مقدمات علمية في أمور ظنية غير مفيد؛ بل الذي تقتضيه الأدلة أنه لو وثقه واحد، ولم يرو عنه أحد، أو روى عنه واحد ووثقه هو بنفسه، لخرج عن حدّ الجهالة؛ فقد نصّ أهل الحديث أن التعديل يثبت بخبر الواحد.
هذا مع ما يعرض في التعديل من المصانعة والمحاباة، فكيف بالإخبار بالوجود؟!.
...إلى قوله: فإذا قبل واحد في توثيق الراوي وإسلامه، فهو بالقبول في وجوده أولى وأحرى.
وقد أشار ابن الصلاح إلى ما ذكرته، في أن ارتفاع الجهالة في التوثيق بالواحد تقتضي أن ترتفع جهالة العين بالواحد؛ ولم يردوا عليه ذلك بحجة، وإنما ردوا عليه بكون ذلك عرف المحدثين، وقد نص جماعة من كبار المحدثين على هذا العرف.
قلت: أي عرفهم المردود المضعف، في مجهول العين.
قال: منهم: الخطيب، ومحمد بن يحيى الذهلي؛ وحكاه الحاكم عن البخاري ومسلم.
قلت: وقد صح بإقرار أهل الحديث كون البخاري ومسلم خرَّجا عمن لم يرو عنه إلا واحد.
قال ابن الصلاح ـ بعد ذكره لجماعة منهم ـ ما لفظه: في أشياء كثيرة في كتابيهما على هذا النحو؛ وذلك دال على مصيرهما إلى أن الراوي قد يخرج عن كونه مجهولاً، مردوداً برواية واحد عنه.
قلت: بل هو قادح على مصطلح أهل الحديث في صحيحيهما بكل حال؛ لتصحيحهم القول الأول، وهو عدم القبول، كما سبق.
ومع ثبوت رواية الحاكم عنهما يكون أيضاً قدحاً عليهما؛ إذْ خالفا مذهبهما، وصححا ما ليس بصحيح عندهما؛ فلا محيص لهم عن هذا الإيراد، كما لا مخرج لهم عن غيره من الفساد، والله /408(2/408)
ولي السداد.
قال السيد محمد بن إبراهيم: وذكر الذهبي ما يقتضي ذلك، فقال: زينب بنت كعب بن عجرة، مجهولة، لم يرو عنها غير واحد؛ فعلى هذا لا يكون قولهم في الراوي: (إنه مجهول) جرحاً صحيحاً عند مخالفيهم.
...إلى قوله: وقال الخطيب: المجهول عند أصحاب الحديث كل من لم يشتهر بطلب العلم في نفسه، ولا عرفه العلماء به، ومن لم يعرف حديثه إلا من جهة راوٍ واحد.
وقال الخطيب: أقل ما ترتفع به الجهالة أن يروي عنه اثنان فصاعداً من المشهورين بالعلم؛ إلا أنه لا يثبت له حكم العدالة بروايتهما عنه.
قال محمد بن إبراهيم: فزاد الخطيب في التعريف لعرفهم أمرين، لا دليل عليهما:
أحدهما: اشتهار المجهول بطلب العلم، ومعرفة العلماء لذلك منه.
قلت: كذا (اشتهار المجهول) في نسختين، وسكت عليه الشارح، وهو سهو؛ والصواب عدمه، وهو واضح.
قال: والثاني: أن يكون الراويان عنه من المشهورين بالعلم، في أقل ما ترتفع به الجهالة؛ فهذا يزيدك بصيرة في عدم قبول حكمهم بجهالة الراوي.
قال الأمير: لأنهم تعنتوا في حقيقته، وأتوا بشرائط غير صحيحة؛ لعدم الدليل عليها.
قلت: وهم على هذا في أكثر قواعدهم القاعدة، ومصطلحاتهم الفاسدة، مائلون عن الدليل، عادلون عن السبيل، راكبون للعوج، ناكبون عن واضح المنهج؛ وما العجب إلا من متابعة مثل هذين العالمين لهم: الوزير والأمير، في كثير مما لا علم فيه ولا هدى ولا كتاب منير.
وعين الرضى عن كل عيب كليلة
ولكن عين السخط تبدي المساويا /409(2/409)
وقد أنصفا في هذا الكلام؛ فلو سلكا هذا المسلك في الإنصاف والاعتراف بالحق في كل مقام.
ونعود إلى التمام، والله ولي الهداية والإنعام.
قال محمد بن إبراهيم: لأن العلم ـ على الصحيح ـ ليس من شروط الراوي؛ ولو كان شرطاً فيه لم يقبل كثير من الصحابة والأعراب، فلم تكن الصحبة بمجردها تفيد العلم.
وقد ثبت أن ذلك لا يشترط في الشهادة، وهي آكد من الرواية؛ فإذا لم تشترط في الراوي، فأولى ألا تشترط فيمن روى عنه.
[ذكر مجهول الحال في الظاهر والباطن]
القسم الثاني: مجهول الحال في الظاهر والباطن، مع كونه معروف العين؛ وفيه أقوال:
الأول: أنه لا يقبل؛ حكاه ابن الصلاح، وزين الدين عن الجماهير.
والثاني: يقبل مطلقاً، وإن لم يقبل مجهول العين.
والثالث: إن كان الراويان عنه لا يرويان إلا عن عدل، قُبِل، وإلا فلا.
قال الأمير في التوضيح: هكذا سرد هذه الأقوال ابن الصلاح، ونقلها عنه زين الدين؛ ولم يذكرا دليلاً عنهم، كما فعله المصنف.
قال الوزير في التنقيح: القسم الثالث: مجهول العدالة الباطنة، وهو عدل في الظاهر؛ فهذا يحتج به بعض من رد القسمين الأولين.
..إلى قوله: قال ابن الصلاح: يشبه أن يكون العمل على هذا الرأي في كثير من كتب الحديث المشهورة عن غير واحد من الرواة، الذين تقادم العهد بهم، وتعذرت الخبرة الباطنة بهم.
قلت: وهذا يدل على أن مقصدهم بمعرفة العدالة الباطنة هي الخبرة، وأقوال المزكين؛ لأن الباطنة يتعذر عليها الاطلاع إلا بنص أو إجماع، ويستوي حينئذ قديم العهد وحديثه.
وفي كلام ابن الصلاح هذا، الاعتراف بقبولهم مجهول العدالة، الذي لم تثبت له خبرة ولا تزكية؛ فسبحان الله! ما /410(2/410)
أعجب شأن هؤلاء القوم! لا ينفكون عن التخبط والتخليط، ولا يبرحون بين إفراط وتفريط؛ تارة يتشددون فيقولون بما لا دليل عليه، وأخرى يخرجون عما اقتضاه الدليل؛ فنعوذ بالله من الخذلان، والله المستعان.
وقد نصّ بعضهم على أن المراد من العدالة الباطنة ما ذكرناه.
قال الزين: كلام الرافعي في الصوم، أن العدالة الباطنة هي: التي يرجع فيها إلى أقوال المزكين، نقله عنه في التنقيح.
قال فيه: وأطلق الشافعي كلامه في اختلاف الحديث أنه لا يقبل المجهول، وحكاه البيهقي عنه في المُدْخِل.
ونقل الروياني عن نص الشافعي في الأم: أنه لو حضر العقد رجلان مسلمان، ولا يعرف حالهما في الفسق والعدالة، انعقد النكاح بهما في الظاهر؛ لأن ظاهر المسلمين العدالة؛ ذكره في البحر.
نقل ذلك زين الدين.
[ذكر المستور]
ولما ذكر ابن الصلاح هذا القسم الأخير، قال: وهو المستور.
..إلى قوله: قال الزين: وهذ الذي نقل كلامه آخراً هو البغوي، وتبعه عليه الرافعي؛ وحكى الرافعي في الصوم وجهين في قبول رواية المستور من غير ترجيح.
وقال النووي في شرح المهذب: إن الأصح قبول روايته.
قال الوزير في التنقيح: ظاهر المذهب ـ أي مذهب الزيدية ـ قبول هذا، المسمى عندهم بالمستور.
قلت: بل الصريح المحقق للمذهب رده، كما سبق نقله الصحيح من مؤلفاتهم، وتحقيق الدليل عليه.
قال: بل قد نص على قبوله، وسماه بهذه التسمية الشيخ أحمد في الجوهرة؛ ولم أعلم أن أحداً من الشارحين اعترضه.
قلت: هذا على فرض الصحة ليس بحجة؛ وإنما هو مذهب صاحب الجوهرة، ومن قرره، ولا يفيد إضافة ذلك إلى مذهب أئمة العترة، ولا إلى غير القائل به /411(2/411)
من طائفة الزيدية، مع أن صاحب الجوهرة لم يرد به المجهول، وقد سبق للمؤلف نقل كلامه، وتفسيره بغير هذا التفسير؛ وقد وقع بينهم اختلاف في معناه واضطراب كثير.
[تخريج حديث الأعرابيين في الإهلال، وترجمة ربعي بن حراش]
قال: والأدلة تناوله، سواء رجعنا إلى العقل، وهو الحكم بالراجح؛ لأن صدقه راجح.
قلت: وهذا غير صحيح؛ فإنه مع عدم معرفة الحال بخبرة أو تزكية، لا وجه للترجيح.
قال: أو إلى السمع، وهو قبول النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ لمن هو كذلك، كالأعرابيين، بالشهادة بالفطر في رمضان.
قلت: قال المؤلف: رواه ابن كثير في إرشاده عن أبي عمير، عن أنس، عن عمومته من الأنصار، أن الناس اختلفوا في آخر يوم من رمضان؛ فقدم أعرابيان، فشهدا لأهلاَّ الهلال أمس عشية، فأمر النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ الناس أن يفطروا، وأن يغدوا إلى مصلاهم.
قلت: وأخرج خبر الأعرابيين، الإمام المؤيد بالله (ع) في شرح التجريد.
وأخرجه ابن أبي شيبة بلفظ: حدثنا هشيم، عن أبي بشر، عن أبي عمير، عن أنس: حدثني عمومتي من الأنصار، قالوا: أغمي علينا هلال شوال، فأصبحنا صياماً، فجاء ركب آخر النهار، فشهدوا عند رسول الله - صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم - أنهم رأوا الهلال بالأمس؛ فأمر رسول الله - صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم - أن يفطروا، ويخرجوا إلى عيدهم، من الغد.
وأخرجه البيهقي عن أبي عوانة، عن أبي بشر بتمام سنده، ومتنه.
وقال: رواه بمعناه شعبة، وهشيم بن بشير؛ وذكر لهما سنداً آخر.
أفاده /412(2/412)