ما ذكره الجوهري في هذا الباب، وهو من رجال الحديث، ومن الثقات المأمونين؛ وقد ذكر غيره من هذا النحو ما لايحصى كثرة.
وقال فيه أيضاً: وهو عالم كثير الأدب، ورع، ثقة، مأمون عند المحدثين، أثنى عليه المحدثون.
وروى نحو ما سبق في الكامل المنير، وفيه: فقال علي (ع): أنصفوا من أنفسكم...إلى قوله: وأنتم تعلمون.
وفيه: الله الله يا معشر المهاجرين...إلى قوله: فتزدادوا من الله بعداً.
قال ـ أيده الله ـ: ورواه ابن جرير الطبري في تاريخه، انتهى.
فهذا طرف يسير مما روته العامة، دع عنك ما عند آل محمد (ع)، ومن أنصف عرف أن الأمر كما قال:
خفيت أحقاد بدر .... وبدت يوم السقيفهْ
فلهذا صيّر النا .... سُ أبا بكر خليفهْ
وقد ملأت أقوال الوصي ـ رضوان الله عليه ـ في هذا الشأن الصحائف، وأجمع على نقلها الموالف والمخالف، كما قال عالم المعتزلة شارح النهج:
واعلم أنها قد تواترت الأخبار عنه ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ بنحو هذا القول، نحو قوله: (ما زلت مظلوماً منذ قَبَضَ الله رسوله حتى يوم الناس هذا، وقوله: اللهم اجز قريشاً؛ فإنها منعتني حقي، وغصبتني أمري.
وقوله: فجزت قريشاً عني الجوازي؛ فإنهم ظلموني حقي، وغصبوني سلطان ابن أمي.
وقوله وقد سمع صارخاً ينادي أنا مظلوم، فقال: هلم فلنصرخ معاً فإني ما زلت مظلوماً.
وقوله: إنه يعلم أن محلي منها محل القطب من الرحا.
وقوله: أرى تراثي نهباً.
وقوله: أصغيا بإنائنا، وحملا الناس على رقابنا.
وقوله: إن لنا حقاً إن نعطه نأخذه، وإن نمنعه نركب أعجاز الإبل وإن طال السرى.
وقوله: ما زلت مستأثراً عليَّ مدفوعاً عما أستحقه وأستوجبه.
قلت: ونحو قوله (ع): حتى إذا قبض رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ رجع قوم على الأعقاب، وغالتهم السبل، واتكلوا على الولايج، /533(2/533)
ووصلوا غير الرحم، وهجروا السبب الذي أمروا بمودته، ونقلوا البناء عن رص أساسه، فبنوه في غير موضعه...إلخ.
وقوله: اللهم إني أستعديك على قريش، ومن أعانهم؛ فإنهم قطعوا رحمي، وصغروا عظيم منزلتي، وأجمعوا على منازعتي أمراً هو لي...إلخ.
قال الشارح: وقد رواه الناس كافة.
وقوله: فأغضيت على القذى...إلخ.
وقد روى كثير من المحدثين أنه عقيب يوم السقيفة تألم وتظلم، واستنجد واستصرخ، حيث ساموه الحضور للبيعة؛ وأنه قال وهو يشير إلى القبر: يا ابن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني؛ وأنه قال: وا جعفراه، ولا جعفر لي اليوم، وا حمزتاه ولا حمزة لي اليوم...إلخ.
وقال رجل ثقفي لعلي (ع) يوم الجمل: ما أعظم هذه الفتنة!!.
فقال علي (ع): وأي فتنة وأنا قائدها وأميرها؟ وإنما بدء الفتنة من يوم السقيفة، ثم يوم الشورى، ثم يوم الدار.
رواه أبو الحسين أحمد بن موسى الطبري.
[المتخلفون عن بيعة أبي بكر]
قال الإمام المنصور بالله (ع) في الشافي: لا خلاف بين الأمة أن أمير المؤمنين امتنع من البيعة، وذكر أنه أولى بهذا الأمر، وأن العباس بن عبد المطلب قال لأمير المؤمنين بعد وقوع العقد لأبي بكر: امدد يدك أبايعك، فيقول الناس: عمّ رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ بايع ابن أخيه؛ فلا يختلف عليك اثنان.
وليس هذا قول الراضي بالعقد الذي وقع.
ولا خلاف أن الزبير بن العوام قد امتنع من البيعة، وخرج شاهراً سيفه فكسروه.
ولا خلاف أيضاً أن خالد بن سعيد لما ورد من اليمن أظهر الخلاف، وحث بني هاشم، وبني أمية، على الخلاف، وقال: أرضيتم أن يلي عليكم تيمي؟
وقال أبو سفيان لأمير المؤمنين (ع): إن شئت ملأتها عليهم خيلاً ورجلاً.
وأمير المؤمنين (ع) قعد عنه، /534(2/534)
وقعد بنو هاشم أجمع، وامتنعوا من الحضور عنده، وأظهر سلمان النكير، وقال: كرديد، وبكرديد.
..إلى قوله (ع): وقد روى الثقات في هذه القضية.
قال: وهو أنه ممن تخلف عن بيعة أبي بكر: علي (ع)، والعباس بن عبد المطلب، والفضل بن العباس، والزبير بن العوام، وخالد بن سعيد، والمقداد بن الأسود، وسلمان الفارسي، وأبو ذر الغفاري، وعمار بن ياسر، والبراء بن عازب، وأبي بن كعب.
قلت: وكان أعيان المهاجرين والأنصار، وأرباب السبق منهم والفضيلة، والبشارات من الله على لسان رسوله، غير راضين بما جرى من خلاف رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ يوم الخميس، والرجوع عن الجيش الذي بعثه، وما تعقبه يوم السقيفة، ولا عادلين بأمير المؤمنين، وسيد المسلمين، ولا خارجين عن ولايته؛ قضت بذلك الأخبار الصحيحة، المتفق عليها المعلومة.
وقد ندم كثير على ما كان منهم يوم السقيفة من الفلتة؛ لا سيما الأنصار، كما وردت به الآثار.
وفي شرح النهج: وروى الزبير بن بكار ـ قلت: وهو من الزبيريين، وهم أهل انحراف ـ بسنده، قال: لما بويع أبو بكر واستقر الأمر، ندم قوم كثير من الأنصار على بيعته، ولامَ بعضهم بعضاً، وذكروا علي بن أبي طالب، وهتفوا باسمه، وأنه في داره لم يخرج إليهم، وجزع لذلك المهاجرون، وكثر في ذلك الكلام. /535(2/535)
[انتصار للأنصار من علي والفضل بن العباس]
ثم ذكر فروة بن عمرو، وكان ممن تخلف عن بيعة أبي بكر، وكان ممن جاهد مع رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ، وقاد فرسين في سبيل الله، وكان يتصدق من غلة نخله بألف وسق في كل عام، وكان سيداً؛ وهو من أصحاب علي، وممن شهد معه يوم الجمل.
ثم قال: إن رجالاً من سفهاء قريش، ومثيري الفتن، اجتمعوا إلى عمرو بن العاص.
ثم حكى كلاماً له في الأنصار.
قال: ثم التفت فرأى الفضل بن العباس.
..إلى قوله: فقال الفضل: يا عمرو، إنه ليس لنا أن نكتم ما سمعنا منك، وليس لنا أن نجيبك وأبو الحسن شاهد بالمدينة، إلا أن يأمرنا فنفعل.
ثم رجع الفضل إلى علي فحدثه، فغضب وشتم عمراً، وقال: آذى الله ورسوله.
ثم قام فأتى المسجد، فاجتمع إليه كثير من قريش وتكلم مغضباً.
..إلى قول علي (ع): من أحب الله ورسوله أحب الأنصار.
وقال للفضل: انصر الأنصار بلسانك ويدك؛ فإنهم منك وإنك منهم.
فقال الفضل:
قلتَ يا عمرو مقالاً فاحشاً .... إن تعد يا عمرو والله فلكْ
إنما الأنصار سيف قاطع .... من تصبه ظِبَة السيف هلكْ
وسيوف قاطع مضربها .... وسهام الله في يوم الحلكْ
نصروا الدين وآووا أهله .... منزل رحب ورزق مشتركْ
وإذا الحرب تلظّت نارها .... بركوا فيها إذا الموت بركْ
ثم حكى أبيات حسان بن ثابت، وقد بعثت إليه الأنصار، وقال له خزيمة بن ثابت ـ رضي الله عنه ـ: اذكر علياً وآله يكفك كل شيء، فقال: /536(2/536)
جزى الله عنا والجزاء بكفّه .... أبا حسن عنا ومن كأبي حسنْ
سبقتَ قريشاً بالذي أنت أهله .... فصدرك مشروح وقلبك ممتحنْ
ومنها:
حفظت رسول الله فينا وعهده .... إليك ومن أولى به منك من ومن؟
ألست أخاه في الهدى وابن عمه .... وأعلم منهم بالكتاب وبالسننْ؟
فحقك ما دامت بنجد وشيجة .... عظيم علينا ثم بعد على اليمنْ
ثم حكى ما دار بينهم في ذلك، ومنه قول بعض بني المطلب:
ما كنتُ أحسب أن الأمر منتقلٌ .... عن هاشم ثم عنها عن أبي حسن
الأبيات المشهورة.
ومنه قول لسان الأنصار وشاعرهم النعمان بن عجلان ـ قال: وكان سيداً فخماً ـ من قصيدة له:
وكان هوانا في علي وإنه .... لأهل لها ياعمرو من حيث لا تدري
وصي النبي المصطفى وابن عمه .... وقاتل فرسان الضلالة والكفرِ
...إلى آخرها.
وروى الجوهري عن علي بن سليمان النوفلي، قال: سمعت أبياً يقول: ذكر سعد بن عبادة يوماً علياً بعد يوم السقيفة، فذكر أمراً من أمره يوجب ولايته، فقال له ابنه قيس بن سعد: أنتَ سمعت رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ يقول هذا الكلام في علي بن أبي طالب، ثم تَطْلُب الخلافة، ويقول أصحابك: منا أمير ومنكم أمير؛ لا كلمتك والله من رأسي بعد هذا كلمة أبداً. /537(2/537)