ابن عمر، والطبراني في الكبير عنه أيضاً.
والعجب من تخلّف ابن عمر مع روايته لهذا وغيره.
وقد روي تأسفه على تركه قتال الفئة الباغية معه، ونشره لفضائله (ع).
ممن روى ذلك: الإمام المنصور بالله، وابن عبد البر؛ وسيأتي ـ إن شاء الله ـ في ترجمته؛ والأعمال بخواتهما، وإلى الله ترجع الأمور.
وأخرج الطبراني في الكبير، عن ابن عمر قوله - صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم -: ((ألا أرضيك ياعلي؟ أنت أخي ووزيري، تقضي ديني، وتنجز موعدي، وتبريء ذمتي؛ فمن أحبك في حياة مني، فقد قضى نحبه؛ ومن أحبك في حياة منك بعدي، فقد ختم الله له بالأمن والإيمان، وآمنه يوم الفزع؛ ومن مات وهو يبغضك يا علي مات ميتة جاهلية، يحاسبه الله بما عمل في الإسلام)).
فهذه لمحة من بارق.
[كلام الإمام شرف الدين في الصحابة والعترة]
ولنعد إلى تمام كلام الإمام يحيى شرف الدين.
قال (ع): وغير هذا مما يوافق معناه، بما يكون بعده في حقه ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ، وحق أهل البيت، من انحراف أمته عنهم، وغمط حقه فيهم؛ بل حق الله ـ تعالى ـ عليهم، له ولهم، بوجوه كثيرة، منها: ما سنذكره في هذا الشرح، ومنها: ما لم نذكره، مما يلزم عن ذلك ملل الإسهاب، ومتعسر الإطناب.
فمما نذكره هنا: أنك قد عرفت أن أبا بكر لما وقع في أول خلافته خلاف /588(2/588)
العرب، وكانوا على ثلاثة أصناف ـ كما ذكره أهل الحديث ـ منهم: من ارتد عن الإسلام.
ومنهم: من منع الزكاة، وهم صنفان:
أحدهما: من اعتقد سقوط وجوب الزكاة بعده ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ.
والآخر: من لم يعتقد سقوط الوجوب.
قال الإمام محمد: فقال أبو بكر: والله، لا أفرق بين الصلاة والزكاة.
وحديث الثلاث الفرق مشهور.
وأما حديث عمار ـ رضي الله عنه ـ، فمتواتر عند الجميع من موالف ومخالف.
وقيل: امتنعوا من تسليمها، إلا إلى من يفيد النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ ولايته يوم الغدير؛ والله أعلم.
قال الإمام شرف الدين (ع): وهذان الصنفان لم يخرجوا من الإسلام؛ لقرب عهدهم به، وتأولهم فيما خالفوا من قواعده.
وحين أوجب وألزم أبو بكر قتالهم وحربهم اعترض عليه من الصحابة من اعترض بحديث: ((أمرت أن أقاتل الناس... إلخ)).
وأجاب أبو بكر: أن النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ قال في آخر الحديث: ((إلا بحقها))، ومن حقها سائر واجبات الإسلام، التي منها: الولاية، والحقوق، ونحوها إلى الإمام؛ وقال: والله لو منعوني...إلخ؛ فأذعن له كل الصحابة والمسلمين، وقاتلوا أولئك الأصناف أجمعين؛ ولم يختلفوا في ذلك الإلزام، ولا فصلوا بين التصريح والتأويل، والتكفير والتضليل، في معصية الإمام.
ولما أفضى الأمر إلى أمير المؤمنين (ع)، وظهر تصديق النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ مما جاء من خبر الغيب، 589(2/589)
عن الملك العلام، من قوله: ((إنك يا علي ستقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين))، وغير ذلك من أخبار الغيوب، التي ظهرت على يد أمير المؤمنين، من نحو: قوله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ لعمار: ((ستقتلك الفئة الباغية))، وغيرها من الآيات العظام، مال كثير عن علي (ع)، منهم: من نكث البيعة بعد لزومها، ومنهم: من زاد إلى ذلك المروق من أحكام الشريعة، ومنهم: من قسط وبغى، وأفرط في تقحمه على حدود الملة المحمدية، ومخالفته لهديها وعلومها، ومنهم: من تأخر، ومنهم: من تثبط وثبط في القيام مع الإمام (ع) في قتال الفئات المذكورة، وإجراء أحكام الله عليها، التي بينها في سنة نبيه ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ وعمومها، وجرى على ذلك أكثر الأمة إلى قيام الساعة وهجومها، مع كون الأحكام في حق علي أظهر، والبراهين في شأن عدوان المحاربين له أبين وأشهر؛ والتزموا من أجل ذلك لوازم، كانت قواعد لكل ضلالة إلى انتهاء الدنيا، مثل: تعديل الفساق والمنافقين، والبغاة والناكثين، وإيجاب طاعة الفجار المتغلبين...إلخ.
قال: فهذا أول ما نذكره من تصديق الرسول ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ من إخباره، فيما يجري من أكثر أمته، من الجفاء والعقوق، وغمط اللوازم والحقوق، في حق خليفته ووصيه، وأهل بيته وذريته، الذين هم حجة الله ـ سبحانه ـ على خلقه؛ وهم الأمة الوسطى، وهم الجماعة المأمور بملازمتهم ومن اتبعهم وعرف حقّهم؛ وهم سفينة النجاة، وقرناء كتاب الله العزيز إلى يوم القيامة، وهم باب حطّة الذي لا يؤمن مَنْ تخطّاه.
وقد عرفت حيفهم وميلهم عن أمير المؤمنين؛ للشبهة المرخصة في نكث بيعته، والخروج عن طاعته، والمفارقة لجماعته؛ ولم يلتفتوا إلى شيء من ذلك في حق من تقدمه من /590(2/590)
الخلفاء السابقين؛ بل سمعوا وأطاعوا، وقاتلوا وقتلوا أهل القبلة، وأهل لا إله إلا الله، وغيرهم ممن خرج من أي طاعة.
مع أن الخلفاء السابقين على أمير المؤمنين، لم يكن لهم من العلم والفضل والبيان لأحكام الله في فرق المخالفين والمحاربين، ما كان لأمير المؤمنين (ع) من ذلك؛ فإنه بين أحكام المحاربين وأنواعهم، ففرق بين الكفار والبغاة، وبين من له شوكة وفئة، ومن لم يكن، وبين من أخطأ بمجرد التقدم عليه مع مراعاة أحكام الشريعة، وبين من تعدى حدودها في خاصة نفسه، وعامة الإسلام والمسلمين، وبين من وقف على الطاعة، ومن أحرب وشق العصا؛ وغير ذلك، مما لو لم يكن بيان أمير المؤمنين فيه، كان مجهولاً في الإسلام، ومطموساً في شريعة الملك العلام،....إلى آخر كلامه (ع).
ثم ساق، حتى قال: فحين وقعت هذه الهفوة، أوجبت البعد من أهلها عن أهل البيت النبوي والجفوة، فنشأت من ذلك المفاسد، ولزوم الخلافات في المرادات والمقاصد؛ وكان أول الأمر أهون بتولي أبي بكر وعمر وأوائل خلافة عثمان، ومعرفة أمير المؤمنين ـ صلوات الله عليه ـ بمراعاتهم لقواعد الشريعة المطهرة، وإن أخطؤا في التقدم عليه وجفوته، وجفوة سيدة نساء العالمين، بإجماع المسلمين، إلا من لا اعتداد به من العالمين، في عقوق أهل بيت النبي الأمين صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم.
ورأى أمير المؤمنين السكوت لدفع الأعظم فتنة في الدين، وإن علم بلزوم مفاسد إلى يوم الدين.
ومن هنا حصلت العداوة والبغضاء، حتى جعلت عوضاً من المودة، التي أمر الله بها، وأنها أجر النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ على تبليغ الرسالة.
ثم ساق كلاماً شافياً؛ انتهى المراد. /591(2/591)
[بحث في الإمامة]
قال في الفرائد: فتقرر أن الإمامة هي عهد الله وأمانته، وأنها لإبراهيم، ثم ذريته الصالحين منهم، فلا ينال العهد من كان ظالماً؛ لهذا النص الذي لا يقبل فيه تأويل من ينبو قلبه عنه، ويتجاسر على تحريفه بالعناد، وإخراجه عن معناه الظاهر إلى غير المراد؛ ثم بإجماع المسلمين أنها انحصرت على رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ، وقد دلّ القرآن عليه: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا } [آل عمران:63]، مع قوله تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ } [الأحزاب:6]، والأولوية مطلقة، فتصدق في كل شيء؛ ثم قوله تعالى في غير ما آية: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ } [الأحزاب:6].
وذلك سنة الله في أنبيائه (ع) في إتباع أهليهم بهم، وتقديمهم على غيرهم؛ ولن تجد لسنة الله تبديلاً؛ ويكفي قوله: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29)} [طه]، قال: {سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ } [القصص:35].
وقد جاء عن رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ لعلي (ع) مثل هذا في أحاديث، وحديث المنزلة المعلوم عند الأمة: ((أنت مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه ليس بعدي نبي)) بألفاظه؛ وهي كثيرة.
وقد أقرّ الخصوم لعلي بالوزارة الخاصة بهذا الحديث والخلافة، مع ملاوذة منهم، وتمعذر معلوم بطلانه، وقد تقدم مع أحاديث صريحة في الوزارة كثيرة، متواتر معناها، وحديث الغدير، الذي قطع الخصوم بوقوعه.
وهو الحديث اليقين الكون قد قَطَعَتْ .... بكونه فرقةٌ كانت توهّيهِ
مثل: الذهبي، مع شدة شكيمته، ومنهم: المقبلي مع تعنته، فقال: لا أوضح منه دلالة ورواية، وإنه إذا لم يكن معلوماً فما في الدنيا معلوم، وإن الأولوية فيه صادقة في كل شيء، كما /592(2/592)