أحاديث يسيرة.
إلى غير ذلك من الأعذار، والتمحلات الباطلة.
واسمع إلى ما قاله في التنقيح، في شأن مروان الباغي بالنص النبوي الصريح، وهو من رجال البخاري في كتابه الصحيح، وقد تكلم على رواية، ما لفظه: فهي مردودة بمروان بن الحكم، فهو مجروح عند أهل البيت، وعند غيرهم؛ بل لا يعلم في ذلك خلاف؛ وإنما روى عنه المحدثون أحاديث يسيرة، لما رواها معه غيره من الثقات، كما بينت ذلك في العواصم، انتهى.
فيقال له: أما قولك: بل لا يعلم في ذلك خلاف، فيقال: بل خالف في ذلك أصحابك، الذين شمرت في تنزيههم بما لا يرتضونه، واعتمادهم له في صحاحهم، التي التزموا ألا يرووا فيها إلا الصحيح بروايات العدول، أكبر شاهد على ذلك.
وهذا التصريح من ابن حجر بتنزيه هذا الفاسق.
قال في الهدي الساري: مروان بن الحكم.
..إلى قوله: يقال: له رؤية؛ فإن ثبتت، فلا يعرج على من تكلم فيه.
..إلى قوله: فأما قتل طلحة، فكان متأولاً فيه، كما قرره الإسماعيلي وغيره.
..إلى قوله: وقد اعتمد مالك على حديثه ورأيه، والباقون، سوى مسلم، انتهى.
وأما قولك: أحاديث يسيرة؛ فليست بيسيرة، ولو سلم، فلا يجوز الاعتماد على أمثاله في يسيرة ولا كثيرة؛ فكل ذلك محرم وخيانة للسنة الشريفة.
وأما قولك: لما رواها معه غيره؛ فهو على فرض صحته غير مخلص، بعد تنصيص صاحب الكتاب، على أنه لم يدخل فيه إلا الصحيح، والتصريح بتعديل جميع رواته، حتى صاروا يعتمدون على رجاله، وإذا رووا عنهم يقولون: برجال الصحيح.
فلو سلم له عدم الاعتماد على ذلك، فقد وقع في التغرير والتلبيس على المسلمين؛ ويلزم ألا يوثق بتعديل أحد من رجاله، الذين يروي /403(2/403)
حديثهم من غير طرقهم، وهو خلاف إجماعهم؛ بل لو لم يذكر الرواية عن غيرهم، فلا وثوق؛ لاحتمال أن عنده طريقاً لحديثهم، غير ما ذكره؛ ولا قائل بهذا منهم.
وهذا كله إنما هو مجاراة له على تكلفه وتعسفه للأعذار الفاسدة، التي هي عندهم غير مقبولة ولا مرضية؛ فإنهم مصرحون بالاعتماد على هذا المارد، وعلى أضرابه، وعلى التولي لهم، والترضي عنهم، بلا حِشمة، ولا تقية؛ وإن ندر من بعضهم فلتة في غير مقام الرواية، على سبيل المناقضة، مع إصرارهم على خلاف ذلك كما سبق، فليس بنافع، ولا موجب لتنزيه الجميع.
ولقد أحسن ابن حجر وغيره، في عدم التفاته إلى هذه التمعذرات الضئيلة، والتعللات العليلة، وتصريحه بما عندهم في شأنه؛ فرب عذر أقبح من الذنب، وقد كان أحق من صاحبنا بالانتصار لهم والذب؛ ولكن يأبى الله إلا أن يخرج على ألسنتهم ما كانوا كاتمين.
على أن هذه الفلتات التي صدرت من البعض في شأن مروان، إنما أوردوها في التشنيع عليه بقتل صاحبه طلحة بن عبيدالله، الخارج بغياً ونكثاً على أمير المؤمنين ـ صلوات الله عليه ـ وقتاله للمشؤوم الباغي، المُلْحد في الحرم، التارك للصلاة على رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ إرغاماً لآل محمد ـ صلوات الله عليهم ـ أربعين جمعة، عبدالله بن الزبير ـ حسبه الله ـ وقتله للباغي، المتولي لرأس القاسطين، النعمان بن بشير الأنصاري.
قال الذهبي في الميزان في ترجمة طلحة: إنه الذي قتله، رماه بسهم على جهة الغدر؛ وهو من جملة أصحابه.
وقال: قتل طلحة ونجا، فليته ما نجا.
وقال ابن حزم: وهو أول من شق عصا المسلمين، بلا شبهة ولا تأويل، وقتل النعمان بن بشير؛ وذكر أنه خرج على ابن الزبير، بعد أن بايعه على الطاعة...إلى آخر كلامهم.
ولم يعرجوا على ما صدر منه على سيد الوصيين، وصنو الرسول /404(2/404)
الأمين، الذي وردت فيه النصوص من رب العالمين، على لسان سيد المرسلين ـ صلوات الله عليهم ـ ولكن كفانا شهادة أصدق الصادقين؛ فإن ترضوا عنهم، فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين.
ومن اعتذاراته لهم قوله في العواصم ما لفظه: فإن قلت: فما الوجه في روايته عنهم؟ فالجواب:
...إلى قوله: إن الرواية لا تدل على التعديل، كما ذكره الإمام يحيى، وابن الصلاح.
ثم ذكر قول النووي في شرح مسلم: إنه قد روى مسلم في الصحيح عن جماعة من الضعفاء وغيرهم.
قلت: سبحان الله! وهذا بمكان من التخبطات الواضحة، والمغالطات الفاضحة.
فيقال: صحيح أن الرواية لا تدل على التعديل؛ ولكن ذلك في حق من لم يصرح بأنه لا يروي إلا عن عدل، ولم يلتزم أنه لا يدخل في كتابه إلا المختار من الصحيح.
فأما من صرح بذلك، فمعلوم أن روايته تصحيح، وأي تصحيح.
ولقد رام لهم بهذا الاعتذار، فعاد عليهم وعليه بالفساد والإهدار؛ فنقض ما أصّلوا، وحلّ ما أبرموا، وصير ما ملأوا به الأوراق، ووسعوا فيه النطاق، من الدعاوي الطويلة العريضة، بتصحيح ما اشتملت عليه كتب الصحاح، وتجاسروا عليه من دعوى الإجماع، على غير مبالاة بما وقعوا فيه من الافتضاح، عند أرباب الإطلاع، قولاً مهجوراً، وهباء منثوراً.
فإذا كانت رواياتهم في الصحاح لا تقتضي التعديل، فأي مزية بقيت لها؟ وأي معنى لما سبق له ولهم من التكثير والتطويل، والقال والقيل؟
وهكذا يتخبط في مساقط الأنظار، وميادين العثار، كل من يروم تقويم الباطل، وتعديل المائل.
وإلا فمثل هذا السيد الحافظ لا يخفى عليه ركاكة هذه التمحلات، وسخافة تلك التلونات؛ ولكن حبك للشيء يعمي ويصم.
ومع هذا فحاله أجمل، /405(2/405)
وسبيله أعدل؛ إذ لم يحمله على سلوك هذا العوج، إلا علمه بعدم استقامة ما هم عليه من اضطراب المنهج؛ ولكن العجب من طائفة من المقلدين، يدعون المشي على منارهم، والاقتفاء لآثارهم، بقلوب غلف، وآذان صم، قد غطى الباطل على بصائرهم، وغشى التقليد على أبصارهم.
لقد أسمعتَ لو ناديتَ حياً .... ولكن لا حياة لمن تنادي
إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين، وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون؛ والحمد لله رب العالمين.
[بقية الأقوال في مجهول العدالة]
هذا، والذي قدمته في تعريف المجهول وأقسامه، هو قول أهل الأصول؛ وللقوم مصطلح آخر، يخالف ذلك في بعض أحكامه، فأورده هنا على سياق ما ذكره السيد الحافظ محمد بن إبراهيم؛ فقد استوفى ذلك، واعترف ببطلان ما ابتدعوه في بعض تلك المسالك.
قال في التنقيح: قال المحدثون: في قبول رواية المجهول خلاف؛ وهو على ثلاثة أقسام: مجهول العين، ومجهول الحال ظاهراً وباطناً، ومجهول الحال باطناً.
الأول: مجهول العين، وهو: من لم يرو عنه إلا راوٍ واحد؛ وفيه أقوال، الصحيح ـ الذي عليه أكثر العلماء من أهل الحديث وغيرهم ـ أنه لا يقبل.
والثاني: أنه يقبل مطلقاً.
والثالث: إن كان المنفرد بالرواية عنه لا يروي إلا عن عدل، قُبِل، وإلا، لم يقبل. /406(2/406)
والرابع: إن كان مشهوراً في غيرالعلم بالزهد أو النجدة، قُبِل، وإلا فلا؛ وهو قول ابن عبد البر.
والخامس: إنْ زكاه أحد من أئمة الجرح والتعديل مع رواية واحد عنه، قُبِل، وإلا فلا؛ وهو اختيار أبي الحسن بن القطان، في بيان الوهم والإيهام، كتاب له.
قال: والسادس: إن كان صحابياً، قُبِل؛ وهو مذهب الفقهاء، وبعض المحدثين، وشيوخ الاعتزال.
رواه عن المعتزلة ابن الحاجب في المنتهى، واختاره الشيخ أبو الحسين في المعتمد، والحاكم في شرح العيون.
وسوف يأتي بيان هذه المسألة على التفصيل عند ذكر الصحابة.
قال: وقد عرفت أن حكاية المحدثين لهذا الخلاف تدل على أن مذهب جمهورهم أن من روى عنه عدل، وعدّله آخر غير الراوي، فهو عندهم مجهول، بل هو عندهم مجهول العين؛ لأنهم في علوم الحديث حكوا قبول من هذه صفته، اختياراً لأبي الحسن القطان فقط، وهذا قول ضعيف.
ثم ساق في وجه تضعيفه؛ لكن كلامه في التنقيح مختل التركيب، وإن كان المقصود منه واضحاً.
وقد اعترضه الشارح، ونقل كلام المؤلف الوزير في المختصر، وهو ما لفظه: فإن سمي المجهول، وانفرد واحد عنه، فمجهول العين؛ والحق عند الأصوليين أنه إذا وثقه ثقة، الراوي أو غيره، قُبِل، خلافاً للمحدثين؛ والقول الصحيح قول الأصوليين، انتهى.
(رجعنا إلى تمام كلامه في التنقيح).
قال: لا معنى لتسميته مجهولاً؛ لأنهم لم يشترطوا العلم بعينه، وبعدالته، ويوجبوا أن يبلغ المخبرون بها عدد التواتر؛ ولو اشترطوا ذلك، لم تساعدهم الأدلة عليه؛ فإن أخبار الآحاد ظنية، واشتراط /407(2/407)