قلت: وقد أشار إلى كلام العلامة السعد في شرح المقاصد، حيث قال: وما وقع من الصحابة من المشاجرات على الوجه المسطور في كتب التواريخ، والمذكور على ألسنة الثقات، يدل بظاهره على أن بعضهم قد حاد عن طريق الحق، وبلغ حد الظلم والفسق، وكان الباعث له الحقد والفساد، واللدد والعناد، وطلب الملك والرئاسة، والميل إلى اللذات والشهوات؛ إذْ ليس كل صحابي معصوماً، ولا كل من لقي النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ بالخير موسوماً.
...إلى قوله: وأما ما جرى بعدهم من الظلم على أهل البيت (ع) فمن الظهور بحيث لا مجال للإخفاء، ومن الشناعة بحيث لا اشتباه على الآراء، يكاد يشهد له الجماد والعجماء، وتبكي له الأرض والسماء، وتنهدّ منه الجبال، وتنشق منه الصخور، ويبقى سوء عمله على كرّ الشهور، ومرّ الدهور؛ فلعنة الله على من باشر أو رضي أو سعى، ولعذاب الآخرة أشد وأبقى.
فإن قلت: فمن علماء المذهب من لا يجوز اللعن على يزيد، مع علمهم بأنه يستحق ما يربو على ذلك ويزيد. قلت: تحاشياً من أن يرتقى إلى الأعلى فالأعلى.
..إلى قوله: وإلا فمن الذي يخفى عليه الجواب والاستحقاق؟ وكيف لا يقع عليه الاتفاق؟
قال الإمام محمد بن عبدالله (ع) في الفرائد: وفي كلام هذا العالم، وهكذا أمثاله، ممن صرح وعرض ولم يكتم، ومن تعصب أو تذبذب أو تلعثم، ما يستفرغ العجب؛ بينما هو يقرر وينطق، بملء فيه، أن من الصحابة من /543(2/543)


حاد عن الطريق وبلغ حد الظلم والفسق...إلخ، بحيث لا يمكنه تلافيه؛ إذ هو قد نكص على عقبه، ورجع إلى القهقرى في منقلبه، وجاء بأعذار سلفه وأضرابه.
...إلى قوله: فقال: تحامياً أن يرتقى إلى الأعلى إلى آخره؛ الله المستعان على ما تصفون.
..إلى قوله: بعد أن علموا من آيات يتلونها، وأحاديث يملونها، من أن الله ـ سبحانه ـ، ورسوله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ قد أخذ على العلماء خصوصاً، وعلى الكافة من المسلمين عموماً من القيام شهداء لله الآيتين.
..إلى أن قال: ومن الخصوم من روى أحاديث مفتراة، من أن الصحابة وإن زلّوا فهو مغفور لهم، ففرق بين الصحابة وبين من بعدهم، بترهات؛ قد قطع دابرهم القواطع عقلاً ونقلاً؛ ومنهم من زعم ألا يسأل عما شجر بينهم؛ وكم لهم من ترهات.
وكل ذلك لما رأوا أن النصوص قاضية على القطع بأن النص في علي (ع)، ورأوا أن أهل السقيفة لم يأتوا ببرهان إلا هذه الأعذار الباطلة، ودفعوا بها وجه النصوص؛ ثم قرر خلفهم عن سلفهم أنه لا يبحث عن مدلول تلك النصوص، التي رووها وصححوها وحسنّوها، بل كأنه لا مدلول لها؛ ومن طلب دلالتها نسبوه إلى الرفض، ووصفوه بأقبح الأوصاف.
قال: وكأنما صححوه وقرروه وعلموه عن أمر الله ورسوله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ في خليفته ووصيه، وأهل بيته، شيء فريٌ، أو نسي منسي؛ توارثوا ذلك خلفاً عن سلف.
قال (ع): فالمعلوم من الدين ضرورة وجوب القول بالحق، والقيام بالقسط، ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين؛ الله المستعان.
وهل للنبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ حاجة في رعاية من خرج عن طريقته، وسلك سبيل الضلال في مخالفته، وعادى أهل بيته؟
ألم يناد القرآن على أصحاب موسى (ع) بما جرى منهم، ولم يسكت عن نقير ولا قطمير؟
والله سبحانه أعلم /544(2/544)


منكم، وسنة الله في الآخرين كسنته في الأولين، بصرائح الآيات إن كنتم مؤمنين.
[ما ورد في أحداث الصحابة وغيرهم]
بل لم يراع الله أحداً من أصحاب النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ مما حدث منهم، كمثل: حاطب بن أبي بلتعة، نزلت فيه أول سورة الممتحنة، وعائشة وحفصة، نزل فيهما أول سورة التحريم، ونبه في آخرها بضرب المثال بامرأة نوح وامرأة لوط؛ ونزل في أصحاب الإفك إحدى عشرة آية، ونزل في جملة الصحابة في قصة يوم أحد ما نزل، وفي الثلاثة الذين خلفوا.
قلت: وفيهم من أهل بدر، وهو دليل قاطع معارض لحديث أهل بدر؛ فقد وقعت المؤاخذة لأهل بدر، ولم يغفر لهم حتى تابوا، مع أن في ذلك الخبر إغراءاً صريحاً لا يصدر من الحكيم ـ عز وجل ـ، فتدبر، والله ولي التوفيق.
قال: وعاتب الله الأنبياء (ع)، ونعى عليهم صغائر ذنوبهم ـ حتى سيد الرسل ـ في غير ما آية؛ فيا لها من مصيبة على من سكت عن القول بالحق!؛ هذه دسيسة تحتها حيات وعقارب من ضغائن وأهويات؛ وحبك للشيء يعمي ويصم.
ومثل: الذي أشار لبني قريضة فنزلت: {لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ } [الأنفال:27]، وما نزل في أبي بكر من المناهي. /545(2/545)


وفيه وفي عمر نزل أول سورة الحجرات: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(1) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ(2)} وسبب النزول: أن أبا بكر وعمر استشارهما النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ فيمن يرأس على بني تميم، فتشاقا بينهما ورفعا أصواتهما وجهرا...إلخ، فنزلت.
وهذا من رواية البخاري وغيره.
فإذا كان الله ـ سبحانه ـ، ورسوله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ نعى عليهما ذلك، وتوعدهما بإحباط عملهما، فما ظنك بغيرهما؛ الله المستعان.
ثم ذكر ما تعقب من النكث والقسط والمروق، وغير ذلك.
ثم قد أقروا بتواتر حديث الحوض معنى، وسوّغ لفظاً؛ وفيه من رواية البخاري: ((فلا أراه يخلص منهم إلا مثل همل النعم))، وكان جواب النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ في ذلك الموقف العظيم: ((فأقول: سحقاً سحقاً لمن غير وبدل)).
وذكر ما جعلوه أصلاً في قبول ما لا يجوز قبوله، من مجاريح الصحابة والمجهولين منهم، وخصوم أهل البيت (ع)، بل أعداء الرسول ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ الذين هم أعداء الله، وصحّح أهل البيت نفاقهم، وعدم إسلامهم؛ كل ذلك لما زيّن لهم الشيطان أن الصحابي من رأى النبي ـ صلى الله /546(2/546)


عليه وآله وسلم ـ وأنهم عدول بآية{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } [آل عمران:110]، وآية: {جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا } [البقرة:143]، وغير ذلك؛ وليس فيه دلالة قطعية ولا ظنية، على تعديل كل واحد من الصحابة؛ والاتفاق منا ومنهم على نفي عصمة كل فرد، وأن منهم من ارتد وقتل على ردته، ومنهم من فسق فسق تصريح، ومنهم مجروح العدالة بدون الفسق.
[كلام المقبلي على ابن حجر في تعديل مثل مروان]
وللمقبلي كلام مثل هذا في العلم الشامخ، عند قول ابن حجر، في ترجمة مروان: إذا ثبت صحبته، فلا يؤثر الطعن فيه:
وكأن الصحبة نبوة، وكأن الصحابي معصوم، وهو تقليد في التحقيق، بعد أن صارت عدالة الصحابي مسلمة عند الجمهور.
والحق أن المراد بذلك الغلبة فقط، وأن الثناء من الله، ومن رسوله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ، وهو الدليل على عدالتهم، لم يتناول الأفراد.
وساق، ثم قال: أين موضع أحاديث ((لا تدري ما أحدثوا بعدك))، وهي متواترة معنى، ولو ادعي في بعضها تواتر اللفظ لساغ؟
ثم قال: ألم يقل الله سبحانه: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا } [الحجرات:6]، في رجل متيقن صحبته، ولم تزل حاله مكشوفة مع الصحبة؟ ومنهم من شرب الخمر، وما لا يحصى فيما سكت عنه؛ رعاية لحق النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ ما لم يلجئ ملجيء ديني، فيجب ذكره؛ ومن أعظم الملجئات، ترتب شيء من الدين على رواية مثل /547(2/547)

84 / 151
ع
En
A+
A-