قال ابن حجر العسقلاني في شرح البخاري: واستدل بحديث المنزلة على استحقاق علي ـ رضي الله عنه ـ للخلافة دون غيره من الصحابة.
وقال الطيبي: معنى الحديث: يتصل بي، نازل مني منزلة هارون من موسى، وفيه تشبيه مبهم بينه بقوله: ((إلا أنه لا نبي بعدي))، فعرف أن الاتصال المذكور بينهما ليس من جهة النبوة، بل من جهة ما دونها، وهو الخلافة.
ولما كان هارون، وهو المشبه به، إنما كان خليفة في حياة موسى دلّ ذلك على تخصيص خلافة علي (ع) للنبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ بحياته، انتهى.
فتأمّل هؤلاء العلماء، لما قهرهم البرهان، لم يجدوا بداً من القول به، لكن مع دغل في النفوس، بما زعموا من التخصيص؛ لأن النبي - صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم -، قال: ((بعدي)) وذلك يفيد بعد موته، ولأن طروء أمر على المشبه لم يطرأ على المشبه به مثله لا يضر.
وقد حرر الرد عليهم المنصور بالله (ع) في الشافي بما لا مزيد عليه.
قال (ع): ونقول: إنهم قد اعترفوا بما تمسك به الشيعة وقرروه؛ أما دعوى ابن حجر أنه لم يقع منه هذا اللفظ إلا في غزوة تبوك، فلا نسلم له؛ بل قاله في مواطن تسعة.
قلت: بل في أكثر من ذلك، وقد سبق ما فيه الكفاية.
قال (ع): على أنا لو سلمنا عدم وقوعه إلا بهذا السبب، فإنه لا يقصر على سببه، كما ذلك مقرر في علم الأصول؛ لأن الحجة هو الخطاب لا السبب، ولأن ذلك يصح منه ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ ابتداء من دون سبب.
...إلى قوله: /563(2/563)
المعلوم أنه لو عاش هارون، لكان خليفة موسى بلا نزاع؛ لأنه لم يعزله؛ على أنا نقول: إن قوله: ((بعدي))، يفيد تحقيق البعدية أن علياً (ع) سيعيش بعده، خليفة له، قائماً مقامه، إلا أنه غير نبي؛ فلما لم يستثن إلا النبوة، ثبت ما سواها من المنازل.
قال (ع) رداً على ما ذكره الشيخ صالح: وكل من له أدنى مسكة من عقل وإنصاف يعلم أن هذا دفع في وجه النص، وتمحل في تمشية ما فعل الصحابة من مخالفة هذا النص، الذي هنؤوا علياً به يوم ذاك، وهم من صميم العرب؛ فلا يتصوّر عدم معرفة المراد منه، ولهذا لم يعتذروا بتمحلات الفقيه وأسلافه، بل ورد عن أبي بكر وعمر وغيرهما ما ورد من اعترافهم بالنص، خصوصاً عمر، فإنه قد أكثر من ذلك.
فنقول: إذا قد تحلى علي بالنص فما بقي، فهلا وقف عنده، ورضي بخيرة الله ورسوله؟
نعم، الله ـ تعالى ـ ورسوله قد قضى ـ بمعنى أَمَرَ ـ بإقامة علي (ع) مقام الرسول ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ بالدليل الذي قرره الفقيه، وأقر به بقوله: وتحلى علي بالنص، وذلك خيرة الله ورسوله، وعملوا بخيرتهم.
وأما قوله: وبقية الخلفاء بالرضى من علي، فموضع النزاع؛ فهلم الدلالة عليه، وصحح لنا رضى علي، من غير رواية الداعية إلى مذهبك ممن يقول بمقالتك هذه؛ ولن تجد أبداً.
وأما جمعه للمهاجرين والأنصار، فلا يخلو إما أن يدعي إجماعهم، أولا؛ لا يصح له أن يدعيه، إذ هو ينكره في كتبه، ويبدع من ادعاه، فكفانا المؤنة؛ على أنه وإن ادعاه، فقد عجز عن تصحيحه من هو أشد منه شكيمة.
وأما قوله: وأطلق علي (ع) لهم التصرف، فمحل النزاع أيضاً، فهلم الدلالة عليه؛ بل صبر وفي العين قذى، وفي الحلق شجى، يرى تراثه نهباً؛ وقد /564(2/564)
اشتهر شهرة الشمس والقمر تَظَلّمه وتشكِّيه، وتجرمه منهم، هو وزوجته وأولاده وأشياعهم إلى الآن.
وإذا حققت النظر، وجمعت ما ورد في علي (ع) من كل لفظ يدل على الخلافة له، عرفت أنها تواردت على معنى واحد، وتضافرت على ذلك، وعلمت أن ذلك مقطوع به؛ ولم يبقَ إلا ما قاله أبو فراس ـ رحمه الله ـ:
تالله ما جهل الأقوام موضعها .... لكنّهم ستروا وجه الذي علموا
[اعتراف الصحابة بوجه النص في علي (ع) واعتذارهم بالمصلحة في عدولهم عنه]
ولقد أفصح عمر في اعتذاراته بأن تسنمهم لمقام رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ ليس إلا ما رأوه من المصلحة بزعمهم؛ فتداركوا الإسلام بمصلحتهم، وتناسوا ما ملأ أسماعهم وأبصارهم، من النصوص لعلي بمقام النبوة.
وجوابنا عليهم: قل أأنتم أعلم أم الله؟
ثم تعقب القول من عمر بإبطال إمامة صاحبه، بأن بيعته كانت فلتة، وأمر بقتل من عاد إلى مثلها، وببطلان إمامة أبي بكر تبطل إمامة عمر؛ لأنه أصلها.
قال (ع): ولقد صار سنة جارية عند الخصوم، ومن بهم تذبذب، أو لهم تعصب، يردون ما خالف أهويتهم في الصحابة؛ لئلا يلزم كفرهم بزعمهم، كما قال يحيى بن معين في رده لحديث مينا بن مينا، عن ابن مسعود في الاستخلاف، فقال: كيف يروي ما فيه تكفير الصحابة؟
أقول: بحثنا في تقرير المسألة لا في تكفير الناس، فمن كفر فإنما يكفر على نفسه، ومن ضلّ فإنما يضل عليها؛ ولو تركت أدلة الشرع الشريف، لأجل لا يكفر المخالف، لبطل ما جاء به الرسول ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ.
قال: غير أنا نقول: معاذ الله من اعتقاد تكفير مزيل للملة، كما قال الكميت ـ رحمه الله ـ بين يدي جعفر بن محمد، أو أبيه، أو جده (ع):/565(2/565)
ويوم الدوح دوح غدير خمّ .... أبان له الولاية لو أطيعا
ولكن الرجال تبايعوها .... ولم أرَ مثلها عرضاً مبيعا
ولم أبلغ بهم لعناً وذماً .... ولكن ساء أوّلهم صنيعا
إن ربك يحكم بينهم فيما كانوا فيه يختلفون.
قال: ولنعد إلى ما أشرنا إليه من اعتراف الصحابة بوجه النص؛ وإنما عدلوا عنه لأمور مصلحية بزعمهم؛ هذا أجمل ما يقال فيهم.
فمن ذلك ما روي من حديث عبد الرحمن بن عوف، أن أبا بكر قال له في مرض موته: إني لا آسى على شيء، إلا على ثلاث وددت أني لم أفعلها: وددت أني لم أكشف بيت فاطمة، وإن أغلق على الحرب.
والحديث طويل...إلى أن قال: أخرجه أبو عبيدة في كتاب الأموال، والعقيلي في الضعفاء، والطبراني في الكبير، وابن عساكر في تاريخه، وسعيد بن منصور، وقال: إنه حديث حسن.
قلت: ليته لم يفعل، ونحن، وكل مؤمن، والله نود ذلك؛ وكيف وفي البيت العصابة المطهرة النبوية، المفترضة مودتهم على كافة البرية، ومن الحق والقرآن معهم، ومن خلفهم الرسول ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ فيهم، وهو سائلهم عنهم، وفيهم بضعة رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ الزكية، التي يؤذيه ما يؤذيها، ويريبه ما يريبها، ويغضب الله ـ تعالى ـ لغضبها؛ فإنا لله وإنا إليه راجعون.
قال (ع): وليت شعري! ماذا يقال بكشف بيت بضعة الرسول، وسيدة النساء ـ سلام الله عليها ـ أهي رضيت أم غضبت؟
وقد أقر الذهبي ـ على /566(2/566)
تعنته ونصبه ـ بقصة إرادتهم الإحراق، وذكرها الطبراني، والواقدي، وابن عبد ربه في العقد، وغيرهم، أن عمر سعى للإحراق وتوعّدها.
ورواه الزبير بن بكار عن عمر باختلاف يسير، وفيه جواب ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ، وكيف لا يحقد من غُصب شيئه ويراه في يد غيره؟
وذكر آخره احتجاج قريش على الأنصار، بالقرب من رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ، واحتجاج العرب على العجم بذلك.
ثم قال: فنحن أحق برسول الله من سائر قريش.
وفيه قول عمر لابن عباس: ما رددتَ على أحد إلا غلبتَه.
انتهى المراد من الفرائد بتصرف.
[محاورة عمر لابن عباس حول استحقاق علي الخلافة]
قال ـ أيده الله تعالى ـ في تخريج الشافي: وروى ابن أبي الحديد، والطبراني، عن عمر أنه قال لابن عباس: أتدري ما منع الناس منكم؟
قال ابن عباس: ما هو؟
قال: كرهت أن يجتمع لكم النبوة والخلافة، فتجخفوا الناس؛ فاختارت قريش لأنفسها ووفقت وأصابت.
قال ابن عباس: أتميط عني غضبك فتسمع؟
قال: قلْ ما شئت.
قال: أما قولك: كرهت قريش؛ فإن الله قال لقوم: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (9)} [محمد].
وأما قولك: نجخف؛ فلو جخفنا بالخلافة جخفنا بالقرابة، ولكن أخلاقنا مشتقة من أخلاق رسول الله، قال الله: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)} [ن]، وقال له: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215)} [الشعراء]. /567(2/567)