وأما قولك: اختارت قريش؛ فإن الله يقول: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ } [القصص:68]، وقد علمت أن الله ـ تعالى ـ اختار لخلقه من ذلك من اختار؛ فلو نظرت قريش من حيث نظر الله لها، لوفقت وأصابت.
فقال عمر: أبت قلوبكم يا بني هاشم إلا غشاً في أمر قريش لا يزول، وحقداً لا يحول.
فقال ابن عباس: مهلاً؛ فإن قلوبهم من قلب رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ الذي طهّره الله، وهم الذين قال الله فيهم: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33)} [الأحزاب:33].
وأما قولك: حقداً؛ فكيف لا يحقد من غُصِب شيئه، ويراه في يد غيره.
فقال عمر: أما أنت يا ابن عباس، فقد بلغني عنك أنك لا تزال تقول: أخذ هذا الأمر منا حسداً وظلماً.
فقال: أما قولك: حسداً؛ فقد حسد إبليس آدم فأخرجه من الجنة، وأما قولك: ظلماً؛ فأنت تعلم من هو صاحب الحق.
..إلى أن قال عمر: واهاً لابن عباس! ما رأيته لاحى أحداً إلا خصمه.
انتهى باختصار.
ورواه الطبري في تاريخه، وقال عمر: أحراهم والله إنْ وليها أن يحملهم على كتاب ربهم، وسنة نبيهم لصاحبك.
رواه ابن أبي الحديد، وأحمد بن يحيى ثعلب.
وروى أبو بكر الجوهري بسنده إلى ابن عباس، قال: مَرّ عمر بعلي وأنا معه، فمشيت مع عمر، فقال لي: يا ابن عباس، أما والله إن صاحبك لأولى الناس بالأمر بعد رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ.
وذكر ما رواه الواقدي /568(2/568)
عن ابن عباس من محاورة بين علي (ع) وعثمان.
فقال علي: أما عتيق، وابن الخطاب، فإن كانا أخذا ما جعله رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ فأنت أعلم بذلك والمسلمون.
انتهى باختصار.
وروى أبو بكر الأنباري في أماليه أن علياً جلس إلى عمر في المسجد؛ ثم قام، فعرض واحد بذكره، ونسبه إلى التيه.
فقال عمر: حق لمثله أن يتيه؛ والله، لولا سيفه لما قام عمود الإسلام؛ وهو بعد أقضى الأمة، وذو سابقتها، وذو شرفها.
فقال ذلك: فما منعكم منه؟
قال: كرهناه على حداثة سنه، وحبه بني عبد المطلب.
رواه ابن أبي الحديد في شرح النهج؛ فانظر إلى هذا الاعتذار البارد.
وأخرج ابن عساكر عن ابن عباس، قال: مشيت أنا وعمر بن الخطاب، في بعض أزقّة المدينة، فقال: يابن عباس، أظن القوم استصغروا صاحبكم، إذ لم يولوه أمورهم.
فقلت: والله ما استصغره رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ إذ اختاره لسورة براءة يقرؤها على أهل مكة.
فقال لي: الصواب أن تقول: لقد سمعت رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ يقول لعلي: ((من أحبك أحبني، ومن أحبني أحبه الله، ومن أحبه الله أدخله الجنة)).
وروى أبو الفرج الأصفهاني في الأغاني، وساق سنده إلى عمر أنه قال لابن عباس: إن أول من أزالكم عن هذا الأمر أبو بكر؛ إن قومكم كرهوا أن يجمعوا لكم الخلافة والنبوة.
قاله ابن أبي الحديد.
وروى الزبير بن بكار بسنده إلى ابن عباس ما قال عثمان في مخاطبته: ولقد علمت أن الأمر لكم، ولكن قومكم دفعوكم عنه، واختزلوه دونكم...إلخ؛ ذكره في شرح النهج.
[كلام المقداد في أمير المؤمنين (ع)]
وروى أبو بكر الجوهري بإسناده إلى المعروف بن سويد، قال: كنت أيام /569(2/569)
عثمان بالمدينة، أيام بويع عثمان، فرأيت رجلاً في المسجد جالساً، وهو يصفق بإحدى يديه على الأخرى، والناس حوله، ويقول: واعجباً من قريش واستئثارهم بهذا الأمر على أهل هذا البيت، معدن الفضل، ونجوم الأرض، ونور البلاد!، والله، إن فيهم رجلاً ما رأيت رجلاً بعد رسول الله - صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم - أولى منه بالحق، ولا أقضى بالعدل، ولا آمر بالمعروف، ولا أنهى عن المنكر.
فسألت عنه، فقيل: هذا المقداد.
فتقدمت إليه، فقلت: أصلحك الله، من الرجل الذي تذكر؟
فقال: ابن عم نبيك علي بن أبي طالب.
قال: فلبثت ما شاء الله، فلقيت أبا ذر، فحدثته ما قال المقداد.
فقال: صدق.
قلت: فما يمنعكم أن تجعلوا هذا الأمر فيهم؟
قال: أبى ذلك قومهم.
قال ـ أيده الله ـ: وما رواه أبو بكر عن ابن سويد من قول المقداد، روى نحوه عوانة، عن الشعبي، عن عبد الرحمن بن جندب بن عبدالله الأزدي، عن أبيه، وفيه: قال المقداد: أما والله، لقد تركت رجلاً من الذين يأمرون بالحق وبه يعدلون؛ أما والله، لو أن لي على قريش أعواناً لقاتلتهم قتالي إياهم ببدر وأحد.
فقال عبد الرحمن: أخاف أن تكون صاحب فتنة وفرقة؟
قال المقداد: من دعا إلى الحق وأهله وولاة الأمر لا يكون صاحب فتنة؛ ولكن من أقحم الناس في الباطل وآثر الهوى على الحق، فذلك صاحب الفتنة والفرقة.
قال: فتربّد وجه عبد الرحمن.
قال: وقول المقداد: لو أجد أعواناً على قريش لقاتلتهم قتالي إياهم ببدر، رواه المسعودي في مروج الذهب، وذكر محاورته لابن عوف من الإقبال، ورواه الطبري في تاريخه.
قال عمر لابن عباس: ما أرى صاحبك إلا مظلوماً.
قال: قلت: فاردد إليه ظلامته.
فمضى يهمهم، ثم وقف؛ ثم قال: يابن /570(2/570)
عباس: ما أظنهم منعهم عنه إلا أنه استصغره قومه.
قال: فقلت: والله، ما استصغره الله ورسوله حين أمره أن يأخذ براءة من صاحبك.
فأعرض عني...إلخ، رواه الزبير بن بكار في كتاب الموقفيات عن ابن عباس، ورواه أبو بكر الجوهري بإسناد رفعه إلى ابن عباس.
[كلام البراء في تمالي قريش على أهل بيت النبوة]
قال ابن أبي الحديد: وقال البراء بن عازب: لم أزل لبني هاشم محباً، فلما قبض رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ خفت أن تتمالى قريش على إخراج هذا الأمر عنهم، فأخذني ما يأخذ الواله العجول، مع ما في نفسي من الحزن لوفاة رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ، فكنت أتردد إلى بني هاشم، وهم عند النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ في الحجرة، وأتفقد وجوه قريش؛ فإني كذلك، إذْ فقدت أبا بكر وعمر، وإذا قائل يقول: القوم في سقيفة بني ساعدة.
وإذا آخر يقول: قد بويع أبو بكر.
فلم ألبث وإذا أنا بأبي بكر قد أقبل، ومعه عمر، وأبو عبيدة، وجماعة من أصحاب السقيفة، وهم محتجزون بالأزر الصنعانية، لا يمرون بأحد إلا خبطوه وقدموه، فمدوا يده فمسحوها على يد أبي بكر يبايعه، شاء ذلك أو أبى؛ فأنكرت عقلي، وخرجت أشتد حتى انتهيت إلى بني هاشم، والباب مغلق، فضربت عليهم الباب ضرباً عنيفاً، وقلت: قد بايع الناس لأبي بكر ابن أبي قحافة.
فقال العباس: تربت أيديكم إلى آخر الدهر؛ أما إني قد أمرتكم فعصيتموني.
فمكثت أكابد ما في نفسي.
...إلى آخر ما ساقه؛ وهذا الخبر رواه أبو بكر الجوهري بإسناده إلى أبي سعيد الخدري عن البراء بن عازب، وفيه زيادة.
قلت: ورواه المهلبي، وعمر بن شبه بإسناد رفعاه إلى أبي سعيد الخدري؛ أفاده في شرح النهج.
قال ـ أيده الله تعالى ـ: قال عمر لابن عباس: /571(2/571)
كيف خلفت ابن عمك ـ يعني علياً ـ؟
قال: خلفته يمتح بالغرب على نخيلات يقرأ القرآن.
قال: يا عبدالله، عليك دماء البدن إن كتمتنيها، هل بقي في نفسه شيء من أمر الخلافة؟
قلت: نعم.
قال: أيزعم أن رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ نص عليه؟
قال: قلت: نعم؛ وأزيدك، سألت أبي عما يدعيه؟ فقال: صدق.
فقال عمر: لقد كان من رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ في أمره ذرؤ من قول، لا يثبت حجة، ولا يقطع عذراً، ولقد كان يريع في أمره وقتاً ما؛ ولقد أراد في مرضه أن يصرح باسمه فمنعت من ذلك إشفاقاً وحيطة على الإسلام؛ لا ورب هذه البنية، لا تجتمع عليه قريش لو وليها...إلخ.
رواه أحمد بن طاهر صاحب كتاب تاريخ بغداد في كتابه مسنداً؛ ذكره ابن أبي الحديد.
انتهى المراد إيراده بتصرف.
قال الإمام (ع) في الفرائد: وفي هذا الخبر ما لا يخفى، وعلى فصوله شواهد قوية صحيحة.
أما قوله: ذرؤ من قول ـ الذرؤ: الطرف ـ فقد أقر له بالولاية يوم الغدير في قوله: أصبحت وأمسيت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة.
وأما قوله: ولقد أراد في مرضه، فشاهد ذلك الخبر الصحيح عند الجميع رواه البخاري ومسلم: ((ائتوني بدواة وقرطاس أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً)).
فقال عمر ذلك القول؛ كما قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ: إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله، وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب، لأن النبي - صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى.
نعم، فهل ورد فيه وفي صاحبه ذرؤ من القول في إقدامهما على مقام النبوة المستحق له غيرهما؟ فما هو؟ أم لا؟
لا سبيل إلى الأول؛ لأن المعلوم في حجاج يوم السقيفة عدم الإدلاء بشيء خاص بهما؛ وحينئذ، فما روي من طريق من /572(2/572)