تسمع إلى حديثي؟ أحدثكم عن رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ ولا تسمع؟!
فقال ابن عباس: إنا كنا مرة إذا سمعنا رجلاً يقول: قال رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ ابتدرته أبصارنا، وأصغينا أسماعنا؛ فلما ركب الناس الصعبة والذلول، لم نأخذ من الناس إلا ما نعرف.
ومما أجاب به أهل المنع: ما ذكره ابن الإمام (ع) في شرح الغاية، حيث قال: وذلك لأنه لم يثبت أن أحداً من هؤلاء المتأولين أقام شهادة، أو روى خبراً عند من يعتقد فسقه؛ وظهر ذلك ظهوراً يقتضي أن ينقل ما جرى فيه، من ردٍ أو قبول، فقولهم: لو رد شيء من ذلك لنقل غير صحيح؛ لأن وجوب نقله مترتب على وقوعه.
فما لم يقع، كيف يجب نقل رده أو قبوله؟
ولو سلم وقوعه، فلا نسلم أن رده لم ينقل؛ كيف، وقد روى مسلم في صدر صحيحه عن ابن سيرين، قال: لم يكونوا يسألون عن الإسناد؛ فلما وقعت الفتنة، قالوا: سموا لنا رجالكم؛ فينظر إلى أهل السنة، فيؤخذ حديثهم، وينظر إلى أهل الابتداع، فلا يؤخذ حديثهم...إلى آخر كلامه.
والمسألة مستوفاة في محلها من الأصول؛ وفي رسالتنا المسماة إيضاح الدلالة زيادة تحقيق، والله تعالى ولي التوفيق.
[دوران الكلام إلى الخوض في المجروحين من الصحابة ونحوهم]
واعلم أنها عظمت الفتنة، وجلت المحنة، من أجل هذا التأصيل، ولم يتوقف الكثير على ما زعموه من قبول أهل التأويل؛ بل تعدى الحال، وتجاوز المجال، إلى قبول أهل الفسوق الصريح، والفجور القبيح، والاختلال، ومن وردت النصوص النبوية، المتواترة الضرورية، بكونهم منافقين، ومارقين عن الدين، مع أنه متفق على رد المصرحين، بإجماع المسلمين.
وقد أسلفنا من الكلام على هذا ونحوه ما فيه بلاغ لقوم عابدين.
ولله الإمام المتوكل على الله يحيى شرف الدين، حيث قال في سياق كلام ما لفظه: اعلم أن كلاً من الفرق قد روى في مذهبه كثيراً الذي يصح عنده، ولا يصح عند غيره.
وساق في كلام المحدثين في النقد حتى في رجال الصحيحين، حتى قال: ولم يلجئ أول من عني بهذه الشبهة المضلّة، إلا كراهة أمير المؤمنين (ع)، وكراهة أهل بيته ـ عليهم /438(2/438)


السلام ـ حين عرف أنه إن لم تتم لهم هذه الشبهة، لم يبقَ لهم أي طريق في عدم تفسيق من خالفه، وخالف أهل البيت، ولا أي ترخيص في الخروج عن سننهم القويم، وصراطهم المستقيم؛ فإنه لم يكن لهم طريق يدلون بها في هذه المذاهب الباطلة، إلا ما كان من رواية المجروحين من الصحابة، أو من اعتمد على أحاديثهم، وبنى على تعديلهم.
ثم قال (ع): فاعلم أنه لا يعتمد على شيء من الحديث.
قلت: أي من رواية المخالفين.
قال: إلا ما ثبت تواتره لفظاً أو معنى، أو ثبت تلقيه بالقبول من الأمة؛ لا سيما أهل الحل والعقد من أهل البيت (ع)، الذين هم قرناء الكتاب، والأمان لأهل الأرض.
ثم ذكر موجب ذلك، وأنهم حجة الإجماع، وذلك المذكور ـ يعني المتواتر، أو المتلقى بالقبول، أو الصحيح المقيدين بما ذكرنا ـ قليل جداً؛ وسائر الأحاديث إنما يذكرها من يذكرها، إما استظهاراً بها مع ظاهر قرآن أو سنة صحيحة، أو اشتهار بضم بعض إلى بعض من المحتملات، أو تقوية قياس ثبت به الحكم في المسألة، أو زيادة ترغيب في طاعة، أو ترهيب عن معصية، أو قطع حجاج خصم يقول بقبول مثل ذلك الحديث الذي لا يقول به المورد له والمحتج به، أو لبيان فساد مثل ذلك الحديث؛ لمخالفته القاطع من عقل أو نقل؛ أو صحيح من نقل، أو غير ذلك من الأغراض الصحيحة.
وحين تحقق هذه القواعد تعرف أن طرق أهل البيت (ع) في أمر الأحاديث أصحّ الطرق، وأحق التخاريج، من حيث سلامتها مما لحق غيرها، من فساد في الأصول والفروع، من حيث ما ورد فيهم من البراهين القاضية بتفضيلهم، مجتمعين ومفترقين؛ ولكون إجماعهم حجة قطعية، ومن أجل أنهم بيت النبوة، والأخصون بما لم يخص به غيرهم، وصاحب البيت أدرى بالذي فيه.
انتهى المراد من كلامه (ع) [يعني شرف الدين].
وقد اخترت إيراده؛ لجريه على منهج الحق والتحقيق، ولكونه من المعتمد عليهم في الأسانيد؛ فيقف المطلع على مختاره في هذه الطريق؛ وله كلام، /439(2/439)


أبسط مما ذكرنا في هذا المقام.
وقد سبق لنا بحث في ردّ التأويل والاحتمال، المدعى لمخالفي البراهين القاطعة من أرباب الضلال؛ وهو الذي نطق به الكتاب والسنة، وصرح به نجوم الأئمة، وهداة الأمة.
[الكلام على عدم قبول رواية فاسق التأويل]
واعلم ـ وفقنا الله تعالى وإياك ـ أيها الثاقب الفهم، الثابت القدم، المطرح لهواه، المتحري لرضاء مولاه، أن الموجب لتكرار الكلام، في أبحاث هذا المقام، هو كونها عمدة في أحكام دين الإسلام، وعليها مدار وأي مدار، في تبليغ الأخبار، عن ربنا الملك العلام، على لسان رسوله سيد الأنام، عليه وآله أفضل الصلاة والسلام.
وكان معظم البحث في شأن المحاربين لإمام المتقين، وقائد الغر المحجلين، أمير المؤمنين، وسيد الوصيين، وأخي سيد النبيين ـ صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ـ وإن كان الخلاف فيهم وفي غيرهم، من المبتدعين الضالين، المخالفين لقواعد العدل والتوحيد، ومسائل النبوة والإمامة والوعد والوعيد، وجميع قواطع الدين، التي لم يعذر الله فيها أحداً من المكلفين؛ لأنهم مصدر الفتنة، ومنهم معظم المحنة، في لبس الحق بالباطل، والصدق بالكذب، ودعوى كون الجميع سنة؛ ولكونهم أصل كل خلاف وفساد في الدين، كما هو معلوم للمطلعين، مسلّم عند العلماء العاملين.
فأقول وبالله أصول:
إن القابلين لمن هم بزعمهم من المتأولين، كالمحاربين لأمير المؤمنين، وأهل بيته المطهرين ـ عليهم الصلاة والسلام ـ طائفتان:
أما الطائفة الأولى: فهم موافقون في الحكم بما قضت به البراهين، على أولئك المحاربين، من الناكثين والقاسطين والمارقين، وغيرهم من المخالفين، في قواعد الدين، وحاكمون بضلالهم وفسقهم، بل وكفر بعضهم، وكونهم غير معذورين.
قالوا: ولكن من كان منهم مدلياً بشبهة، وهو المتأول، لم تبطل الثقة، وظن الصدق بخبره، ولكون ذلك الفسق والكفر مظنة تهمة، لا سلب أهلية؛ فمن ظن صدقه وجب قبوله، وهو المعتمد في القبول، كما هو مذكور في الأصول.
وهذا هو المسمى عندهم بفاسق التأويل، إنْ أقدم على ما يوجب الفسق، وكافره /440(2/440)


إن أقدم على ما يوجب الكفر؛ ويسمونه أيضاً عدل الرواية لا الديانة؛ وإلى هذا ذهب من يقبلهم من العدلية.
ولكن أهل العرفان منهم والتحقيق، لم يقبلوا من تبين من أمره التمرد والعناد، والسعي في الأرض بالفساد، كما قدمنا عن الإمام المؤيد بالله، والأمير الحسين (ع)، وغيرهما من القابلين جرحهم لبعض من مال إلى جانب معاوية، فكيف بذلك المارد الطاغية؟!!.
وقد صرح الإمام المؤيد بالله في شرح التجريد برد روايته، وسقوط عدالته؛ وكيف لا، وهو إمام الفئة الباغية، الداعية إلى النار، في متواتر الأخبار؟
هذا، ونقول في الجواب عليهم: المقدمتان ممنوعتان:
أما الأولى: فكيف بقاء الثقة بمن وردت النصوص القاطعة عن الله - تعالى -، وعن رسوله - صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم - ببغيهم في دين الله - تعالى - وخروجهم عن أمر الله - تعالى -، ومروقهم ونفاقهم، وفسقهم وشقاقهم، وكونهم حرباً لله - تعالى - ولرسوله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ.
قد أوجب الله ـ تعالى ـ قتالهم، وأباح دماءهم وأموالهم؛ وهذا لا نزاع فيه بيننا وبينهم، وإن نازع فيه منازع، فإنه لما غمره من العناد أو الجهل؛ وقد قطعه البرهان القاطع.
فكيف لا تكون تلك البراهين المعلومة مبطلة للثقة، رافعة لظن الصدق؟!!.
وهلا جعل الجرح بالنصوص من الله ـ تعالى ـ ومن رسوله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ بمثابة جرح أحد المعتمدين من شيوخه.
أمْ كيف يكون مُعْتَمَداً عليه، مركوناً إليه، صادقاً، مَنْ صار في حكم الله ـ تعالى ـ ناكثاً أو قاسطاً أو مارقاً، أو منافقاً كافراً أو فاسقاً؟
وأنى لكم بعدالة من كان مشاقاً لرب العالمين، ولرسوله الأمين، مبتدعاً في الدين، متبعاً لغير سبيل المؤمنين؟
فأين تذهبون، ما لكم كيف تحكمون؟
ولعمر الله، إنه ليظهر أنه ما حملهم على قبولهم إلا ضيق مجال الرواية، إن اعتبروا عدالة الديانة؛ ولكن الحق اتباع الحجة، وحكم الكتاب والسنة، وإن أدى إلى ما أدى إليه ذلك، من ضيق المسالك؛ وأَهْوِن بدين /441(2/441)


وشريعة، لا يثبتان إلا من تلك الطرائق الشنيعة.
ولأجل هذا لم يوسع نطاق الرواية قدماء أئمة العترة (ع)، بل اقتصر كثير منهم على روايته عن أبيه عن جده.
نعم، وأما المقدمة الثانية: فعلى فرض حصول الظن بصدق من هذا حاله على بُعْدِه، فغير مسلّم وجوب قبوله؛ وهلم الدليل، وليس إليه من سبيل.
وقد مرّ الكلام على ذلك، وبسطت البحث فيه، في إيضاح الدلالة، وفي فصل الخطاب، وفي الحجج المنيرة، وفي التحف الفاطمية.
وسبق هذا النقض بفاسق التصريح وكافره، فإنه مجمع على ردهما، وإن فرض ظن صدقهما؛ وقد ضاق بذلك ذرعاً السيد الحافظ محمد بن إبراهيم الوزير، وأجاب بما لا يخفى فساده، على ذي نظر سليم، وهو أقوى المنازعين باعاً، وأوسعهم اطلاعاً؛ وقد أقر هو بفسقهم على شدة محاماته، وكثرة تلوناته، كما قدمنا؛ حيث قال في العواصم:
فأما حرب علي (ع) فهو فسق بغير شك، وله الولاية العظمى، التي هي عمدة في الدين.
وقال أيضاً ما لفظه: مع القطع بأن الحق مع أمير المؤمنين (ع)، وأن محاربه باغ عليه، مباح الدم، خارج عن الطاعة والجماعة؛ وقد تقدم وسيأتي أن هذا إجماع الأمة، برواية أئمة السنة، دع عنك الشيعة...إلى آخره.
هذا، وأما الطائفة الثانية: فهم القائلون بأنهم اجتهدوا، فلا إثم عليهم، وإن حكموا بخطئهم وبغيهم.
وهذا قول النابتة الحشوية، الذين يسمون أنفسهم السنية، وإياهم عنى القائل:
قال النواصب: قد أخطا معاويةٌ .... في الاجتهاد وأخطا فيه صاحبهُ
قلنا: كذبتم فلم قال النبي لنا: .... في النار قاتل عمار وسالبهُ
وفيما بسطنا في الرد عليهم في أبحاث هذا الكتاب، من الآيات القرآنية، /442(2/442)

64 / 151
ع
En
A+
A-