الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ ينظر إلي الناس، كما ينظرون إلى الكوكب في أفق السماء؛ ثم غض مني الدهر فقرن بي فلاناً وفلاناً، ثم قُرنت بخمسة أمثلهم عثمان، فقلت: وا ذفراه...إلخ.
قلت: لقد أبلغ ـ سلام الله عليه ـ في التذكرة، وليس فوق ذلك أسوة ولا بعده عبرة.
قال الإمام محمد (ع) في الفرائد: وقد جمع حديث المناشدة نحواً من سبعين منقبة، وروي من طرق عدة قدح الحشوية في بعضها؛ ولكن أخرج الله الحق على ألسنتهم وهم كارهون بذكر المتابعات.
..إلى قوله: وهو حديث صحيح.
قال: وأما حديث خيبر، والطير، ودوران الحق والقرآن، بألفاظه عند الموالف والمخالف، فهي مشهورة عند الجميع، وغير ذلك مما لا يمكن حصره، كما اعترف به حفّاظ الحديث، من أنه لم يأت لأحد من الصحابة بالأسانيد الجياد ما أتى لعلي (ع)، منهم: ابن حنبل، والنسائي، وإسماعيل القاضي، وابن حجر العسقلاني، وغيرهم.
وفي الفرائد: هذا أحمد بن حنبل يقول، وقد سُئل عن الخلفاء الأربعة؟ فقال: أما علي، فقد زان الخلافة ولم تزنه، وأما غيره فقد زينته ولم يزنها.
وحكى ابن حجر في المنح ما نصه: وما أحسن قول حكم لعلي لما دخل الكوفة: والله، يا أمير المؤمنين لقد زينت الخلافة وما زينتك، ورفعتها وما رفعتك، وهي أحوج إليك منك إليها!.
وقال ابن الجوزي في تاريخه: أكثروا عند أحمد في خلافة أبي بكر وعلي، فرفع أحمد رأسه وقال: قد أكثرتم؛ إن علياً لم تزنه الخلافة ولكنه زانها.
قال ابن أبي الحديد: وهذا دال على أن غيره ازدان بالخلافة وتممت نقصه، وأن علياً لم يكن فيه نقص يحتاج إلى أن يُتمم بالخلافة...إلخ.
وملاك الأمر /553(2/553)
أن الله يصطفي ما يشاء ويختار؛ وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم.
[امتلاء الخافقين بفضائل علي (ع)]
ولقد قال بعض العلماء: إن علياً (ع) ملأت فضائله ومناقبه ما بين الخافقين، مع أن محبيه كتموا ما كتموا خيفة من أعداء الله ومبغضيه، حقاً أو لزوماً، كتموا ما كتموا غيظاً وحسداً، فظهر من بين الكتمين ما ملأ الخافقين؛ أبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون.
بخلاف غيره، فقد روى المدائني وغيره، ما صنع معاوية ومن بعده، في هدم فضائل علي (ع) وأهل بيته، وتشييد ما يعارض ما ورد فيهم، وافتعال أحاديث معارضة كل حديث روي لأهل البيت، وكان ذلك ولا قوة إلا بالله.
قلت: وقد تقدم ما ذكره المدائني، وابن نفطويه، وما يشهد له من كلام الباقر(ع)، ويصدّقه الواقع كما يعلمه الناظر.
قال (ع): فنقول: إنه ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ قد صرح وعرض، وبالغ وحذّر، وبشّر وأنذر؛ فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها؛ وما على الرسول إلا البلاغ المبين؛ فلم يترك ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ فيما نحن بصدده عبارة تفيد اختصاص أخيه علي بمقامه من بعده من جميع لغة العرب بما يفيد القطع البت، واليقين المثبت.
ومنها ما هو معلوم على انفراده عن غيره قطعاً، منها: لفظ مولى وولي وأولى، والوزارة الخاصة، والخلافة، وأمير المؤمنين، والإمام والسيد واليعسوب، وتشبيهه بهارون، وعيسى، وبكثير من الأنبياء، والمحبة الخاصة من الله ورسوله، ولله ورسوله، وأنه باب المدينة، وأنه لن يدخلكم في ضلال، ولن يخرجكم من هدى؛ أفمن يهدي /554(2/554)
إلى الحق أحق أن يتبع؛ وتوليته على بني هاشم، الذين هم رأس الناس، لما جمعهم في حديث: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214)} [الشعراء]، فقال: ((فاسمعوا له وأطيعوا))، وأنه لم يكن في سرية إلا كان رئيسها، ولم يولّ عليه أحداً.
على أنّا نقول: إن جميع الألفاظ المفيدة للاستخلاف والرئاسة العامة، قد وردت لعلي(ع)، وأقل الأحوال أنها تواردت على معنى واحد، وهو التواتر المعنوي؛ فكيف بحديث الغدير والمنزلة المتواترين لفظاً، لم تلبسون الحق بالباطل وقد عقلتم عن الله، وعن رسوله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ ما قررتموه من صحة النص بالأولوية المطلقة، وبأنه لا أوضح منه دلالة ورواية؟ وإذا لم يكن معلوماً فما في الدنيا معلوم؛ واضطر من له أدنى مسكة من دين وإنصاف، ممن لم ير النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ ولا سمع منه ذلك الموقف، فضلاً عمن رأى وسمع اللفظ، مع القرائن المفيدة للعلم اليقين، لفظية وحسية وعقلية، إلى فهم المراد وعرفان مقصوده؛ ولذلك هنأه كبار الصحابة، وقالوا فيه الأشعار من الولاية لكل مؤمن ومؤمنة.
قلت: وبراهين أهل بيت النبوة معلومة، مجمع على نقلها بين فرق الأمة؛ وما يتشبث به المخالف من الأقوال المضلة، والشبهات المضمحلة، متفرد بنقلها، ليس عليها أثارة من علم، ولا دلالة من كتاب ولا سنة؛ وما يستوي الأعمى والبصير، ولا الظلمات ولا النور، ولا الظل ولا الحرور.
ولقد اعترف في هذا المقام، فحول الأقوام، وأشدهم في مجال الخصام، مع شائبة محاماة وملاوذة عن الحق لاتخفى على ذوي الأفهام. /555(2/555)
[كلام المقبلي في الولاية، وتخريجه لخبر الغدير]
قال الشيخ صالح المقبلي في الإتحاف حاشيته على الكشاف من سورة الأحزاب، قوله تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ } [الأحزاب:6]،...الآية: إن الأولوية مطلقة، فتصدق حقيقة في كل أولوية، والظاهر التعميم للمقام، والدلائل لا تحصى؛ وكيف وهو بمنزلته من ربه، خالق العبد ومالكه؛ وفي الأحاديث ما هو في عموم الآية، ومنها ما هو نص في بعض ما دعى إلى بيانه.
أخرج البخاري، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، عن أبي هريرة، عن النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ، قال: ((ما من مؤمن إلا وأنا أولى الناس به في الدنيا والآخرة؛ اقرأوا إن شئتم: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ }))...الآية.
حتى قال: وأخرج ابن أبي شيبة، وأحمد، والنسائي، عن بريدة، قال: غزوت مع علي اليمن فرأيت منه جفوة، فلما قدمت على رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ ذكرت علياً فتنقصته؛ فرأيت وجه رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ تغيّر، فقال: ((يا بريدة، ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟)).
قلت: بلى يا رسول الله.
قال: ((من كنت مولاه فعلي مولاه)).
وبهذا الحديث وما في معناه تحتج الشيعة على أن مولى بمعنى أولى؛ لأن النبي - صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم - دلّ مساق كلامه أنه سوَّاه بنفسه، وإلا لما كان لمقدمة قوله: ((ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم)) معنى؛ فلم يرد مثل ولاية سائر المؤمنين بعضهم لبعض؛ بل معنى الأولوية في كل أمر، كما في حقه ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ.
ومن أشهر ما في الباب: حديث غدير خم؛ وقد عزاه السيوطي في الجامع الكبير إلى أحمد بن حنبل، والحاكم، وابن أبي شيبة، والطبراني، /556(2/556)
وابن ماجه، وابن قانع، والترمذي، والنسائي، والمقدسي، وابن أبي عاصم، والشيرازي، وابن عقدة، وأبي نعيم، وابن حبان، والخطيب، كل منهم من رواية صحابي فصاعداً؛ ذلك من حديث ابن عباس، وبريدة بن الحصيب، والبراء بن عازب، وعمر بن الخطاب، وحبشي بن جنادة، وأبي الطفيل، وزيد بن أرقم، وجرير بن عبدالله البجلي، وجندب الأنصاري، وسعد بن أبي وقاص، وزيد بن ثابت، وحذيفة بن أسيد الغفاري، وأبي أيوب الأنصاري، ومالك بن الحويرث، وحبيب بن بديل بن ورقاء، وقيس بن ثابت بن شراحيل الأنصاري، وعلي بن أبي طالب، وابن عمر، وأبي هريرة، وطلحة، وأنس بن مالك، وعمرو بن مرة.
وفي بعض روايات أحمد: عن علي، وثلاثة عشر رجلاً.
وفي رواية له، وللطبراني وللضياء المقدسي: عن أبي أيوب وجمع من الصحابة.
وفي رواية لابن أبي شيبة: عن أبي هريرة، واثني عشر من الصحابة، وفيها: ((اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه...إلخ)).
وفي رواية لأحمد، والطبراني، والمقدسي، عن علي، وزيد بن أرقم، وثلاثين رجلاً من الصحابة، ولفظه كما مَرّ: ((من كنت مولاه فعلي مولاه))، بعد ذكر المقدمة المذكورة.
وفي كثير من الروايات: ((اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه)).
وفي بعضها: ((وانصر من نصره، واخذل من خذله)).
ثم قال: لا أوضح من هذا الدليل رواية ودلالة على أن علياً (ع) أولى بالمؤمنين من أنفسهم.
..إلى قوله: وإذا ثبت أن علياً أولى بالمؤمنين من أنفسهم؛ فلم آثروا غيره بالإمارة، والأمير يصير أولى بالمؤمنين من أنفسهم، ورضي بذلك سادات الصحابة، وخير القرون، ووافقهم علي ووازرهم؟
وساق؛ ثم رجع في الجواب إلى الدعاوى المجردة عن البرهان، المردودة بنصوص السنة والقرآن، ومتواتر النقل الذي أجمع عليه /557(2/557)