكيف يزعمون وهم يدعون الإسلام المعارضة لما أنزل الله في محكم كتابه؟ وأكده على لسان رسوله - صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم - في الآيات المتكاثرة، والأخبار المتواترة، كآيات الولاية، والمودة، والأمر بالطاعة، والتطهير، /608(2/608)
والمباهلة، والاصطفاء، والاجتباء، والإطعام، والخمس، والسؤال، والصادقين، والترحم، والاعتصام، والإنذار، والسلام، وأخبار كل منها، وأخبار الكساء، والخميصة، والرداء، والتمسك، والخليفتين، والثقلين، الذي كرره الرسول ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ في مقام بعد مقام، رواه أكثر من عشرين صحابياً، وخرج كما سبق في دواوين الإسلام، وفيه: ((إني تارك فيكم، ومخلّف فيكم)) وفيه: ((فانظروا كيف تخلفوني فيهما))، وفيه: ((إني سائلكم حين تردون عليَّ الحوض عن الثقلين)) وفيه: ((فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به، وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي)) ثلاثاً.
وقد روى لفظ: ((أذكركم الله في أهل بيتي)) في هذا الخبر الشريف من العامة: أحمد، ومسلم، والنسائي، وعبد بن حميد، والحاكم، والدارمي، وابن خزيمة، وابن حبّان، وفيه: ((فلا تقدّموهما فتهلكوا، ولا تقصروا عنهما فتهلكوا، ولا تعلموهم فإنهم أعلم منكم)).
ومن مقاماته: ما قاله ـ صلوات الله عليه وآله وسلامه ـ في مرض وفاته، وقد خرج فصلى بالناس، ثم قام يريد المنبر، وعلي والفضل بن العباس قد احتضناه حتى جلس على المنبر، فخطبهم، واستغفر للشهداء، ثم أوصى بالأنصار، وقال: ((إنهم لا يرتدون عن منهاجنا؛ ولا آمنُ منكم يا معشر المهاجرين))، ثم رفع صوته حتى سمع من في المسجد ووراءه يقول: ((يا أيها الناس، سُعّرت النار، وأقبلت الفتن كقطع الليل المظلم؛ إنكم والله لا تتعلقون علي غداً بشيء؛ ألا وإني قد تركت فيكم الثقلين، فمن اعتصم بهما، فقد نجى، ومن خالفهما هلك وهوى، أحدهما أعظم من الآخر: كتاب الله طرف بيد الله وطرف بأيديكم، وعترتي أهل بيتي، فتمسكوا بهما لا تضلوا ولا تذلوا أبداً؛ فإن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض؛ وإني سألت الله ذلك لهم فأعطانيه؛ ألا فلا تسبقوهم فتهلكوا، ولا تقصروا عنهم فتضلوا، ولا تعلّموهم فإنهم أعلم منكم بالكتاب؛ أيها الناس، احفظوا قولي تنتفعوا به بعدي، وافهموا عني تنتعشوا؛ لئلا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض؛ فإن أنتم /609(2/609)
فعلتم ذلك، ولتفعلنّ، لتجدنّ من يضرب وجوهكم بالسيف))، ثمّ التفت عن يمينه، ثمّ قال: ((علي بن أبي طالب؛ ألا وإني قد تركته فيكم، ألا هل بلغت؟ ألا هل بلغت؟))، فقال الناس: نعم يا رسول الله ـ صلوات الله عليك ـ، فقال: ((اللهم اشهد))، ثم قال: ((ألا إنه سيرد علي الحوض منكم رجال فيدفعون عني، فأقول: يارب، أصحابي أصحابي؛ فيقول: يا محمد، إنهم أحدثوا بعدك، وغيروا سنتك؛ فأقول: سحقاً سحقاً)).
وفي يوم آخر: خرج رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ يمشي بين علي والفضل، وقدماه تخطان بالأرض، وصلى بالناس، فلما سلم أمر علياً والفضل، وقال: ((ضعاني على المنبر))، فوضعاه على منبره، فسكت ساعة، ثم قال: ((يا أمة محمد؛ إن وصيّتي فيكم الثقلان: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، اعتصموا بهما تردوا على نبيكم حوضه؛ ألا ليذادن عني رجال منكم، فأقول: سحقاً سحقاً))، ثم أمر علياً والفضل أن يدخلاه منزله، وأمر بباب الحجرة ففتح، ودخل الناس عليه، ثم قال: ((ائتوني بدواة وصحيفة أكتب لكم كتاباً لا تضلون بعدي أبداً))، قال عمر بن الخطاب: إن رسول الله ليهجر.
إلى قوله: فسمع رسول الله هذا القول فغضب، ثم قال لهم: ((اخرجوا عني، وأستودعكم كتاب الله، وأهل بيتي، فانظروا كيف تخلفوني فيهما؟ وأنفذوا جيش أسامة؛ لا يتخلّف عن بعثه إلا عاص لله ولرسوله...الخبر بطوله))، رواه كامل أهل البيت عبدالله بن الحسن بن الحسن بن علي صلوات الله وسلامه عليهم.
فرسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ يوصي أمته، وخصوصاً صحابته، في أهل بيته، ويستخلفهم فيهم، ويلزمهم التمسك بهم، ويؤكد عليهم كلّيّة التوكيد، ويشدد عليهم في ذلك غاية التشديد؛ وجاءت الحشوية، ومن سبقهم ولحقهم من مردت البرية، بمشاقّتهم، والرفض لطاعتهم، والنصب لجماعتهم، والعدواة لهم ولأهل ولايتهم، والولاية لأهل عدواتهم ولقتلتهم؛ ولم يكفهم ذلك حتى رموهم بدائهم، فسَمَّوا أهل بيت نبيهم أهل البدعة، وسموا أنفسهم أهل السنة، وجماعتهم الفرقة، وفرقتهم /610(2/610)