حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
فقال: وقول المحدثين: إنه لا بد من معرفة العدالة الباطنة مشكل، إما لفظاً فقط، أو لفظاً ومعنى؛ فإن أرادوا ما نص عليه الرافعي.
قلت: قد سبق كلامه، وأنه المراد.
قال: من أنهم عنوا بذلك من رُجع في عدالته إلى أقوال المزكين، أشكل عليهم ذلك لفظاً؛ لأن هذا المعنى صحيح، ونحن نقول به.
قلت: هذا عجيب؛ كيف يقول: ونحن نقول به، والقلم لم يجف في الاحتجاج على قبول المجهول، بكل غث وسمين، من المعقول والمنقول؟‍!.
قال: ولكن هذه العبارة ركيكة موهمة أنه لا بد من معرفة باطن الراوي؛ وتعديل المزكين لا يوصل إلى ذلك؛ لأن المزكي إنما عرف الظاهر، ثم أخبرنا به، فقلدناه فيه.
قلت: ليس قبول خبر المزكي من باب التقليد، وإنما هو أخذ بموجب الدليل، الدال على قبول أخبار الآحاد العدول في هذا وغيره؛ وقد سبق له التصريح بأنه ليس بتقليد في هذا الكتاب، وهو الصواب.
قال: فكيف لا نحكم بالعدالة الباطنة إذا عرفنا ما عرفه المزكي من غير واسطة خبرة وتقليده؟
قلت: هذا يفيد أنهم لا يعتدون بالخبرة، ولا يقبلون إلا قول أهل التزكية؛ والظاهر أنهم لا يقولون بذلك، ولا يذهب إليه عاقل؛ لأن الخبرة أقوى من التزكية قطعاً، وقد تقدم في كلام ابن الصلاح ما يدل على ذلك، حيث قال: وتعذرت الخبرة الباطنة بهم...إلخ.
قال: فإن قالوا: المراد بالعدالة الباطنة ما كان عن خبرة، وبالظاهرة ما كان بمجرد الإسلام.
قلنا: من لم يعرف بغير مجرد الإسلام، فقد تقدم في القسمين الأولين من أقسام المجاهيل، وهذا قسم ثالث قد ارتفع عنهما، ولا يرتفع عنهما إلا بخبرة.
فإن قالوا: العدالة الظاهرة ما تعرف بخبرة يسيرة توصل إلى مطلق الظن، والباطنة ما عرف بخبرة كثيرة توصل إلى الظن المقارب؛ وسموا الظن المقارب للعلم علماً دون مطلق الظن، تخصيصاً بما هو أولى به؛ فإن مطلق الظن قد يسمى علماً، فكيف بأقواه؟ /423(2/423)


قلنا: الظن في القوة لا ينقسم إلى قسمين فقط، ولا يقف على مقدار، ولا يمكن التعبير عن جميع مراتبه بالعبارة؛ ومعرفة المزكي لكون ظنه مقارباً، أو مطلقاً، أو وسطاً بين المطلق والمقارب، دقيقة عويصة، وأكثر المزكين لا يعرف معاني هذه العبارات، بل ولا سمعها؛ وهي مولدة اصطلاحية؛ ولو كلف كل مزكٍ أن يزكي على هذا الوجه لم يفعل أو لم يعرف؛ ولم تزل التزكية مقبولة قبل حدوث هذه الاصطلاحات؛ والعدالة حكم منضبط تضطر إليها العامة في الشهادة في الحقوق والنكاح، ورواية الأخبار، وقبول الفتوى من المفتي، وصحة قضاء القاضي؛ فتعليقها بأمر خفي غير منضبط بغير نص يدل على ذلك، ولا عقل يحكم به غير مرضي، بل مطلق الخبرة المفيدة للظن كافية، وتزكية المزكي لا تفيد غير ذلك.
قال: وأما الوجه الثاني: وهو اختلال عباراتهم لفظاً ومعنى، فذلك إن أرادوا أنها على ظاهرها، ولم يتأولوها بالتجوز، وذلك أن يقولوا: العدالة الظاهرة هي ما عرف بالخبرة الموجبة للظن، والعدالة في الباطن والظاهر هي العدالة المعلومة بالقرائن الضرورية، مثل: عدالة المشاهير المتواترة عدالتهم، مثل العشرة من الصحابة.
قلت: هذه إشارة إلى ما رووه في العشرة من البشارة، وقد جمعهم المؤلف محمد بن إبراهيم في قوله:
للمصطفى خير صحب نصّ أنهم .... في جنة الخلد نصاً زادهم شرفا
هم طلحة وابن عوف والزبير كذا .... أبو عبيدة والسعدان والخلفا
وقال غيره:
علي والثلاثة وابن عوف .... وسعد منهم وكذا سعيد
كذاك أبو عبيدة فهو منهم .... وطلحة والزبير ولا مزيد
ولم يصححه آل محمد صلوات الله عليهم.
قال: وعمار بن ياسر، وسلمان الفارسي، وأبي ذر، وأمثالهم من أهل ذلك الصدر، ومثل زين العابدين، وسعيد بن المسيب من التابعين.
قلت: المسيب بضم الميم، وفتح المهملة، /424(2/424)


وتشديد المثناة التحتية المفتوحة، ثم موحدة؛ أفاده السيد الإمام في الطبقة الثانية.
قال: ابن حزن، (بفتح الحاء المهملة، وسكون الزاي، وبالنون) بن أبي وهب القرشي، أبو محمد المخزومي، وذكر أنه ولد لسنتين من خلافة عمر، وأنه جمع بين الفقه، والحديث، والزهد، والعبادة، والورع، وأنه روى عن علي، وابن عباس، وأبي ذر، وجابر ـ رضي الله عنهم ـ وغيرهم، وعن أنس حديث الطير.
..إلى قوله: توفي سنة أربع وتسعين، عن تسع وسبعين.
خرج له الجماعة، وأئمتنا الخمسة، والسمان، انتهى.
قال: والحسن البصري، ومثل: إبراهيم بن أدهم من المتعبدين.
قلت: سيأتي ذكرهما في الفصل المستقل لذلك ـ إن شاء الله تعالى ـ.
قال: ومثل القاسم، والهادي من الأئمة الهادين.
فلهم أن يقولوا: عدالة هؤلاء معلومة ظاهراً وباطناً، وليس ذلك من قبيل علم الغيب، بل من قبيل العلم الصادر عن القرائن، مثل: الخبر بموت ولد رجل كبير مع بكاء ذلك الرجل بين الناس واستقامته لمن يعزيه، وبكاء النسوان في بيته، واجتماع الناس للتعزية إليه، وظهور الجنازة، ونحو ذلك.
وكبار الأئمة والعلماء قد أخبروا عن أنفسهم بالعدالة، وظهر عليهم من القرائن ما يوجب علم ذلك.
فالجواب عليهم: أن هذا يختل عليهم من وجهين:
أحدهما: أن الناس مختلفون في صحة هذا.
..إلى قوله:
وثانيهما: أن العدالة في الراوي تشتمل على أمرين:
أحدهما: في الديانة التي تفيد مجرد صدقه، وأنه لا يتعمد الكذب.
وثانيهما: في الحفظ؛ ولئن سلم لهم ذلك في الديانة، فلا يصح العلم الضروري بأن الراوي لم يخطيء في روايته عن غير عمد، ولا قائل بذلك؛ على أن البالغين إلى هذه المرتبة الشريفة هم الأقلون عدداً؛ ولو اشترط ذلك أهل الحديث لم تتفق لهم سلامة إسناد غالباً، وقد نص مسلم على أنا لا نجد الحديث الصحيح عند مثل: مالك، وشعبة، والثوري، فلا بد من النزول إلى /425(2/425)


مثل: ليث بن أبي سليم، وعطاء بن السائب.
فكن على حذر من تضعيف من يرى رد أهل العدالة الظاهرة لكثير من الرواة، وتفطن لذلك في كتب الجرح والتعديل، والله أعلم. انتهى كلامه.
وبذلك تم البحث الذي ساقه في المجهول من التنقيح، إلا أنه أشار إليه في معرفة الصحابة، فقال: وأما القول بعدالة المجهول منهم ـ أي الصحابة ـ فهو إجماع أهل السنة، والمعتزلة، والزيدية؛ قال ابن عبد البر في التمهيد: إنه مما لا خلاف فيه.
قال: أما أهل السنة فظاهر.
قلت: لقولهم بعدالتهم على الإطلاق، وعدم تخصيصهم لأهل البغي والنكث والمروق والنفاق.
قال: وأما المعتزلة فذكره أبو الحسين، في كتابه المعتمد في أصول الفقه.
قلت: قد تقدم كلامه في ذلك، وهو لا يفيد مدعاه.
قال: بل زاد على المحدثين؛ ذهب إلى عدالة أهل ذلك العصر، وإن لم يروا النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ.
وذكر الحاكم المحسن بن كرامة المعتزلي مثل مذهب المحدثين، في كتابه شرح العيون.
قلت: قد ذكر نص كلامه في الروض الباسم، وهو ما لفظه: إن أحوال المسلمين كانت أيام رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ مستقيمة مستغنية عن اعتبارها، انتهى.
فهو مثل كلام أبي الحسين لا يفيد ما نسبه إليه، وإلى المعتزلة، وهو كثير التخريج على الأقوال بما لا تقتضيه؛ وقد سبقت روايته عن محمد بن منصور ـ رضي الله عنه ـ، وإضافتها إلى كتابه، ولم توجد فيه.
قال: وروى ذلك ابن الحاجب في مختصر المنتهى، عن المعتزلة.
قال: وأما الزيدية فإنهم يقبلون المجهول سواء في ذلك عندهم الصحابي وغيره.
قلت: هذا النقل عنهم غير صحيح، وكتبهم مصرحة بخلافه، فالرجوع إليها هو الحق؛ وقد تحقق اضطراب نقله في الأقوال، وأخذ كثير منها بمجرد التوهم والاستدلال.
ويدلك على ذلك أنه في هذا /426(2/426)


المحل من الروض الباسم، قال ما لفظه: فقد ذهب أئمة الحنفية إلى قبول المجهول من أهل الإسلام، وذهب إلى ذلك كثير من المعتزلة والزيدية.، انتهى.
وقال فيما سبق: هو الغالب من مذاهب العترة والمعتزلة أهل الأصول...إلخ انتهى.
وقد نقضه في آخر هذا البحث بروايته عن المتأخرين لرده؛ وانظر إلى مستنده في رواية قبوله، فهو واضح الاختلال.
قال في التنقيح: ذكر ذلك الفقيه عبدالله بن زيد في الدرر المنظومة.
وفي هذا المحل من الروض الباسم، قال: ذكره في الدرر المنظومة بعبارة محتملة للرواية عن مذهب الزيدية كلهم.
فقطع هنا على العبارة المحتملة، وجعلها عمدة نقله.
قال في التنقيح: وهو أحد قولي المنصور بالله، ذكره في هداية المسترشدين.
وقال في موضع منه: وأما المنصور بالله، فله في ذلك كلمات مختلفة في أماكن من كتبه متفرقة؛ من ذلك: كلامه في كتاب هداية المسترشدين، واحتجاجه بتأمير النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ لعتاب بن أسيد، ثاني يوم من إسلامه.
فتارة يجعله على القطع أحد قوليه، وتارة أنه ذكر ما يقتضيه، وهو من تخريجه الذي لا يسلم له فيه؛ ومرة أن له كلمات مختلفة في مواضع متفرقة، واعتمد على كلامه في هداية المسترشدين، وهو احتجاجه بتأمير النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ...إلخ.
ولا دلالة في ذلك بتصريح ولا اقتضاء:
أما أولاً: فقد تقدم الكلام في شأن الداخل في الإسلام، وأنه يجب ما قبله، ولم يحدث ما ينقض العدالة بعده، وأنه لا حجة فيه؛ لجواز معرفته بعدالته.
وأما ثانياً: فقد قال هو في ذلك البحث: وفي الاحتجاج على العدالة بالولاية نظر.
قال: لكن المنصور ذكر أنه ولاه على القضاء، فيما حكى لي بعض أهل العلم.
وعلى الجملة، فغرضنا /427(2/427)

61 / 151
ع
En
A+
A-