بفضيلة عرفانك، وأوضحتَ لنا من الحق فلقه، وكشفتَ عنا من بهيم الباطل غسقه، وأثرت لنا من مثار السعادة معدناً، ورفعت لنا من يفاع السيادة موطناً، وشيّدت لنا في أعالي العلياء غرفاً، وأغدقت علينا من تكرمتك جلالاً وشرفاً، حيث جعلت نهار الدلالة آية، وليل الجهالة عماية، وميزتها لنا بعقول نيرة؛ فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة.
إلى قوله: هذا ولما منّ الله ـ جل جلاله ـ بكمال ما أردنا من تأليف كتاب لطيف، يتضمن الإحاطة بعلوم الاسلام جميعها، أصولها وفروعها، واستقصاء مسائل الخلاف، بين فرق الأمة، وأكابر الأئمة.
إلى قوله: استخرنا الله سبحانه، وحاولنا إظهار محاسنه، وتنقيح معادنه، بشرح يعتمد من أراد التحقيق عليه، ويرد ما شذ من الغرائب إليه، نستقصي فيه حجج الخصوم، ونوضح ما به روح الحق يقوم.
وقال فيه عند ذكر طبقات أهل العلم: فمعدنه ومركزه أهل البيت (ع)، إذ أخذوا علمهم عن أب وجد، حتى انتهى إلى علي (ع)، وهو باب مدينة العلم، فهم الذين أتوا المدينة من بابها دون غيرهم، ممن عُرِف بالعلم، الذي طريقه غير باب مدينته.
ولله المنصور بالله حيث يقول!:
ما بين قولي عن أبي عن جده .... وأبو أبي فهو النبي الهادي
وفتى يقول حكى لنا أشياخنا .... ما ذلك الإسناد من إسنادي
ومن ثَمّ حكمنا بأنهم أصل علوم الدين النبوي؛ لأنهم الذين أتوه من بابه.
إلى قوله: ولم يكثر أتباعهم كما كثر أتباع الفقهاء الأربعة، لما اجتهد الخلفاء الأموية والعباسية في إطفاء نورهم، وإماتة كلمتهم، وهم الذين ظهرت /156(2/156)


بسطتهم في الأرض، فأخافوا كل من تشهّر بمذهب سوى المذاهب الأربعة؛ أمر بذلك المأمون بن هارون، وجعل لكل مذهب من الأربعة مقاماً معروفاً عند البيت العتيق، ولم يجعل لأهل البيت مقاماً؛ ليموت ذكرهم، وينطمس نورهم؛ ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون.
وقال في وصف علم آل محمد (ع): فبارك الله عليه كما بارك على إبراهيم، حتى كاد يملأ الخافقين سناها، وينطح الفرقدين نماها؛ ولعمري، إن علمهم هو المأخوذ عن عيون صافية، نبعت من صدور زاكية، مجراها باب مدينة علوم الإسلام، ومنبعها من أخذ عن جبريل (ع)؛ ومن ثمة وصفهم جدهم بأنهم سفينة النجاة من العذاب، وجعلهم في كونهم الحجة قسيم الكتاب؛ فنسأل الله أن يهدينا بهديهم، وأن يستعملنا في حميد سعيهم، الذي ينالون به من رضاه حبوراً، وينخرطون في سلك من يقال له: إن هذا كان لكم جزاءً وكان سعيكم مشكوراً؛ وصلاته على سيد البشر، المشفع في المحشر، محمد المخصوص باللواء والكوثر، وعلى آله....إلخ.
[إجماع العترة على أن إمامة علي قطعية وواجبة المعرفة على الأعيان]
نعم، وقد ذكر الإمام (ع) في سياق أوصاف عمر بن عبد العزيز، أنه أول من ردّ فدك والعوالي إلى آل فاطمة، وهذا يقتضي خلاف القول بتصويب حكم أبي بكر؛ إذْ لا يصح أن يكون من الممادح نقض الحكم الصواب.
قلت: وقد سبق الكلام في رجوع الإمام يحيى عن التصويب، وما يفيده كلام الإمام المهدي (ع) في ذلك عن قريب.
هذا، واعلم أنها قد جرت عادة الكثير من الناظرين، بعدم التدبر لمقالات /157(2/157)


العلماء من موافقين ومخالفين، فتسبب عن ذلك الإفراط والتفريط، والخبط والتخليط، فترى البعض يشنّع فيما ليس الخلاف فيه إلا في التعبير، والبعض يصوّب في الأمر الخطير، ويتمحل للخصم بما لايرتضيه؛ بل لو اطلع عليه لأظهر غاية النكير، وكلا طرفي قصد الأمور ذميم؛ والمحجة الوسطى، والطريقة المثلى، الوقوف على الحقائق، والكشف عن مرام المخالف والموافق، والتثبت في جميع المداحض والمزالق، حتى يورد ويصدر عن نظر متين، وعلم مبين؛ وملاك الأمر كله خلوص المقاصد، وسلوك جادة الحق في المصادر والموارد؛ فإن الأمر شديد، ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد؛ والمسؤول منه ـ عز وجل ـ التثبيت والتسديد، إنه هو الرؤوف الرحيم، العليم الحكيم، ولا حول ولاقوة إلا بالله العلي العظيم.
[بحث عظيم في صفات رب العالمين، والإجماع على تنزيهه عن المعاني]
نعم، واعلم أن من أعظم ما دار فيه الخلاف، وتباينت فيه الأقوال، بين أهل التوحيد وبين غيرهم من فرق الضلال، مسائلَ صفات رب العالمين، ذي العظمة والجلال، وقد اتفق أهل التوحيد والعدل قاطبة من العترة (ع) والمعتزلة ومن وافقهم، على الشهادة له بما شهد به لنفسه، وشهد به ملائكة قدسه، وأولوا العلم من جنه وإنسه؛ شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائماً بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم؛ وعلى وصفه ـ جل وعلا ـ بما وصف /158(2/158)


به نفسه تعالى، من أنه القدير العليم الحي؛ اللطيف الخبير، الذي ليس كمثله شيء وهو السميع البصير؛ وأنه المختص بصفات الكمال، المضافة إلى الذات المقدس والأفعال، العدل الحكيم.
وعلى تنزيه الله ـ سبحانه وتعالى ـ عن المعاني الحقيقية، المقتضية للتعدد والمشاركة للقديم ـ جلّ وعلا ـ في الأزلية، التي هي في الشاهدِ الممكنِ القدرةُ، والعلم، والحياة، والوجود، وغيرها من المعاني الزائدات على الذات، وليست هذه المذكورة بالصفات، ولا الأحوال ولا المزايا ولا التعلقات، على اختلاف المصطلحات، التي تقول بها المعتزلة، كما يتوهمه من لا اطلاع له؛ وإنما هي عندهم مثلاً: القادرية، والعالمية؛ أي: كونه قادراً وعالماً ونحوهما؛ وجمهور أئمة العترة لايقولون بشيء من ذلك، كما هو معلوم، ومن صرائح نصوصهم مرسوم.
قال إمام المحققين الأعلام، الحسين بن القاسم بن محمد (ع)، في بحث النسخ من شرح الغاية: قلنا: لانسلم ثبوت العالمية، فإن ثبوتها فرع ثبوت الأحوال، والحال هو الواسطة بين الموجود والمعدوم، وهو عند الجماهير من أئمة أهل البيت (ع) وغيرهم باطل؛ لما علم بالضرورة من أن الموجود ماله تحقق، والمعدوم ماليس كذلك، ولا واسطة بين النفي والإثبات؛ ولذا قال بعض أئمة أهل البيت (ع) في وصف اعتقادات آبائه الصحيحة، من قصيدة طويلة:
لم يثبتوا صفة للذات زائدة .... ولا قضوا باقتضا حال لأحوال
/159(2/159)


انتهى المراد؛ وهذا البيت من الأبيات الفخرية، وقد تقدم.
هذا، ولهم في تقسيمها وكيفية استحقاقها كلام طويل، مبسوط في محلّه من الأصول، والخطب عند التحقيق في خلافهم يسير؛ فإن هذه الصفات الزائدات، التي يثبتونها، ليست عندهم بأشياء، ولا ذوات، ولامعلومات على الانفراد؛ وإنما الخلاف الخطير الكبير، بين أهل العدل وغيرهم كالأشعرية، المثبتين للمعاني القديمة الحقيقية.
والحق الذي عليه قدماء آل الرسول ـ صلوات الله عليهم ـ ومن وافقهم من علماء الأصول، وقضت به حجج المعقول والمنقول، أن صفات الله ـ جل جلاله ـ ذاته، والمعنى أنه ليس لله ـ سبحانه وتعالى ـ باعتبار هذه الصفات سواه، لامعنى ولا أمر ولا حال، ولاشيء غير ذي الجلال، بل الذات المقدس يوصف ـ عز وجل ـ من حيث انكشاف جميع المعلومات له وتعلق علمه بها عالماً، ومن حيث اقتداره على جميع المقدورات، وعدم امتناع شيء منها عليه قادراً؛ إلى آخرها.
[الكلام على الذات الواجب الوجود ـ وأن صفاته هي الذات]
فلما ترتب على الذات الواجب الوجود ـ جل وعلا ـ ما يترتب على الذوات والصفات في الشاهد؛ لكون ذوات غيره ـ سبحانه وتعالى ـ غير كافية في ثبوت الصفات؛ بل تحتاج إلى معنى يقوم بها، قالوا: صفاته ذاته ـ عز وجل ـ.
وليس المراد أن هناك ذاتاً وصفة حقيقة، كما يتوهمه مَنْ لم يرسخ علمه في هذه الطريقة؛ بل الذات المقدس وصفاته ـ عز وجل ـ عبارة عن شيء واحد بالحقيقة؛ والتغاير إنما هو باعتبار المفهوم؛ فعالم باعتبار تعلق الذات بالمعلومات من حيث كونها معلومات، وقادر كذلك من حيث كونها مقدورات، وهكذا سائرها، فالتعدد حقيقة في متعلق الصفات لافي الصفات، فليست إلا عبارة عن الذات، ومرجع الكلام عند التحقيق إلى إثبات مدلولات الصفات وثمراتها وآثارها بالذات/160(2/160)

8 / 151
ع
En
A+
A-