هي في أخيه ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ.
وقرر المقدمة في قوله: ((ألست أولى بكم من أنفسكم؟))، قالوا: بلى، قال: ((فمن كنت مولاه فعلي مولاه؛ اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله))، بألفاظه وسياقاته؛ وهذا بعد أن أخبرهم وعزَّاهم في نفسه، واستشهدهم على البلاغ وقررهم عليه، وعرس بهم في غير وقته، في شدة الحر؛ مع ما فيه من القرائن العقلية والحسية واللفظية والمعنوية؛ ثم شهد كبار الصحابة بذلك، وهنّؤوه بما ناله، وقِيلت الأشعار فيه من شعرائهم.
ونظير حديث الولاية آية الولاية: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا } [المائدة:55]، سواء سواء، مع ما قدمنا أن كل لفظ أو معنى يستعمل في الرئاسة، فقد ورد لعلي (ع) أحاديث، مثل: الوصية، والخلافة، والإمامة، وإمرة المؤمنين، وسيدهم، ويعسوبهم، وغيرها، من رواية الجميع؛ وما أوردناه في العترة من الآيات والأخبار، مثل: حديث الثقلين والخليفتين، وهو من جملة حديث الغدير، كما حقّقه الحاكم في المستدرك وغيره، وفيه: إن التمسك بهما أمان من الضلال أبداً، وغير ذلك مما أفاد القطع في المراد.
ومن الأدلة أيضاً: إجماع الأمة على جوازها فيهم، وكفاية القائم بالمقصود منه؛ لأن من يقول: إنها في جميع الناس، فهم ساداتهم وأطهرهم، ومن يقول: إنها في قريش، فهم خيرتهم بالنص، وساداتهم بالنصوص، بخلاف من عداهم؛ فالحق ما أجمعت عليه الأمة.
قلت: هذا الاستدلال بالإجماع غير كاف في الحصر، إلا مع انضمام مقدمة أخرى، وهي أن الإمامة مشتملة على ما لا يجوز تناوله إلا بدلالة قطعية؛ فلا بد في بيان منصبها من دلالة معلومة شرعية، والإجماع دليل على صحتها فيهم، ولا دليل على صحتها في غيرهم، مع عدم الاعتداد بقول الإمامية، وأهل الإرث من العباسية؛ لما علم من بطلانه.
وهذا الاستدلال /593(2/593)
بإجماع الأمة، وفيه ما فيه؛ لإمكان أن يُقال: شرعيّة الإمامة تكفي في صحتها في كل الأمة؛ فالأولى العدول إلى غيره من الأدلة التي تقدّمت، وأقواها خبر الثقلين ونحوه، وخبر ((الأئمة من قريش)).
وأما إجماع العترة(ع)، فلا كلام؛ مع أن النصوص في بيان المنصب معلومة.
قال الإمام (ع): أما الكلام على الخوارج، فهم كلاب النار، وشر الخلق والخليقة، المارقون؛ فأنى يعتد بخلافهم؟!.
وأما دعوى الإرث، فقريبة الميلاد، ولا دليل لهم؛ مع أن الإرث فيه نزاع كبير؛ وأيضاً فإنه ينقض عليهم إمامة المشائخ.
وأما الإمامية، فلا دليل، مع كونه مما تعم به البلوى؛ ولأن الصحابة تنازعوا يوم السقيفة، بما لا يجهله أحد، ثم سلمت الأنصار وغيرهم لقريش، وجرى ما جرى على أمير المؤمنين ومتابعيه.
وبهذا التقرير يعلم أن منصب الإمامة التي هي خلافة النبوة، وهي عهد الله وأمانته، من جنس قريش، إنما هي لآل النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ عترته الذين طهرهم الله تطهيراً، وجعلهم بالتشبيه كسفينة نوح، وباب حطة، وكان بهم بصيرا، ولهم نصيراً.
[بحث في خبر: ((لايزال هذا الأمر في قريش))]
هذا، وقد اختبط أهل الحديث في معنى قوله - صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم -: ((لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي منهم اثنان)).
قلت: أخرجه البخاري ومسلم.
قال: من حيث أن الأمر لم يبق فيه أحد من قريش، /594(2/594)
وعموا عَمَّا ملأ الأرض من أنوار العترة المرضية، والسلالة المصطفوية، من قيام قائمهم في كل بلاد، ولا سيما في الحجاز والعراق، واليمن وجيلان وديلمان، ظاهراً في أغوارها والأنجاد، مجدداً للشريعة بالسيوف الحداد؛ فما يمر عصر من العصور، إلا وقائمهم يدعو إلى كتاب الله وسنة رسوله - صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم - ظاهراً غير مستور، فتلزم إجابته كل خلق الله، وتظهر حجته على جميع عباد الله؛ فماذا علينا إذا تصامم من نسميهم بالخوارج، وتعمَّى عن أنوارهم من هو في الحقيقة عن الدين خارج؟ فما أنت بمسمع من في القبور؛ حتى ألجأتهم الضرورة إلى ما تنبه له ابن حجر.
قلت: أي العسقلاني في الفتح شرح البخاري، قال ما لفظه: فإن بالبلاد اليمنية ـ وهي النجود منها ـ طائفة من ذرية الحسن بن علي، لم تزل مملكة تلك البلاد معهم، من أواخر المائة الثالثة ـ وهو عهد الإمام الهادي إلى الحق ـ.
...إلى قوله: فبقي الأمر في قريش بقطر من الأقطار في الجملة، وكبير أولئك ـ أي أهل اليمن ـ يقال له: الإمام؛ ولا يتولى الإمامة فيهم، إلا من يكون عالماً متحرياً للعدل، انتهى.
وقد أوردته بلفظه، وليس في الفرائد كذلك.
قال إمام الأئمة، وفاتح باب الجنة، الإمام زيد بن علي (ع) ـ وقد كَسّل عليه بعض من عنده ـ: إنما أريد إقامة الحجة على هذه الأمة، ولو يوماً واحداً؛ لئلا يقولوا يوم القيامة: لم يأتنا أحد منهم.
وروى حديثاً في ذلك، هذا معنى كلامه؛ رواه في مناقب محمد بن سليمان الكوفي ـ رحمه الله ـ.
وحديث: ((لا يزال هذا الأمر... إلخ)) نظير الحديث الآخر: ((لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله، لا يضرّهم من خذلهم ولا من خالفهم، حتى يأتي أمر الله، وهم ظاهرون على الناس))، أخرجه البخاري ومسلم.
وفي بعض رواياته: ((يقاتلون على الحق... إلخ))، وفي بعضها: ((قوّامة على أمر الله))، وفي بعضها: ((يقاتلون عن هذا الدين، حتى يقاتل آخرهم المسيح الدجال))، الحديث بألفاظه وسياقاته.
فالإشارة التي في حديث قريش، والتي /595(2/595)
في أحاديث الطائفة والأوصاف، وقوله: ((قائمة بأمر الله))، وقوله: ((على الحق))، و((قوامة على أمر الله))، إنما هي إلى دينه ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ، وأمره، الذي جاء به من عند الله - سبحانه - والصفات كذلك، لا إلى من هو يخالفه؛ ولا يجوز صرف تلك الأحاديث النبوية، إلى ما عليه الظلمة الفجار، والجورة الأشرار.
وانظر إلى قوله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ وقد سُئل عن الجماعة ما هي؟ فقال: ((ما أنا عليه وأصحابي اليوم))؛ فقيدها - صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم - باليوم ـ يعني حياته صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ ما ذاك إلا لأمر عظيم، أعلمه به الخبير العليم، من اختلاف الصحابة، كما في الحديث المتفقة عليه الأمة، المتواتر، القطعي لفظاً، من ردّ بعضهم عن الحوض، وسوقهم إلى النار، وأخذهم إلى ذات الشمال، وأنّهم غيّروا وبدّلوا، وجوابه ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ عليهم: ((سحقاً سحقاً))؛ وقد تَصَلَّف مَنْ أَوَّلَ الحديث هذا بالمرتدين عن جملة الإسلام.
قلت: وتأويله ذلك لا يفيده شيئاً فيما يروم، كما هو معلوم.
قال: وقد كشف الله الحقيقة برواياتهم مثل لفظ: ((أصحابي أصحابي))، و((أصيحابي أصيحابي))، و((منكم))، و((من عرفني))، وغير ذلك، حتى روى البخاري أنه لا يخلص منهم إلا مثل همل النعم.
[أحاديث كون المجددين من العترة، ومخرجوها]
هذا، وحديث المجددين في رأس المائة السنة معروف عند الكل، ولهذا تَصْرِفُه كل فرقة إلى كبارها، وتعاموا أن التجديد إنما يقع ممن بهم فُتح وبهم خُتم، مع ما قد روي من طريق أحمد بن حنبل، وذكره السيوطي وغيرهما أن في حديث المجددين زيادة: ((من أهل بيتي)). /596(2/596)
وكما في حديث: ((يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله... إلخ))، وجاء من طريقهم أيضاً زيادة: ((من أهل بيتي))، ولفظه: ((في كل خلف من أمتي عدول من أهل بيتي، ينفون عن هذا الدين تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين؛ ألا وإن أئمتكم وفدكم إلى الله، فانظروا من تفدون))...إلخ.
قال الإمام شرف الدين: روى هذا الحديث أحمد بن حنبل، والحاكم في المستدرك، وغيرهما ممن ذكره في مجمع الزوائد، ورواه الملا في سيرته بلفظه.
قلت: وقد تقدم.
قال: وقوله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((إن عند كل بدعة يكاد بها الإسلام ولياً من أهل بيتي موكلاً، يعلن الحق وينوره، ويرد كيد الكائدين، فاعتبروا يا أولي الأبصار، وتوكلوا على الله))، رواه الإمام أبو طالب (ع)؛ وقد تقدم.
قال: وقد ذكر شارح عقيدة المتوكل على الله إسماعيل بن القاسم شطراً صالحاً من الأحاديث من كتب المحدثين؛ حتى قال: قال الزِّيلي الشافعي ـ رحمه الله ـ: وفي أحاديث التمسك بأهل البيت(ع) إشارة إلى عدم انقطاع متأهل منهم بالتمسك به إلى يوم القيامة، كما أن الكتاب العزيز كذلك؛ ولذا كانوا أماناً لأهل الأرض كما تقدم، وشهد لذلك الخبر الوارد: ((في كل خلف من أمتي عدول من أهل بيتي... إلخ)).
وساق كلاماً جيداً، ثم قال: ومن ذلك: حديث المهدي المنتظر، وأنه من أهل البيت (ع)، وذلك ما لا كلام فيه، ولا خلاف لأحد يعوّل عليه.
ومن ذلك: حديث المجددين من أهل البيت (ع)؛ فإن ذلك دليل كون بهم العصمة في كل وقت.
ذكر ذلك الشيخ جلال الدين الأسيوطي في كتابه مرقاة الصعود إلى سنن أبي داود، في شرح أول حديث من كتاب الملاحم، ما لفظه:
وأخرج أبو إسماعيل من طريق حميد بن زنجويه، قال: سمعت أحمد بن حنبل /597(2/597)