أبي موسى على شاطئ الفرات في خلافة عثمان، فروى لي خبراً عن رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ قال: سمعته يقول: ((إن بني إسرائيل اختلفوا، فلم يزل الاختلاف بينهم حتى بعثوا حكمين ضالين ضلا وأضلا من اتبعهما؛ ولا ينفك أمر أمتي حتى يبعثوا حكمين يَضِلان ويُضِلان من اتبعهما))، فقلت له: احذر يا أبا موسى أن تكون أحدهما.
قال: فخلع قميصه، وقال: أبرأ إلى الله من ذلك، كما أبرأ من قميصي هذا.
[أبو موسى الأشعري عند المعتزلة]
قال: فأما ما يعتقده المعتزلة فيه، فأنا أذكر ما قاله أبو محمد بن متويه في كتاب الكفاية.
قال ـ رحمه الله ـ: أما أبو موسى، فإنه عظم جرمه بما فعله، وأدى ذلك إلى الضرر، الذي لم يخف حاله؛ وكان علي (ع) يقنت عليه وعلى غيره.
وروي عنه (ع) أنه كان يقول في أبي موسى: صُبغ بالعلم صبغاً، وسُلخ منه سلخاً.
قال: وأبو موسى هو الذي روى عن النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ أنه قال: ((كان في بني إسرائيل حكمان ضالان، وسيكون في أمتي حكمان ضالان ضال من اتبعهما))، وأنه قيل له: لا يجوز أن تكون أحدهما.
فقال: لا ـ أو كلاماً هذا معناه ـ.
فلما بُلي به قيل فيه: البلاء موكل بالمنطق.
قلت: وأخرج الطبراني في الكبير، عن سويد بن غفلة، قال: سمعت أبا موسى الأشعري يقول: قال رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((سيكون في هذه الأمة حكمان ضالان ضال من اتبعهما)).
فقلت: يا أبا موسى، انظر لا تكون أحدهما.
قال: فوالله ما مات حتى رأيته أحدهما.
انتهى من النصائح.
قال الشارح: ولم يثبت في توبته ما ثبت في توبة غيره؛ وإن كان الشيخ أبو علي قد ذكر في آخر كتاب الحكمين أنه جاء إلى أمير المؤمنين (ع) في مرض الحسن بن علي، فقال له: أجئتنا عائداً أم شامتاً؟
فقال: بل عائداً ـ /418(2/418)


وحدث بحديث في فضل العيادة.
قال ابن متويه: وهذه أمارة ضعيفة في توبته، انتهى كلام ابن متويه.
وذكرته لك؛ لتعلم أنه عند المعتزلة من أرباب الكبائر، وحكمه حكم أمثاله ممن واقع كبيرة، ومات عليها.
قلت: فهذا حكمه عند المعتزلة.
[الأشعري عند العترة]
فأما العترة (ع) فحكمه عندهم، وحكم أمثاله، ما حكم به فيهم أبواهم: الرسول الأمين، وصنوه سيد الوصيين ـ صلوات الله عليهم وسلامه ـ.
وقد تقدم ما فيه بلاغ لقوم عابدين؛ وما المقصد بما ذكرت هنا في شأنه، إلا الاستشهاد بموضع الدلالة من ابتداء أمره إلى نهايته.
[ذبُّ الحافظ محمد بن إبراهيم الوزير عن أبي موسى والرد عليه]
ولقد بلغ التعصب بالحافظ محمد بن إبراهيم الوزير كل مبلغ، حتى وقع منه الذبّ عنه في العواصم، والروض الباسم؛ ولكنه لم يستطع الإنكار، لما ورد فيه من الذم اللازم في صحيح الأخبار؛ لكونه قد رواه أهل سنتهم الكبار، فعدل إلى التحريف، والتأويل السخيف، المخرج للنصوص المتواترة النبوية، في نفاق باغض ولي المؤمنين وسيد البرية، عن معانيها المعلومة الجلية، بما لا يخفى بطلانه على ذي روية.
فمنها: أنه ما كان ذلك إلا لبعض الأسباب في أول الزمان، وهذه مكابرة لاحقة بالبهتان؛ لعمومها وإطلاقها في كل حال، ولأي سبب وفي كل أوان، على لسان سيد ولد عدنان، ولا مخصص ولا مقيد لسبب من الأسباب ولا لزمن من الأزمان، ونحو ذلك من المباهتة التي تمجها الأسماع، وتنفر عنها الطباع، وتنكرها قلوب ذوي العلم والإيمان.
ولو ساغ مثل هذا التأويل السخيف، لما امتنع كل تحريف، وأدى إلى المخرقة والتلعب بالدين الحنيف، ولأمكن أن يقال: وكذلك بغض رسول الله ـ صلى الله عليه /416(2/419)


وآله وسلم ـ، وقتاله إنما كان كفراً؛ لقصد رد ما أتى به من عند الله ـ تعالى ـ.
أما إن كان لسبب غير ذلك ككونه من بني هاشم، أو نحو ذلك من الأحوال، المتسعة المجال، فلا.
ولولا تجنب الإكثار لأوردت من كلماته المتناقضة، وأقواله المتدافعة المتعارضة، ما فيه عبرة لأولي الأبصار؛ ونرجو الله صحة رجوعه عن هذه الأخطار، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
وقد أقر بخبر حذيفة، الذي وقعت الإشارة إليه.
قال في الروض الباسم، ما لفظه: وروى فيه ـ أي الذهبي ـ في النبلاء، عن الشعبي، عن حذيفة أنه تكلم في أبي موسى بكلام يقتضي أنه منافق.
ثم قال: في الشعبي تشيع يسير، انتهى.
ثم قال في آخر البحث: وقد قصدت وجه الله في الذب عن هذا الصاحب، المعتمد في نقل كثير من الشريعة المطهرة، لما رأيت الحافظ الذهبي روى ذلك، ولم يقدح في إسناده بما ينفع.
قلت: فيا لله العجب! ما أبعد هذا القصد الذي به يتقرب! وما بقي إلا أن يقصد وجه الله ـ تعالى ـ في الذب عن إبليس؛ لكونه كان طاووس الملائكة، وأبي لهب؛ لكونه عم الرسول ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ وكذلك امرأته حمالة الحطب.
وأنا أقول: قد قصدت وجه الله، في عداوة أعداء الله، والبراءة من المتعدين لحدود الله، ببيان أحوالهم لأولياء الله، امتثالاً لأمر الله، وإجلالاً لأمثال قول الله تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا ءَابَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ /420(2/420)


اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ(22)} [المجادلة:22]، وقوله عز وجل: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ } [الممتحنة:1]، وقوله جل وعلا: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ } [التوبة:71]، وقوله تعالى: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ } [التوبة:67]، وقوله سبحانه: {وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ } [النساء:107]، وقوله جل جلاله: {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ } [التوبة:114].
وإجلالاً لقول رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله)).
إلى ما لا يحصى من آيات تتلى، وأخبار تملى.
فإن ترضوا عنهم، فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين؛ رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيراً للمجرمين.
[نقل الحافظ عن الزيدية قبول المجهول ـ والرد عليه]
ولنعد إلى ما نحن فيه، والله الموفق لما يرضيه.
قال في تنقيح الأنظار: أو رجعنا إلى إجماع الصحابة، فقد حكى الشيخ أبوالحسين وغيره قبولهم لأحاديث الأعراب.
قلت: قد سبق القول في أن ليس في ذلك دلالة؛ لعدم تحقق الجهالة.
قال: أو رجعنا إلى أهل البيت (ع)، فقد روى المنصور بالله /421(2/421)


ـ رضي الله عنه ـ، وأبو طالب، وأهل الحديث، عن علي (ع) أنه كان إذا اتهم الراوي استحلفه، فإذا حلف له قبله.
قلت: المروي عن الوصي ـ صلوات الله عليه ـ أنه كان يحلف الرواة على الإطلاق، حتى الشهود على رؤية الهلال، رواه في المجموع؛ وليس ذلك إلا للاحتياط لا للتهمة؛ إذ لو كانت لما قبلهم، وإن حلفوا؛ ولو كان ذلك يدل على جهالتهم، لكان جميع الرواة من الصحابة وغيرهم مجهولين لديه.
وعلى الجملة، ليس في هذا دلالة على قبول المجهول ولا شبهة، والتأكيد بكل ممكن حسن، في كل ما كان غير متيقن؛ بل وفي بعض المتيقن، فإن بعضه أقوى من بعض، كما هو معلوم عند أرباب الفطن.
قال: وهذا هو الغالب من مذاهب العترة والمعتزلة أهل الأصول.
قلت: بل المشهور خلافه، وكتبهم بذلك شاهدة.
قال: وذكر محمد بن منصور، صاحب كتاب علوم آل محمد، أنه يرى قبول المجاهيل؛ ذكر ذلك في كتابه المسمى بالعلوم.
قلت: قد سبق الكلام في سند الأمالي في ردّ ذلك، وقد وقع الإملاء لكتابه من أوله إلى آخره، في نسخ عديدة، مرة بعد مرة، فلم نجد فيه لفظة واحدة من ذلك، وسبق توجيه ما يقدّر أخذه له منه، وأنه مأخذ غير صحيح؛ فخذه من هنالك موفقاً ـ إن شاء الله تعالى ـ.
[مناقشة الحافظ محمد بن إبراهيم الوزير لأصحاب الحديث المشترطين للعدالة الباطنة]
هذا، وقد ناقش محمد بن إبراهيم الوزير أصحاب الحديث المشترطين للعدالة الباطنة، مناقشة حسنة، وأورد عليهم فيها إيرادات مستحسنة، والذي يغلب أنه لو أوردها عليهم شيخه السيد الإمام علي بن محمد بن أبي القاسم (ع) لناقضها أبلغ المناقضة، وردها أبلغ الرد؛ لأنه فعل ذلك في جميع ما أورده عليهم مما هو أقوى وأضر، وأدهى وأمر.
لهوى النفوس سريرة لا تعلم .... كم حار فيها عالم متكلّم
فالمسؤول من الله ـ سبحانه ـ التوفيق والسداد، في كل إصدار وإيراد، ولا /422(2/422)

60 / 151
ع
En
A+
A-