المقدس العلي ـ عز وجل ـ لابمعنى ولا أمر ولا مزيّة.
وليس هذا القول كقول أبي الحسين، فإنه يقول: الصفات أمور اعتبارية، وهي التعلق.
وقدماء الآل (ع) يقولون: هي الذات من حيث التعلق، لاالتعلق نفسه، وبينهما فرق واضح.
وعلى هذا فالمضاف هو المضاف إليه في قدرة الله وعلمه وجميع صفاته، كما في وجهه ونفسه وذاته، ونحو ذلك؛ فلا معنى لاعتراض بعض الأئمة المتأخرين على إمام الأئمة الهادي إلى الحق المبين (ع)، وقد ردّ عليه السيد الإمام، المحقق المفتي، صاحب البدر الساري ـ رضي الله عنه ـ وغيره؛ ولو حقق النظر، لما سطر ما سطر، ولكن لكل جواد كبوة، ولكل صارم نبوة.
[كلام أمير المؤمنين في صفات الله تعالى]
هذا، وإنما وقع فضل العناية بتحقيق الكلام، في هذا المقام؛ لاشتباهه على كثير من الأفهام، ولعظم محلّ هذا الأصل في معرفة الملك العلام، وكثرة النزاع في شأنه بين فرق الأنام.
وقد تحصلت المذاهب في صفات ذي الجلال، إلى عشرة أقوال، كما لخصها علماء الكلام:
القول الأول: أن صفاته ـ جل جلاله ـ ذاته على ما حققناه، وهو الواجب بجلال التوحيد، وجناب التمجيد، للرب المجيد، والذي قامت عليه البراهين.
وقد أبان ذلك إمام الموحدين، وسيد المتكلمين، وباب مدينة علم الرسول الأمين، صلوات الله عليهما وعلى آلهما الأكرمين.
قال ـ صلوات الله عليه ـ: أول الدين معرفته، وكمال معرفته التصديق به، وكمال التصديق به توحيده، وكمال توحيده الإخلاص له، وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه؛ لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف، وشهادة كل موصوف أنه غير الصفة؛ فمن وصف الله فقد قرنه، ومن قرنه فقد ثناه، ومن ثناه فقد جزأه، ومن جزأه فقد جهله.
إلى قوله: ومن قال: فيم؟ فقد ضمّنه؛ ومن قال: علام؟ فقد أخلى عنه؛ كائن لا عن /161(2/161)


حدث، موجود لا عن عدم...إلخ الخطبة الشريفة.
وقال ـ كرم الله وجهه ـ: مباين لجميع ما جرى من الصفات، وممتنع عن الإدراك بما ابتدع من تصريف الأدوات، وخارج بالكبرياء والعظمة من جميع تصرم الحالات.
وقال ـ سلام الله عليه ـ: فليست له صفة تُنال، ولا حد يُضْرَبُ له فيه الأمثال.
وقال ـ صلوات الله عليه ـ: كان إلاهاً حياً بلا حياة، وملكاً قبل أن ينشيء شيئاً، ومالكاً بعد إنشائه، وليس يكون له كيف ولا أين، ولا له حدّ يعرف، ولا شيء يشبهه؛ ولكن سميع بلا سمع، وبصير بلا بصر.
وقال ـ صلوات الله عليه ـ: ما وحده من كيَّفه، ولا حقيقتَه أصاب من مثَّله، ولا إياه عنى من شبَّهه، ولاصمده من أشار إليه وتوهمه؛ كل معروف بنفسه مصنوع، وكل قائم في سواه معلول.
إلى قوله ـ صلوات الله عليه ـ: وخرج بسلطان الامتناع من أن يؤثر فيه ما يؤثر في غيره؛ الذي لايحول ولا يزول، ولايجوز عليه الأفول.
إلى قوله ـ رضوان الله عليه ـ: ولا يوصف بشيء من الأجزاء؛ يقول ولا يلفظ، ويحفظ ولايتحفظ، ويريد ولايضمر؛ يحب ويرضى من غير رقّة، ويبغض ويغضب من غير مشقّة، يقول لما أراد كونه: كن؛ فيكون، لابصوت يقرع، ولا بنداء يسمع؛ وإنما كلامه ـ سبحانه ـ فعل منه أنشأه ومثله، ولم يكن من قبل ذلك كائناً، ولو كان قديماً لكان إلهاً ثانياً.
وقال ـ صلوات الله عليه ـ: الذي ابتدع الخلق على غير مثال امتثله، ولا مقدار احتذى عليه من خالق قبله؛ بل أرانا من ملكوت قدرته، وعجائب ما نطقت به آثار حكمته، واعتراف الحاجة من الخلق إلى أن يقيمهم بمساك قوته، ما دلنا باضطرار قيام الحجة له علينا على معرفته.
ومن خطبة له أخرى: ولم تحط به الصفات، فيكون /162(2/162)


بإدراكها إياه متناهياً؛ هو الله الذي ليس كمثله شيء، عن صفة المخلوقين متعالياً، وجل عن أن تناله الأبصار فيكون بالعيان موصوفاً، وارتفع عن أن تحوي كنه عظمته فهاهات رُويَّات المفكرين، وليس له مثل فيكون بالخلق مشبهاً، وما زال عند أهل المعرفة عن الأشباه والأنداد منزهاً.
إلى قوله ـ سلام الله عليه ـ: وكيف لما لايقدر قدره مقدار في رويَّات الأوهام؟؛ لأنه أجل من أن تحده ألباب البشر بتفكير، وهو أعلى من أن يكون له كفؤ فيشبه بنظير، فسبحانه وتعالى عن جهل المخلوقين، فسبحانه وتعالى عن إفك الجاهلين؛ فأين يتاه بأحدكم؟ وأين يدرِك ما لا يُدْرَك؟ والله المستعان.
وقال ـ رضوان الله عليه ـ: مَنْ وَصَفَه فقد شَبَّهَهُ، ومن لم يصفه فقد نفاه؛ وصفته أنه سميع، ولا صفة لسمعه.
وقال ـ رضوان الله عليه ـ: باينهم بصفته رباً، كما باينوه بحدوثهم خلقاً.
إلى غير ذلك من كلام سيد الوصيين؛ فهو مفجر علوم الدين، والمبين للأمة ما اختلفوا فيه بعد أخيه سيد النبيين؛ وفي كلامه هذا أعظم بيان، وأقوم برهان.
[من خطب أمير المؤمنين (ع)]
ولنورد هذا الفصل الأعظم، الذي هو شرح لمعنى قوله ـ عز وجل ـ: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ } [الأنعام:59].
من خطبته الكبرى، التي أقام فيها دلائل توحيد الله ـ تعالى ـ وآيات جلاله، وبينات برهانه، النيرات العظمى.
قال ـ صلوات الله عليه ـ: عالم السر من ضمائر المضمرين، ونجوى المتخافتين، وخواطر رجم الظنون، وعقد عزيمات اليقين، ومسارق إيماض الجفون، وما ضمته أكنان القلوب، وغيابات الغيوب، وما أصغت لاستراقه مصائخ الأسماع، ومصائف الذر، ومشاتي الهوام، ورجع الحنين من المولهات، وهمس الأقدام، ومنفتح الثمرة من ولائج غلف الأكمام، /163(2/163)


ومنقمع الوحوش من غيران الجبال وأوديتها، ومختبأ البعوض بين سوق الأشجار وألحيتها، ومغرز الأوراق من الأفنان، ومحطّ الأمشاج من مسارب الأصلاب، وناشئة الغيوم ومتلاحمها، ودرر قطر السحاب في متراكمها، وما تسفي الأعاصير بذيولها، وتعفر الأمطار بسيولها، وعرم نبات الأرض في كثبان الرمال، ومستقر ذوات الأجنحة في شناخيب الجبال، وتغريد ذوات المنطق في دياجير الأوكار، وما أوعبته الأصداف، وحضنت عليه أمواج البحار، وما غشيته سدفة ليل، أو ذر عليه شارق نهار، وما اعتقبت عليه أطباق الدياجير، وسبحات النور، وأثر كل خطوة، وحسّ كل حركة، ورجع كل كلمة، وتحريك كل شفة، ومستقر كل نسمة، ومثقال كل ذرة، وهماهم كل نفس هامة، وما عليها من ثمر شجرة، أو ساقط ورقة، أو قرار نطفة، أو نقاعة دم ومضغة، أو ناشئة خلق وسلالة؛ لم يلحقه في ذلك كُلْفَةٌ، ولا اعترضته في حفظ ما ابتدعه من خلقه عارضة، ولا اعتورته في تنفيذ الأمور وتدابير المخلوقين ملالة ولا فترة؛ بل نفذ فيهم علمه، وأحصاهم عده، ووسعهم عدله، وغمرهم فضله؛ مع تقصيرهم عن كنه ما هو أهله...إلخ.
وقبل هذا الكلام، في وصف ملكوت ذي الجلال والإكرام، الذي يجب أن يكون إليه قصد الناظرين، وتوجيه فكر المفكرين، ومنتهى اعتبار المعتبرين، وقد سقنا الفصلين لما فيهما من الموافقة للمقام، عند أولي الأفهام من الأنام.
قال ـ رضوان الله عليه ـ في وصف ملائكة الله المقربين ـ صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ـ: ثم خلق سبحانه لإسكان سماواته، وعمارة الصفيح الأعلى من ملكوته، خلقاً بديعاً من ملائكته، ملأبهم فروج فجاجها، وحشى بهم فتوق أجوائها؛ وبين فجوات تلك الفروج زَجَل المسبحين منهم في حضائر /164(2/164)


القدس، وسترات الحجب، وسرادقات المجد؛ ووراء ذلك الرجيج، الزلزلة والاضطراب، الذي تستك منه الأسماع، سبحات نورٍ تردع الأبصار عن بلوغها، فتقف خاسئة على حدودها؛ أنشأهم على صور مختلفات، وأقدار متفاوتات، أولي أجنحة تسبح جلال عزته، لاينتحلون ما ظهر في الخلق من صنعته، ولا يدَّعون أنهم يخلقون شيئاً مما انفرد به؛ بل عباد مكرمون، لايسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون؛ جعلهم الله فيما هنالك، أهل الأمانة على وحيه، وحمّلهم إلى المرسلين ودائع أمره ونهيه، وعصمهم من ريب الشبهات، فما منهم زائغ عن سبيل مرضاته، وأمدهم بفوائد المعونة، وأشعر قلوبهم تواضح إخبات السكينة، وفتح لهم أبواباً ذللاً إلى تماجيده، ونصب لهم مناراً واضحاً على أعلام توحيده؛ لم تثقلهم موصرات الآثام، ولم تحلهم عقب الليالي والأيام، ولم ترم الشكوك بنوازعها عزيمة إيمانهم، ولم تعترك الظنون على معاقد يقينهم.
إلى قوله، في وصفهم ـ صلوات الله عليهم ـ: ومنهم: مَنْ هو في خلق الغمام الدُّلَّح، وفي عظم الجبال الشمخ، وفي قترة الظلام الأبهم؛ ومنهم: من قد خرقت أقدامهم تخوم الأرض السفلى، فهي كرايات بيض قد نفذت في مخارق الهواء، وتحتها ريح هفافة تحبسها، حيث انتهت من الحدود المتناهية.
إلى قوله ـ رضوان الله عليه ـ: فهم أسراء إيمان، لم يفكهم من ربقته زيغ ولا عدول، ولا ونى ولافتور، وليس في أطباق السماء موضع إهاب، إلا وعليه ملك ساجد، أو ساعٍ حافد، يزدادون على طول الطاعة بربهم علماً، وتزداد عزة ربهم في قلوبهم عظماً.
إلى آخر ذلك الكلام الفائق، الذي لايحسن في وصفه إلا ماقاله الأعلام: هو فوق كلام المخلوق، ودون كلام الخالق.
وقد سقتُ هذا القدر منه لمحله في هذا الباب، ولاتخفى مواضع الحجة فيه على الناظر من أولي الألباب. /165(2/165)

9 / 151
ع
En
A+
A-