قال: وحينئذ لابد من معرفة السنة، ما هي، والبدعة، ما هي؛ ثم الحكم بأنها سنة وخلافها بدعة؛ مثل: مسألة الجبر، وما يلحق به، والإرجاء الذي يسمونه رجاء، تقولاً على اللغة؛ وكذا النصب والرفض، وما يلحق بهما، ومثل: الأذان بحي على خير العمل، والتثويب، وأمثال ذلك من مسائل الأصول والفروع؛ لا كون القائل بأي مسألة من الظنيات آثماً، أو غير آثم؛ إنما المراد الحكم بأن هذه المسألة سنة وخلافها بدعة، لا فيما يلزم القائل بها، أو ما يلزم له؛ فتأمل تصب.
...إلى قوله: وأيضاً، فإنهم ـ أعني أهل السنة ـ بزعمهم قد اضطربوا اضطراب الأرشية في الطوى البعيدة، فيما بينهم؛ لاختلافهم، إما للنفاسة والرئاسة، أو العقيدة؛ فترى من يقول منهم في رجل: إنه أمير المؤمنين في الحديث؛ وهو بعينه عند آخرين أكذب الكاذبين، وتتنوع لهم فيه النعوت والأوصاف، بالمدح والذم وعدم الائتلاف.
وهذا معلوم لمن نظر في كتبهم، في الجرح والتعديل.
[كلام المقبلي وصارم الدين في انحراف وتحامل المحدثين]
قال: وقد ذكر المقبلي في كل كتبه أن هذا صنيع أهل الحديث، وأنه لا ينبغي تقليدهم، ولا الاعتماد على أقاويلهم؛ وإنما يكون ذلك كالأمارة، فخذ ودع.
وتراهم يرمون غيرهم بالحجر والمدر، كأنهم الدراري والغرر.
وكما هو صنيعهم في أهل علم الكلام، من أنه بدعة أضرت بالأنام، ومخالف للسلف والصحابة الأعلام، وتجاهلوا ـ أو جهلوا ـ أن من هو باب مدينة العلم من يدور معه الحق حيثما دار، قد خاض في الأسماء والصفات، وفتح أبواب تلك المقفلات، وقد ملأت البسيطة أقواله وخطبه وكلامه؛ فهل بعده على من اهتدى بهديه من ملامة؟
غير أنه قد حصل من بعض المتكلمين من الغلو والتنافس، مثل ما قدمنا في أهل الحديث.
[الكلام على حقيقة التشيع والشيعي عند المحدثين]
وقال: أو لم يقرروا أن كل من تولى علياً، وأهل بيته ـ سلام الله عليهم ـ من دون تقديم على أبي بكر، وعمر ـ شيعي؛ وكل شيعي موصوم مذموم؛ ولهذا يقدحون في الحاكم، والنسائي، والشافعي، وأمثالهم. /451(2/451)
قلت: المروي عن يحيى بن معين أنه قال: طالعت كتاب الشافعي في السير، فوجدته لم يذكر إلا علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ.
فاستشهد بذلك أن الشافعي رافضي ـ صانه الله تعالى ـ وقد رواه عنه الإمام (ع) بصيغة الجزم.
وروى الإمام القاسم بن محمد (ع) عن السبكي في طبقاته، عن يحيى بن معين أنه قال: الشافعي ليس بثقة لما كان يتشيع، انتهى.
قال: وأما من قدم علياً (ع) في الإمامة والفضل فهو غال، ويطلق عليه رافضي.
وكذا من قدمه على عثمان، أو قدح في مثل معاوية وأتباعه، أو في بغاة الصحابة، أو ذكر أدنى وصمة، في أي صحابي، كما نقلنا عن ابن حجر في الفتح، والذهبي، وحكاه السيد محمد الأمير، والسيد حسن بن إسحاق ـ رحمه الله ـ، وكل ذلك ظاهر في كتبهم؛ وكيف، وابن العربي شارح الأحوذي قد قال: إن ابن ملجم ـ لعنه الله ـ قتل علياً باجتهاده بالإجماع...إلخ؟
وقال: إن الحسين بن علي (ع) قُتِلَ بسيف جده.
وكما في منهاج السنة لابن تيمية، فقد بالغ وأبلغ في تنقيص أمير المؤمنين ـ صلوات الله عليه ـ، وكذا الزيدية.
...إلى قوله: وابن حجر قال في صواعقه التي هوت به في النار: إن معاوية باغ على علي، ثم على الحسن (ع)، حتى نزل الحسن عن الخلافة؛ ولكنه غير آثم، بل مأجور؛ لأنه فعل باجتهاده...إلخ.
وقال: إن معاوية، وعمرو بن العاص مجتهدان أخطآ.
وكم نعد من كلماتهم؟
والكل من أقوال هؤلاء هو مذهب الحشوية النابتة، والجبرية القدرية.
قال: ولم تقع متابعة الهوى إلا في أيام الصحابة وتابعيهم، وأيام بني أمية؛ وقد نبه القرآن في غير ما آية كريمة مثل: {فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ } [الجاثية:17]، {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا } [آل عمران:105]، وما ورد في النهي عن التفرق؛ ومعلوم وقوع ذلك /452(2/452)
بين هذه الأمة كما في الأمم السابقة.
قال: ومعترك الأهوية، وظهور الضغائن ومتابعة الدنيا، ومتابعة ملوك بني أمية، إنما وقع في المتقدمين؛ فكم شاحح ولاحظ معاوية ومن بعده فيما يقدح به في أمير المؤمنين، وأهل بيته (ع)، وما يرفع به جانب عثمان خصوصاً، ثم أصحابه عموماً.
...إلى قوله: ثم انتقلت تلك الأحاديث إلى الديانين غالباً؛ وقد تمكنت الشبهة والجفوة للآل الأكرمين.
ثم نقل كلاماً لابن حجر العسقلاني في الجرح والتعديل مستشهداً به، وفيه: والآفة تدخل في هذا الفن تارة من الهوى، والغرض الفاسد، وكلام الثقة غير سالم من هذا غالباً، وتارة من المخالفة في العقائد، وهو موجود كثيراً قديماً وحديثاً؛ ولا ينبغي إطلاق الجرح بذلك.
ثم ساق مصطلحهم المتقدّم في التشيع، وأورد كلام السيد العلامة الحسن بن أحمد بن إسحاق في الرد على ابن تيمية، ومنه قوله: وهو أنهم جعلوا التشيع رأس كل بدعة في الدين، ثم قسموا الشيعة إلى فرق متعددة، حتى عدوا منهم فرقاً كفرية، بل صرّح الذهبي في بعض كتبه أن من يتولى علياً (ع) ويحبه، وأهل بيته، فهو شيعي؛ وكذا صرح شيخه مؤلف هذا الكتاب، فجعلوا مجرد توليهم، ومحبتهم بدعة، مع اتفاق الأمة على موالاة كل مؤمن.
قال الإمام محمد (ع): وهذا هو ما ذكره ابن الأثير في نهايته؛ لأنه قال ما نصه: وقد غلب هذا الاسم على كل من يتولى علياً ـ رضي الله عنه ـ، وأهل بيته، حتى صار لهم اسماً خاصاً؛ قال: وأصلها من المشايعة، وهي المتابعة والمطاوعة، انتهى.
قال: فقد تواصى الحشوية بهذا أولهم وآخرهم، وكل من يتولى علياً وأهل بيته، فإنه عدوّهم؛ لأن الله ـ تعالى ـ قابل التشيع بالعداوة في قصة موسى (ع): {هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى /453(2/453)
الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} [القصص:15]، وقال تعالى في قصة نوح: {وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ (83)} [الصافات].
ثم ساق الإمام من كلامه (ع) إلى قول الإمام: فهذا حاصل مذهبهم، وخلاصة معتقدهم؛ فكيف تقبل رواياتهم على أهل البيت وهم أعداؤهم؟
وقد جعلوا مجرد التشيع وصمة ينزهون كبارهم عنها؛ وذلك إنما هو مجرد حب علي من دون تقديمه أو تفضيله، أو من يقدح فيمن حاربه وعاداه، وهم يروون الذي في كتبهم: ((لا يحبه إلا مؤمن ولا يبغضه إلا منافق))، وأن حبه علامة الإيمان، وبغضه علامة النفاق؛ وغير ذلك من أحاديثهم.
وهذا المعنى وغيره مما حكموا به، متواتر، أو صحيح، أو حسن؛ دع ما لم يصححوه.
وقد جعلوا تقديمه أو تفضيله على المشائخ رفضاً وغلواً، فيكون كل أهل البيت روافض، ويلزم في النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ وحاشا مقامه، ومقام إلهه العزيز الكريم؛ لأنه ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ هو الذي قدمه وقربه وفضله.
...إلى قوله: ورووا فضائله، التي توجب عليهم تفضيله وتقديمه، ورووا أنه أمر علياً (ع) بقتال الناكثين، والقاسطين، والمارقين، وحديث عمار ـ رضي الله عنه ـ وأجمعوا على تواتره، بل إنه معلوم ضرورة، وفيه أن معاوية، وأتباعه الفئة الباغية، يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار؛ وحديث الغدير وفيه: ((اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه)) وحديث المحاربة، وأمثال ذلك؛ فأنى تؤفكون؟
ولا عجب، فقد أصيبوا بـ((اخذل من خذله)).
وساق كلاماً قد سبق في صدر الكتاب.
[ذكر جماعة من النواصب اعتمدهم البخاري]
قال (ع): وقد رأيت أن أنقل هنا ما أورده الإمام القاسم بن محمد (ع) في بحث ما روي عن الإمام الهادي (ع) في البخاري، ومسلم، وقد ذكر أنهم عمموا تعديل الصحابة، ورووا عن بغاتهم وأمثالهم، ممن اشتهر وظهر عنه بغض /454(2/454)
الآل، ونصب العداوة لهم.
حتى قال: ولم يرووا عمن يرتضى دينه إلا أقل مما رووا عمن ذكرنا، مع وسائط ممن يرى سبّ أمير المؤمنين، كعمرو بن شعيب، وآبائه وأضرابهم ـ لعنهم الله ـ، وممن كان يعلن ببغاضة أمير المؤمنين ـ صلوات الله عليه ـ ويتجارى على الله بالكذب، وعلى رسوله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ كعكرمة، مولى ابن عباس.
قلت: تقدم الكلام على عكرمة وغيره.
قال: واعتمدوا على رواية كثير ممن عرف بالنصب كحريز بن عثمان الحمصي؛ فإن البخاري اعتمد على روايته.
قلت: قد بسط الكلام في شأن هذا المارق المنافق في شرح نهج البلاغة.
قال السيد العلامة، محمد بن عقيل، في العتب الجميل ـ أحسن الله جزاءه ـ بعد أن ساق بعض مخازيه: وقد تجشمت الإطالة، نصحاً لله ولرسوله؛ ليحذر الحريص على دينه دسائس المنافقين، ويدقق البحث، ولا يغتر بقولهم: ثقة، ثبت، صاحب سنة...إلخ؛ فإن أمثال هذا الإطراء منهم يكال جزافاً لكلاب النار، والفجار المنافقين، الوضاعين المبدلين للدين.
ومما تقدم نقله تعرف أن حريز بن عثمان فاجر منافق وضاع، مبغض لعلي (ع) مجاهر بذلك، وبأنه لا يحبه، بل يشيد بسبه.
قلت: رووا أنه كان يقول: لا أحبه، قتل آبائي ـ يعني علياً ـ.
قال: ويخترع الأحاديث في تنقيصه، وهو مع ذلك سفياني، داعية إلى مذهبه الممقوت؛ وادعاؤه سماع ذلك البهتان من طاغيته الوليد، أو احتمال إمكان ذلك، عذر غير مقبول، وإن كان الشياطين يوحي بعضهم إلى بعض.
قلت: وهذا البهتان المشار إليه، هو ما رووه عنه أنه قال: هذا الذي يرويه الناس عن النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ أنه قال لعلي: ((أنت مني بمنزلة هارون من موسى)) حق؛ ولكن أخطأ السامع.
قلت: فما هو؟
قال: إنما /455(2/455)