على الأصح.
وللمحدثين في الجهالة اصطلاح آخر.
قلت: قد سبق الكلام في ذلك مستوفىً، والحمد لله.
قال: وأسباب أخر يذكرونها، منها: أن تكثر نعوت الراوي، فيذكر ما اشتهر به لغرض، وصنفوا فيه الموضح.
قلت: هذه إشارة إلى أنواع يذكرونها في علوم الحديث، وقد أشير إلى المختار، على وجه الاختصار، على حسب ترتيبه، وإن كان على غير نظام؛ وقد يسر الله ـ تعالى ـ شرح المهم شرحه على التمام، والله ولي الإنعام.
وهذا القسم الذي ذكره هو معرفة من له تعريفات متعددة من الأسماء، وهي: الأعلام.
أو الكنى، وهي المبدوءة بأب أو أم.
والألقاب، وهي: ما أشعر بمدح أو ذم.
أو الأنساب.
فقد يذكر الراوي بمتعدد منها، في مقامات مختلفة، من راوٍ واحد، أو جماعة؛ فيظن من لا خبرة له أنها لشخصين فأكثر، حسبما يذكر، وقد يفعل ذلك لقصد إخفائه أو تدليسه بمشارك له في التعريف المذكور؛ والأولى أن يعرف بالأشهر ـ كما ذكره ـ إن كان له أشهر.
وقد صنف في هذا النوع الخطيب البغدادي كتاب الموضح لإيهام الجمع والتفريق، وعبد الغني المصري كتاب إيضاح الإشكال، ومثلوا له بما استعمله الخطيب في روايته تارة عن أبي القاسم التنوخي، وتارة عن علي بن الحسن، وأخرى عن علي بن أبي علي المعدل، وكلها لشخص واحد.
قال (ع): أو يكون مقلاً فلا يكثر الأخذ عنه، وفيه الوحدان.
قلت: هو جمع واحد، وقد عدوا جماعة من الصحابة والتابعين، ممن لم يرو عن كل واحد منهم إلا واحد، وصنف في ذلك مسلم كتاب المنفردات والوحدان، وعند المحدثين لمعرفته ثمرة في معرفة مجهول العين، كما سبق الكلام فيه.
[الكلام على المبهم]
قال: أولا يسمى اختصاراً، وفيه المبهمات.
قلت: المبهم: من ذُكِرَ على وجه لا يعرف به، إما في الإسناد، كأن يقال: عن رجل، أو امرأة، أو فلان، أو نحو ذلك؛ أو في غيره، كأن يقال: سائل سأل رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ، أو نحوه؛ ويعرف المبهم بوروده مسمى في /433(2/433)


مقام آخر، فالإبهام كثير الوقوع في كتب الحديث كلها؛ فلهذا صنفوا في معرفتها المبهمات، وممن ألف فيها عبد الغني، والخطيب؛ وأفرد ابن حجر في فتح الباري المبهمات الواقعة في البخاري، ولم ينسب إلى أحد ممن وقع الإبهام في سنده أنه يقبل المجهول؛ إذ لا دليل على كونه مجهولاً عنده، إلا ما وقع من السيد الحافظ محمد بن إبراهيم، ومن اغتر بنقله من نسبة ذلك إلى علامة العراق، وإمام الشيعة على الإطلاق، وولي آل محمد بالاتفاق، شيخ الإسلام، محمد بن منصور المرادي ـ رضي الله عنه ـ على فرض أنه أخذه له من هذا كما تقدم.
وقد قال محمد بن إبراهيم في التنقيح، ما لفظه: إن الإسناد إذا كان فيه عن رجل أو شيخ، فهو منقطع لا مرسل، في عرف المحدثين؛ قاله الحاكم، وابن القطان في بيان الوهم والإيهام.
قلت: وقد تعقب ابن حجر على رواية ذلك عن الحاكم، ونقل كلامه فيه، وهو يفيد أنه ليس بمنقطع عنده، إلا إذا لم يوقف على معرفته.
قال في التنقيح: وأما الجويني، فقال: وقول الراوي أخبرني رجل أو عدل موثوق، من المرسل أيضاً، وكذلك كتب النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ التي لم يسم حاملها؛ ذكره في البرهان.
قال زين الدين: وفي كلام غير واحد من أهل الحديث أنه متصل في إسناده مجهول، وحكاه الرشيد العطار في الغرر المجموعة عن الأكثر، واختاره شيخنا الحافظ أبو سعيد في كتاب جامع التحصيل، انتهى.
قال محمد بن إبراهيم: وهو الصحيح؛ لأن من قال: عن شيخ أو رجل، فقد أحال السامع إلى رواية مجهول، فلا يحل له العمل بالحديث، بخلاف المرسل الذي جزم برفع الحديث، انتهى.
قلت: فهذا كلامهم؛ وغايته أن المبهم مجهول عند السامع كما ذكره، ولا دلالة أنه مجهول عند الراوي، وإنما أبهمه على غيره؛ ثم لو فرض أنه مجهول عنده، فلا دلالة على أنه يقبله، مهما لم ينص على ما يفيده، والجميع لا يقدحون /434(2/434)


بوجود المبهم من الرواة، وإنما يبحثون عما أبهموه؛ فإن وقفوا عليه، عرفوه؛ وإن لم، عمل كل ناظر بمذهبه، كما حققوه.
قال ابن الصلاح: وكثير منهم لم يوقف على أسمائهم، وهو على أقسام، منها ـ وهو من أبهمها ـ: ما قيل فيه: رجل أو امرأة، ومنها: ابن فلان، أو نحو ذلك، ومنها: العم، والعمة، ونحوهما؛ انتهى باختصار.
وقد أورد الأمثلة، وهي واضحة، وكثير منها لا إبهام فيها حقيقة؛ إذ قد صار ما يذكر به معرفاً كاسمه العلم؛ والقصد المهم معرفة الحال، التي هي العمدة في القبول أو الرد؛ وكثير من الأبحاث التي يذكرونها ليس فيها كثير فائدة، وإنما هي من فضلات علم الرجال.
قال صارم الدين (ع): ولا يقبلون التوثيق المبهم، ولو بلفظ التعديل، وهو مقتضى قول من منع المرسل.
قلت: نحو: أخبرني الثقة، أو العدل؛ فهو عندهم غير مقبول، والحق أنه إن كان كذلك من عالم بأسباب الجرح والتعديل موافق في المذهب، فلا مانع من القبول، كما عرف في الأصول.
قال: فإن سمي وانفرد عنه واحد، فمجهول العين، فلا يقبلونه؛ والمختار قبوله إذا وثق، وفاقاً للأصوليين؛ فإن روى عنه اثنان فصاعداً ولم يوثق، فمجهول الحال.
قلت: المراد أن مجرد الرواية لا تخرج عن الجهالة، لا أنها شرط فيها.
قال: وهو المستور.
قلت: قد سبق الكلام فيه، وهذا أحد معانيه.
ومن معانيه عند بعض أهل الأصول: العدل مطلقاً؛ وهو مراد صاحب الجوهرة.
والعجب من الحافظ محمد بن إبراهيم الوزير كيف نقل معناه في كلامه إلى معنى المجهول، وليس معناه ذلك في استعماله، واستدل به بعد ذلك إلى قبول صاحب الجوهرة وغيره من الشارحين للمجهول، مع أنه قد نصّ في الجزء الأول من التنقيح على ذلك، حيث قال: وقد ورد المستور في عبارات أصحابنا، والمراد به العدل، كما استعمل ذلك أهل الحديث.
قال الشيخ أحمد /435(2/435)


بن محمد الرصاص في الجوهرة في شروط الراوي: إنها أربعة: أحدها: أن يكون الراوي عدلاً مستوراً ـ هذا لفظه، انتهى.
فاجمع بين هذا، وبين ما ذكره عن صاحب الجوهرة فيما سبق.
وقد حكيناه؛ ليتبين لك العجب، إن كنت ذا تبصرة؛ ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
[الكلام على عدم قبول رواية فاسق التصريح]
قال صارم الدين: وقد يرد المسلم بارتكاب الكبائر تصريحاً، وهو إجماع.
قلت: إطلاق المسلم عليه، إنما هو بالنظر إلى أحد معنييه، وهو المعنى العام، الذي هو قريب من المعنى اللغوي؛ وأما معناه الآخر الخاص الشرعي، فهو بمعنى المؤمن شرعاً؛ ولا يستحقهما ونحوهما من أسماء المدح والتبجيل، إلا القائم بما افترضه الله عليه مما يوجب على تركه النار، المجتنب لكبير ما نهاه الله عنه، كما قام على ذلك الدليل، وهو قول علماء آل الرسول ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ ومن اتبعهم؛ وهو مشروح في محله من الأصول.
قال: وشذّ من قبل الصدوق منهم، بناء على أن الكبيرة مظنة تهمة، لا سلب أهلية.
قلت: وهذا ـ أي رد المصرح بالإجماع، وإن ظن صدقه بتحرزه وأنفته عن الكذب ـ مما يتضح به بطلان قبول فاسق التأويل؛ لوجود ما ذكروه من التعليل، وعدم الفارق في ذلك بين التصريح والتأويل، كما هو مقتضى الدليل.
وقد ضاقت بهم المسالك في ذلك، حتى عدل محمد بن إبراهيم الوزير لما أورد عليه السيد الإمام علي بن محمد بن أبي القاسم هذا الإلزام، إلى القول بتخصيص العلة.
قال في التنقيح: فإن قيل يلزم قبول من ظن صدقه من المصرحين.
..إلى قوله: قلنا هذا مخصوص، وتخصيص العلة جائز...إلخ كلامه.
والجواب: أنه غير مسلم كون العلة في القبول ما ذكروه من ظن الصدق؛ بل المناط العدالة المحققة مع الضبط، وهي التي قام الدليل على قبول صاحبها بالإجماع، وما عداه ففيه النزاع؛ فالتعليل والتعميم والتخصيص لم تثبت ببرهان واضح، وإنما هو مجرد دعاوٍ، وحكاية مذاهب، كما لا يخفى على ذي نظر راجح.
وقد أكثر محمد بن إبراهيم المحاولة لجعل قبول المتأول قولاً لجميع /436(2/436)


الزيدية، تارة بالتخريج، وتارة بالتقدير، ومرة بالإلزام؛ وأطال في ذلك الاضطراب والكلام، على نحو ما مرّ في المجهول ولم يقف على طائل ولا مرام.
وكذلك أطنب في تقرير الإجماع المدعى من أهل الصدر الأول، وسرد حكايات القابلين لهم من أئمة أهل البيت (ع)، وغيرهم.
ونقول: إن كان المراد أنه قد روي فلا نزاع؛ ولكنها روايات أحادية، لاتوجب القطع في هذا المقام الكبير، الذي هو عمدة في الدين، وطريقة إلى شريعة سيد المرسلين ـ صلوات الله عليهم ـ ولم يذكر عن الحاكين للإجماع رواية واحدة، لا صحيحة ولا فاسدة، تتصل بالمدعى إجماعهم، أن أحداً منهم قبل خبراً أو فتيا عن مخالفيهم؛ وإنما هي دعاوٍ مجردة، توافقت عليها حكايات أهل هذه الأقوال؛ ولا يبعد أنها جميعاً مأخوذة عن ناقل واحد، تبع فيها الآخرُ الأولَ، كغيرها مما هو على هذا المنوال، مع أنها معارضة بروايات متصلة، عن المدعى إجماعهم، بالرد لأخبار مخالفيهم، هي أصح وأوضح.
فمن ذلك ما رواه الإمام الأعظم، بسند آبائه (ع)، في شأن الواقعة التي بعث معاوية قوماً يسألون عنها علياً، فقال ـ صلوات الله عليه ـ: لعن الله قوماً يرضون بحكمنا، ويستحلون قتالنا...إلى آخر ما في المجموع.
ففيه إنكار صحيح، بل لعن صريح، على الراضين بالحكم مع استحلال القتال، وأنهما متنافيان.
لا يقال: إنهم يستحقون اللعن لغير ذلك؛ لأنا نقول: نعم، ولكنه هنا رتبه على هذا الوصف، ولولا ذلك، لما كان لذكره فائدة، وطريقة الحكم والخبر واحدة.
ومنها: الرواية التي أخرجها مسلم عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ وفيها: أنه أخبره كريب برؤية هلال رمضان بالشام، أنهم رأوه وصاموا.
ثم قال له: أو لا نكتفي برؤية معاوية وصيامه؟
فقال ابن عباس: لا، هكذا أمرنا رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ.
وأخرج البخاري ومسلم عن مجاهد، قال: جاء بشير العدوي إلى ابن عباس، فجعل يحدث ويقول: قال رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ.
وجعل ابن عباس لا يأذن لحديثه، ولا ينظر إليه.
فقال له بشير: مالي أراك لا /437(2/437)

63 / 151
ع
En
A+
A-