حاصل بكلام المنصور؛ فإن القصد الاستشهاد به على ذهاب المنصور بالله إلى عدالة مجهول الصحابة.
قلت: لكن لم يصح، فليس في كلام الإمام هذا دلالة على قبول المجهول بوجه؛ وإنما هو مجرد استخراج، واضح الاعوجاج، وهو مع ذلك كلام في صحابي واحد، وقد جعله في التنقيح عمدة الحكاية عنه في قبول المجهول على الإطلاق، صحابي وغيره؛ كما سبق.
وفي الروض خرج له من ذلك الاحتجاج حجة على عدالة جميع الصحابة، حيث قال: وفي هذا الاحتجاج ما يؤخذ منه عدالة الصحابة كلهم، على أنه قد ثبت في كلام غير واحد من الزيدية أنه يقبل المجهول من جميع المسلمين، الصحابة وغيرهم.
هذا نص كلامه؛ ولا يخفى ما في هذا كله من الخبط العظيم، والخلط الجسيم، والمأخذ السقيم، والتخريج الذي لا دلالة عليه بمنطوق ولا مفهوم، ولا خصوص ولا عموم.
قال في التنقيح: وهو أحد احتمالي أبي طالب في جوامع الأدلة، وأحد احتماليه في المجزي.
وقال في الروض الباسم: وهو الذي أشار إلى ترجيحه أبو طالب في كتاب جوامع الأدلة، وتوقف فيه في كتاب المجزي، وذكر أنه محل نظر، انتهى.
قال في التنقيح: وهذا المذهب مشهور عن الحنفية، والزيدية مطبقون على قبول مراسيل الحنفية؛ فقد دخل عليهم حديث المجهول على كل حال، وإن كان المختار عند متأخريهم رده، فذلك لا يغني مع قبولهم مراسيل من يقبله؛ والقصد بذكر هذه الأقوال أن لا يتوهم أن المحدثين شذوا بهذا المذهب.
قلت: وهذا مسلك من الاستدلال عجيب، لا يخفى ما فيه من الاختلال على ذي نظر مصيب؛ فأولاً: إن تقرير كونه مذهب الحنفية غير صحيح، مع أن المنقول عن أبي حنيفة ـ لا غير ـ قبول المجهول، وهو مختلف في تحقيقه، ومنقسم إلى أقسام عديدة؛ فالرواية عنه مجملة غير مفيدة، وقد أنكرها بعضهم.
وقال بعد كلام طويل ساقه: وبهذا تعلم أن ظاهر مذهب الحنفية عدم قبول رواية /428(2/428)


المستور كغيرهم، وإنما جعله بعضهم قول أبي حنيفة إنما هو رواية عنه، على خلاف ظاهر المذهب...إلى آخر كلامه.
وقد قال سيد المحققين الأعلام، الحسين بن الإمام (ع) في شرح الغاية، في قبول خبر المجهول: ولا قائل به على الإطلاق؛ فإن أبا حنيفة لم يقل بقبوله مطلقاً، بل إلى تابع التابعين.
انتهى المراد منه وقد سبق.
ثانياً: إن دعوى إطباق الزيدية على قبول مراسيل الحنفية دعوى مجردة عن البرهان، واضحة التهافت والبطلان، والذي يروي عنهم للاحتجاج الإمام المؤيد بالله (ع) في شرح التجريد، روايات محررة الأسانيد؛ وإن روى راوٍ من أئمتنا (ع) عنهم، أو عن غيرهم للمتابعة والاستشهاد والتأييد، فذلك شأن علماء الأمة، لا يجهله من له أدنى مسكة؛ على أن علماء الحنفية ليسوا بمجروحين، ولا موسومين بما رماهم به من قبول المجهولين، عند أعلام الزيدية.
ولكن أهل بيت محمد ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ أعلم بما أنزل الله تعالى في كتاب ربهم، وسنة نبيهم، من حنفية، وشافعية، ومالكية، وحنبلية، وسنية، وظاهرية، وحشوية، وجميع فرق البرية؛ وصاحب البيت أدرى بالذي فيه.
ولعمر الله، إنه لينقضي من هذا السيد العالم الحافظ العجب، ويذهب الفكر كل مذهب؛ ولقد كفى مؤنة الرد والنقض، بتناقض كلامه ومدافعة بعضه لبعض، فلا محوج مع ذلك لإيراد بيان، ولا إقامة برهان، بل الإنسان على نفسه بصيرة؛ فتارة يدعي على الزيدية الإجماع، وتارة يحكي عنهم الخلاف، ومرة يذكر القطع على الأقوال، ومرة ينقل التردد والاحتمال، وحالة ينسبها على جهة التصريح، وأخرى على وجه تخريج غير صحيح؛ ولم /429(2/429)


يزل يكرر ذلك في كتبه، ولم يورد عن واحد من أئمة العترة نصاً يعتد به؛ وليس في يديه بإقراره إلا تلك الرواية عن القاضي عبدالله بن زيد المحتملة، وغايتها الحكاية لمذهبه.
ومما يزيدك أيها الناظر المنصف في البيان ـ وإن كان فيما سلف أوضح برهان ـ كلامه في هذا البحث الذي حكاه عنه ابن بهران.
قال ما لفظه: منقول من كتاب القواعد لسيدي العلامة عز الدين محمد بن إبراهيم.
..إلى قوله: اعلم أن أهل الحديث أجمعوا على أنه لابد من معرفة الراوي بالعدالة التامة، إما بالخبرة، وإما بخبر العدل المأمون؛ وذهبت الحنفية إلى قبول المجهول، وقالوا: لا يرد إلا من تحقق فسقه.
..إلى قوله: وذكر هذه المسألة أبو طالب في كتاب المجزي، وقال: يحتمل أنه يقبل، ويحتمل أنه لا يقبل، وهي مسألة نظر، ولم يقطع فيها بشيء.
...إلى قوله: وأما مذهب أصحابنا، فلم يتعرض هو ولا غيره لحكايته، إلا الفقيه العلامة عبدالله بن زيد صاحب الإرشاد، فإنه قال: مذهبنا قبوله؛ قال ذلك في كتاب الدرر المنظومة في أصول الفقه.
[تناقض كلام الحافظ في النقل عن الزيدية في المجهول]
وأما صاحب الجوهرة، فلم يورد لأهل المذهب شيئاً في ذلك، لكن روى عن شيوخه أن رواية المجهول لا تقبل.
قلت: انظر إلى هذا، وإلى ما سبق له من حكاية المذهب، ورواية النص عن صاحب الجوهرة.
قال: وقال المنصور بالله (ع): العدالة عندنا لا تشترط إلا في أربعة: في الإمام الأعظم، وإمام الصلاة، وفي القاضي، والشاهد؛ ذكره في كاشف الغمة، ولم يذكر اشتراطها في راوي الحديث.
قلت: يالله العجب من هذا الكلام! أما كان ينبغي له التحاشي عن نسبة الإمام إلى ما لم يقل به أحد من الأعلام؟ فإن الذاهب إلى قبول المجهول لم يقل: لا تشترط العدالة بالمرة، وإنما يقول: إنها الأصل في المسلمين، فلا يحتاج إلى الخبرة ولا نقل المزكين؛ وأما أنها لا تشترط أصلاً، فلم يعلم عن أحد من أهل العلم.
وعلى فرض صحة هذا الكلام عن الإمام (ع)، أما كان ينبغي له أن يخصص /430(2/430)


هذا المفهوم، بما له في مؤلفاته من النص المعلوم، أو يلحق اشتراط عدالة الراوي بعدالة إمام الصلاة، فإنه من باب الأولى قطعاً؛ وهو يغني عن النص عليه، كما أغنى النص على التأفيف عن ذكر الضرب وغيره، فلو لم يكن له نص سواه لكفاه؛ فكيف ونصوصه ترد هذا التخريج الفاسد وتأباه؟! فالله المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ثم قال في هذا الكتاب ـ أي القواعد ـ ما لفظه: ولم يحصل لنا في مذهب من تقدم من أهل المذهب طريقة صحيحة صريحة؛ لعدم لهجهم بهذا.
ثم ذكر الرواية المحتملة عن القاضي عبدالله...إلى آخر ما ذكره.
قلت: وهذا إقرار بأن روايته عنهم ليس لها أصل ولا قرار، وأن جميع ذلك بناء على أصل منهار؛ وهنا قد صرح بأنه لم يحصل له طريقة صحيحة صريحة إلى مذهب المتقدمين، وفيما سبق حكى الخلاف عن المتأخرين؛ فمن بقي له على الإجماع الذي يدعيه؟ وأي مسلك في ذلك يقتفيه؟
ولا يقال: يحمل على أنه قال هذا قبل أن يحصل له طريق، ثم قال ذلك بعد أن حصل له تحقيق؛ لأنه يقال: لا يتجه له هذا المنهج، ولا سبيل إلى تقويم ذلك العوج؛ فقد تكررت منه المناقضة، وتحققت له النقولات المتعارضة، في بحث واحد، ومقام منفرد، بما ينقض قوله الأول الآخر، مع بيان مستنده، وإيضاح معتمده، الذي لم يزل يكرره على تصريف التعبيرات، وتنويع التحريرات؛ ولئن فُرِض صحة الجمع في مقال، فلا يمكن في جميع الأقوال بحال، فهو من المحال؛ فهذا الذي طال فيه المجال، وتباعد عنه الانفصال، في مقام واحد من الأقوال.
[كون الشغب وحدة الجدال حملا الحافظ على الانتحال]
وكل ذلك من السيد الحافظ في مقابلة قول شيخه السيد الإمام علي بن محمد بن أبي القاسم ـ رضي الله عنهم ـ: معرفة الأخبار مبنية على معرفة عدالة الرواة...إلخ، كما هو مذكور في الروض الباسم؛ لأنه يبلغ في كل مادة جرى فيها بينهما الجدال، كل ممكن في الرد عليه والإبطال، ومحاولة النقض لكلامه بكل حال.
وقد علم الله ـ سبحانه، وهو بكل شيء عليم ـ أن ليس المقصود فيما سقته، ولا الغرض بما حققته، إلا بيان الحق للطالبين، والقيام بشهادة القسط التي أمر الله ـ تعالى ـ بها بقوله /431(2/431)


ـ جل جلاله ـ في كتابه المبين: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ } [النساء:135].
ولا سيما وهذا السيد العالم متبع الرسوم، ومقتص الأثر في العلوم.
وقد اغتر بالاعتماد على ما حرره، والاستناد إلى ما قرره، كثير من أرباب الفهوم، وإلا فقد أفضى الجميع إلى رب العالمين، ونحن في أثرهم من اللاحقين؛ فالله نسأل، وبجلاله نتوسل، أن يصلي على رسوله وآله، وأن يوفقنا لما يرضاه منا، وأن يلحقنا بالصالحين، آمين.
[عودة إلى كلام صارم الدين في أقسام المجهول]
ونعود إلى المقصود في هذا المحل، من ذكر ما لا غنية عن الاطلاع عليه من علوم الحديث، وتحقيق القول فيه حسب السياق الأول؛ ولا بأس بإعادة أصل البحث من حيث بلغ في الفلك الدوار، وإن كان قد سبق لترتب الكلام عليه وسوقه على ذلك الاختيار.
قال السيد الإمام صارم الإسلام (ع): وقد يرد بجهالة الراوي؛ وهو إما مجهول العدالة، ورده أئمتنا، لا مجهول العشيرة.
قلت: وقد أصاب في عدم متابعة صاحب تنقيح الأنظار، في روايته عن الأئمة الأطهار؛ وهذه هي الرواية الصحيحة، المقررة بالنصوص الصريحة، على التحقيق، لا المجازفة والتلفيق.
ثم ساق الكلام في حكاية الأقوال، وبعضه مبني على ما ذكره صاحب التنقيح، من إضافته إلى محمد بن منصور ـ رضي الله عنه ـ ونقل ذلك الاحتمال؛ وهكذا بنى غيره في كثير من هذه المقالات ـ كما أسلفت لك ـ على ما في تنقيح الأنظار؛ إلا فيما هو معلوم المخالفة، واضح المجازفة، لذوي البحث والاختبار؛ وقد مضى ما فيه تذكرة لأولي الأبصار.
قال صارم الدين (ع): ومبنى الخلاف على أن الأصل هو الفسق، أو العدالة، والظاهر أنه الفسق؛ لأنه أكثر، ولطرو العدالة.
وأما مجهول الضبط: فلا يقبل، وأما مجهول الاسم والنسب: فيقبلان /432(2/432)

62 / 151
ع
En
A+
A-