قلت: قال في السيرة: وكان بعد موته ـ يعني الإمام الناصر صلاح الدين محمد بن الإمام المهدي علي بن محمد (ع) ـ انضرب الناس في القائم بالأمر؛ وكان الناصر قد أشار إلى حي السيد الفاضل، علي بن أبي الفضائل، وأنه وليّ الأمر بعده؛ لمحله في الفضل.
إلى قوله: فطلبه الوزير، فطلبوا منه القيام بالأمر، فأجابهم: إن هذا الأمر يحتاج صاحبه إلى البصيرة الواقعة، والمقصود به وجه الله تعالى، وفينا من هو أوقع مني بصيرة ـ يشير إلى الإمام المهدي (ع) ـ.
فلما فهموا من السيد ترجيح جانب المهدي توقفوا، وكانوا غير طامعين في أن أحداً يجيبهم إلى قيام أي أولاد الإمام؛ لظهور قصورهم عن هذا الأمر، فوصلهم كتب من حي القاضي عبدالله بن حسن الدواري وغيره.
قال: وأوهم القاضي في كتابه، أنهم يريدون إقامة ولد الإمام، فمالت قلوب الوزراء إلى ذلك؛ فلما وصلوا، كان الكلام في ذلك منوطاً بالقاضي، فجعل يروض ذوي البصائر في صنعاء؛ للمساعدة إلى تقويم ولد الإمام، فأحضرهم، وأخذ رأيهم، فأظهروا الامتناع، فلما أيس منهم توقف؛ فلما علم بذلك السادة النبلاء، والفقهاء الفضلاء ـ أي علموا بما أراد القاضي، والوزراء ـ من إقامة ابن الإمام، انزعجوا أشد الانزعاج، وفزعوا إلى مَنْ يصلح من فضلاء أهل البيت.
ثم حكى معنى ما تقدم.
قال: فاجتمع العلماء، واستحضروا هؤلاء الثلاثة، وذكروا للناس ما قد اجتمع له أولئك الجماعة، من نصب علي بن صلاح.
[نموذج من ورع العترة عن تحمل أعباء الخلافة]
قال: وكان مولانا ـ يعني الإمام المهدي ـ أصغرهم سناً، كما بقل الشعر في وجهه ـ قلت: المروي أنه كان في ثمانية عشر عاماً ـ فأجاب السيد الأفضل الأورع، علي بن أبي الفضائل ـ وكان أكبرهم سناً ـ: أما أنا فمبتلى بالشك في الطهارة والصلاة، كما ترون.
إلى قوله: ومن كان على هذه/151(2/151)


الصفة لايصلح لهذا الأمر؛ لاحتياجه إلى النظر في أمر الأمة، وافتقاد الأمور، وهذا عذر واضح.
وقال السيد الناصر: هذا أمر، المقصود به رضوان الله، والقيام بالأحكام، كما يقتضيه الكتاب والسنة، أصولاً وفروعاً؛ وذلك لايتأتى إلا ممن قد اشتغل بعلوم الاجتهاد.
إلى قوله: وعندي أني قاصر عن هذه المرتبة.
ثم انتظروا ما يجيب به مولانا؛ فأجاب: بأني صغير السن، كما ترون، وهذا أمر لايصلح إلا ممن قد جرب الأمور، وساس الجمهور، وخاض في تدبير الدنيا وعلاجها، ورَدّ حيناً ورُدَّ عليه، فرَجَع إلى غيره ورُجِع إليه؛ وأنا لم يمض عليّ من السن ما يتسع لذلك.
إلى أن قال: فلست أصلح لذلك في هذه الحال.
فلم يقبلوا منه، وأجابوا عليه: بأنك ما تحتاج إليه من هذه الأمور، فنحن عندك.
إلى قولهم: ونحن لانفارقك ـ إن شاء الله تعالى ـ في شدة ولا رخاء.
قلت: انظر إلى كلام الهداة السابقين، القاصدين لرضاء الله ومطابقة أمره، وتقديم حقه، وطلب الدار الآخرة، والإعراض عن الأغراض والهوى، والتجافي عن زخرف الحياة الدنيا ومتاع الغرور، وتأثير الملك الخطير الباقي، على الملك الحقير الفاني، في هذا المقام، الذي صرعت عنده العقول، واستلبت فيه النفوس؛ فهذا منهاج أئمة الدين، وخلفاء سيد المرسلين، لايقوم القائم منهم إلا لتحتم الفرض، وتضيق الأمر، وتعين الحجة، عند ألاَّ يجد له مندوحة، ولاعنه معذرة؛ تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لايريدون علواً في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتقين.
نعم، وحكى صاحب السيرة: أن السيد الإمام علي بن أبي الفضائل قال /152(2/152)


للإمام (ع): إن أردت مني خدمة فرسك، أو سياسة جملك، لم تأنف نفسي عن القيام بذلك، طاعة لله، ولمن أوجب طاعته.
إلى آخر محاوراتهم، أعاد الله من بركاتهم.
قال: فلما أجمع رأيهم على إقامته، وحصلت منه الإجابة، بايعه السيدان المذكوران، ثم العلماء.
إلى قوله: فلما علم الوزراء باتفاق الفضلاء، أزمعوا إلى تعجيل البيعة لولد الإمام.
قلت: وهذا يدل على تقدم بيعة الإمام، وكلام السيد الإمام يدل على خلافه؛ وقد جمع صاحب مآثر الأبرار، أنهما لما وقعتا في يوم وليلة، تسومح في حكاية الترتيب.
قلت: وهذا لايفيد صحة الروايتين، ولكن لاثمرة للسبق إلا مع الكمال، هذا وقد حكى ذلك في البسامة حيث قال:
وكان بعد صلاح من حوادثها .... بحر اختلاف عظيم هائل خطرِ
قام الإمام علي بعد والده .... وأحمد بعد والهادي على الأثرِ
قال بعض شراحه: ومراده أنه إمام من جهة اللغة أو من جهة الجهاد.
قلت: والمراد بالهادي الإمام الهادي لدين الله علي بن المؤيد (ع).
قال:
وذاد عن مذهب الهادي أبو حسن .... وسعي أحمد فيه سعي معتبرِ
هذا إمام جهاد لا امتراء به .... وذا إمام اجتهاد ثاقب النظرِ
وكلهم سادة غرّ غطارفة .... بيض بَهَالِيْلُ فرَّاجون للعكر
والله يصفح عمن قد أتى زللاً .... فمن ترى في البرايا غير مفتقرِ
وكل عبد إلى مولاه مفتقر .... عند الفريقين أهل العدل والقدرِ
[مصنفات الإمام المهدي أحمد بن يحيى]
قال السيد الإمام ـ رضي الله عنه ـ: ومصنفاته واسعة، منها في أصول الدين /153(2/153)


ثمانية.
قلت: قد أفاد مؤلف سيرته بتعدادها على الترتيب هذا، وهو: الأول: نكت الفرائد، الثاني: شرحها، الثالث: كتاب القلائد ـ وبيّض للرابع، ولعله أراد الغايات، ولكنه في الحقيقة جامع لجميع شروح كتبه ـ الخامس: كتاب الملل والنحل، السادس: كتاب المنية والأمل، السابع: كتاب رياضة الأفهام، في لطيف الكلام، الثامن: كتاب دامغ الأوهام، في شرح رياضة الأفهام، وهو جزآن.
وفي أصول الفقه ثلاثة:
الأول: كتاب فائقة الفصول، في ضبط معاني جوهرة الأصول، الثاني: كتاب معيار العقول، في علم الأصول، الثالث: كتاب منهاج الأصول، شرح معيار العقول.
وفي علم العربية خمسة:
الأول: كتاب الكوكب الزاهر، شرح مقدمة ابن طاهر، الثاني: كتاب الشافية شرح معاني الكافية، الثالث: المكلل شرح المفصل، الرابع: تاج علوم الأدب، الخامس: كتاب إكليل التاج وجوهرة الوهاج.
وفي الفقه خمسة:
الأول: كتاب الأزهار في فقه الأئمة الأطهار، وصنّفه في الحبس، ولم يوضع بكاغد مدة سنين، وإنما حفظه السيد علي بن الهادي، ومولانا (ع) يملي عليه ما صححه لمذهب الهادي؛ الثاني: كتاب الغيث المدرار المفتح لكمائم الأزهار، الثالث: كتاب الأحكام المتضمن لفقه أئمة الإسلام.
قلت: وقد صار المشهور بالبحر الزخار، وفي الأصل هذا الاسم له، /154(2/154)


ولمقدماته المذكورة.
الرابع: كتاب الانتقاد للآيات المعتبرة في الاجتهاد.
وفي السنة: كتاب الأنوار الناصة على مسائل الأزهار ، والقمر النوار في الرد على المرخصين في الملاهي والمزمار.
وفي علم الطريقة: كتاب تكملة الأحكام، وكتاب حياة القلوب في عبادة علام الغيوب.
وفي الفرائض: كتاب الفائض، وكتاب القاموس.
وفي المنطق: القسطاس.
وفي التاريخ: الجواهر والدرر في سيرة سيد البشر، وشرحها يواقيت السير، وكتاب تزيين المجالس في قصص الصالحين، وكتاب مكنون العرائس.
وفي طبقات السيد الإمام ـ رضي الله عنه ـ ما نصه: كان فضله وعلمه الواسع، وانتفاع المسلمين به النفع البالغ، ليس لأحد من المسلمين مثله في العناية الإلهية، في بركة علمه ومصنفاته، التي هي كالطراز المُذْهب، وعليها اعتماد المذهب، على طريقة أهل الحقيقة والمجاز، التي هي بالمرتبة الثانية من حدّ الإعجاز، وكتاب الأزهار شاهد؛ فإنه على صغر حجمه سبعة وعشرون ألف مسألة منطوقها ومفهومها، انتهى المراد.
[افتتاح كتاب غايات الأفكار]
قال الإمام (ع) في مبتدأ شروحه، وهو غايات الأفكار:
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم إن أجلّ الثناء يقصر عن وصف جلالك، وأعظم الخضوع يقل عن إجلالك، وأوفر الشكر لايفي بعشير معشار إحسانك، كيف لا؟ وقد أكرمتنا /155(2/155)

7 / 151
ع
En
A+
A-