فيهن مثل أجر خمسين رجلاً، يعملون مثل عملكم))، أخرجه الترمذي، وأبو داود، وزاد: قيل: يارسول الله، أجر خمسين رجلاً منا، أو منهم؟ قال: ((بل أجر خمسين منكم)).
وأخرج البخاري في خلق الأفعال من حديث أبي جمعة، ما لفظه: كنا مع رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ ومعنا معاذ بن جبل عاشر عشرة، فقلنا: يارسول الله، هل أحد أعظم أجراً منا، آمنا بك، واتبعناك؟
قال: ((وما يمنعكم من ذلك، ورسول الله بين أظهركم يأتيكم بالوحي من السماء؛ بل قوم يأتون من بعدكم، يأتيهم كتاب بين لوحين، فيقضون به، ويعملون بما فيه؛ أولئك أعظم منكم أجراً)).
وبحديث عمر يرفعه: ((أفضل الخلق إيماناً قوم في أصلاب الرجال، يؤمنون بي ولم يروني))، أخرجه الطيالسي.
قال الأمير: وهو وإن كان ضعيفاً، فإنه يشهد له ما أخرجه أحمد، والدارمي، والطبراني من حديث أبي جمعة، قال: قال أبو عبيدة: يارسول الله، أحد خير منا، أسلمنا معك، وجاهدنا معك؟ قال: ((قوم يكونون من بعدي، يؤمنون بي ولم يروني)) إسناده حسن، وقد صححه الحاكم.
وقد أوردت الاحتجاج في هذا والمعارضة من روايات القوم؛ لكون أصل الكلام معهم في هذا الباب، وإلا ففي مرويات العترة (ع) ما فيه تبصرة وذكرى لأولي الألباب؛ وقد تقدمت الإشارات إلى شيء من ذلك كما لا يخفى على ذوي العرفان بمواضع الخطاب.
هذا، وقد جمع بأن الخيرية مختلفة بالاعتبار.
فالأولون باعتبار شرف قرب العهد من أنوار النبوة، ومشاهدة أعلامها، ونحو ذلك.
والآخرون باعتبار الإيمان بالغيب، بعد انقضاء زمن الوحي، وظهور المعجزات؛ ولهذا كان أخيار /398(2/398)
الصدر الأول أخيار الأخيار، وأشرارهم أشرار الأشرار؛ ونحو ذلك من أوجه الاعتبار.
وعلى كل حال فجميع ذلك لا يفيد تعديل أفراد الرجال؛ وإنما المراد به الخصوص لما ورد في صريح الكتاب ومتواتر السنة، من النصوص الدالة على جرح طوائف منهم غير محصورة، كالناكثين، والقاسطين، والمارقين؛ حتى إن في بعضها أنه لا يخلص منهم إلا كهمل النعم، كما في أخبار الحوض المتواترة؛ وعلى جرح أفراد منهم بأعيانهم، كرؤوس تلك الطوائف الخاسرة، وهذه الأدلة المعلومة أصرح مما يتمسكون به.
(عدنا إلى تمام كلام السيد الإمام صلاح الإسلام).
قال: وهذه وإن كان ظاهرها التعميم؛ فإن الخبر المشهور المتواتر بنص أهل الحديث، وهو قوله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ لعمار: ((تقتلك الفئة الباغية))، وكذلك قوله لعلي: ((تقاتل الناكثين، والقاسطين، والمارقين))، ونحو ذلك مما يفيد العلم عند من له بحث في السير والآثار، مما يدل على بغي من حارب أمير المؤمنين وفسقه، يقتضي تخصيص محاربه ـ كرم الله وجهه ـ فإن البغي مناف للعدالة قطعاً.
ألا ترى كيف أمر ـ تعالى ـ بقتال الفئة الباغية، وقتلها؛ لخروجها عن أمره، حتى تفيء عن بغيها وغيها؟
وكل خارج عن أمره قد جعل حده القتل، فهو فاسق قطعاً؛ كيف وهو لا يُعلم مخالف في ذلك؟! بل لو خالف مخالف في ذلك، لم يعبأ بخلافه؛ فإن ذلك مكابرة وبَهْت.
...إلى قوله: والحق في هذه المسألة ـ وهو الإنصاف، والبعد عن جانب التعصب والاعتساف ـ، أنهم كغيرهم؛ لما قدمناه، مما إذا أعدته تحققت ما قلناه، ولقوله تعالى: {مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ } [التوبة:101]، وقوله تعالى: /399(2/399)
{مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ } [آل عمران:152]، مع قوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا } [هود:15]، ولما ورد في الذين يردون الحوض، فيحلؤون عنه، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، وغير ذلك...إلى آخر كلامه.
[اعتراف محمد بن إبراهيم الوزير بضعف أصول أهل الحديث]
قلت: وقد اعترف السيد الحافظ، محمد بن إبراهيم الوزير، لما كان في مقام الإنصاف، بفساد أصول أصحاب الحديث، حيث قال في التنقيح: وأما المحاربون لأمير المؤمنين (ع) فإنهم لا يخالفون في قبح فعلهم، ولا في أنهم بغاة؛ ولكنهم يخالفون الشيعة في ثلاثة أصول:
أحدها: في أنهم متأولون غير مصرحين.
والثاني: في أن مسألة الإمامة ظنية.
والثالث: في أن المخالف في القطعيات غير آثم إذا اجتهد؛ ولم تكن القطعيات معلومة بالضرورة من الدين.
فهذه أصول الخلاف بينهم وبين الشيعة؛ وأضعف أصولهم الثلاثة، هذا الأصل الأول؛ لاعترافهم بتواتر حديث عمار، وأمثال ذلك.
قال في التوضيح: وهو قوله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((إنها تقتله الفئة الباغية))، خرجه أهل الصحاح، والسنن، والمسانيد، والتواريخ، وجميع أهل البيت (ع)، وأهل الحديث، والشيعة، وحكم علماء الحديث بتواتره، /400(2/400)
منهم: الذهبي في النبلاء في ترجمة عمار؛ وهو مذهب أئمة الفقهاء، ومذهب أهل الحديث، كما نقله عنهم العلامة القرطبي، في آخر كتاب التذكرة، في التعريف بأحوال الآخرة.
...إلى قوله: وفي تخريج الزركشي على أحاديث الرافعي، ذكر ألفاظ هؤلاء المخرجين للحديث.
وقيل: عن أبي دحية أنه قال: كيف يكون فيه اختلاف، وقد رأينا معاوية نفسه لم يقدر على إنكاره، قال: إنما قتله من أخرجه؟ ولو كان حديثاً فيه شك لرده وأنكره؛ وقد أجاب علي ـ رضي الله عنه ـ عن قول معاوية، بأن قال: فرسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ قتل حمزة حين أخرجه.
وهذا من علي إلزام لا جواب عنه، انتهى.
قال الزركشي: وقد صنف الحافظ ابن عبد البر جزءاً سماه الاستظهار في طريق حديث عمار، وقال: هذا الحديث من إخبار النبي - صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم - بالغيب، وأعلام نبوته.
..إلى قوله: وهذا الحديث احتج به الرافعي، لإطلاق العلماء بأن معاوية ومن كان معه كانوا باغين؛ ولا خلاف أن عماراً كان مع علي ـ رضي الله عنه ـ وقتله أصحاب معاوية.
وقال إمام الحرمين في الإرشاد: وعلي ـ كرم الله وجهه ـ كان إماماً حقاً في ولايته، ومقاتلوه كانوا بغاة.
وقال الأستاذ عبد القاهر البغدادي: أجمع فقهاء الحجاز والعراق ممن تكلم في الحديث والرأي، منهم: مالك، والشافعي، وأبو حنيفة، والأوزاعي، والجمهور الأعظم من المتكلمين، أن علياً (ع) مصيب في قتاله لأهل صفين، كما أصاب في قتاله أهل الجمل؛ وأن الذين قاتلوه بغاة.
..إلى قوله: وأجمعوا على ذلك.
ونقل العبادي في طبقاته، قال محمد بن إسحاق: كل من نازع علي بن /401(2/401)
أبي طالب، فهو باغ؛ على هذا عهدت مشائخنا، وهو قول ابن إدريس ـ يعني الشافعي ـ.
انتهى بلفظه من تخريج الزركشي.
قلت: فقد رأيتَ كلام الحافظ محمد بن إبراهيم في هذا المقام، في الاعتراف بضعف أصولهم، واختلال أساس مذاهبهم؛ ولا سيما هذا الأصل الكبير، الذي عليه مدار القبول، في أخبار سنة الرسول ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ، وهو ينافي ما ملأ به مؤلفاته في غير مقام، من الذب عنهم، والنصرة لهم، والمنابذة لمن أنكر عليهم من نجوم العترة، وسادات الأسرة.
وانظر إلى كلامه، لما كان في مقام التجميل عليهم، والرد عنهم، حيث قال ما لفظه: ومن مهمات هذا الباب: القول بعدالة الصحابة كلهم في الظاهر، إلا من قام الدليل على أنه فاسق تصريح؛ ولا بد من هذا الاستثناء على جميع المذاهب.
وأهل الحديث، وإن أطلقوا القول بعدالة الصحابة كلهم، فإنهم يستثنون من هذه صفته؛ وإنما لم يذكروه لندوره.
ثم ساق في الاستشهاد على ما ادعاه لهم، وكل ذلك تكلف من عنده؛ لئلا تلحقهم شناعة هذا المذهب الفاسد.
وما ذكره خلاف صرائح أقوالهم وأعمالهم، فإنهم لا يستثنون أحداً.
[نماذج من تمحلاته انتصاراً لهم ـ والرد عليه]
ولم يزل في عناء من هذا، تارة يقول: إنهم لديهم متأولون.
والجواب عليه: أن هذا خلاف الكتاب، والسنة المتواترة؛ وقد أقر هو بفساد ذلك، وصرح بالرد عليهم فيما هنالك.
ومرة بأنهم يستثنونهم ويصرحون بفسقهم، ويلفق له أقاويل صدرت على جهة الندرة من أفراد منهم، في بعض من هؤلاء الفسقة المتمردين.
وليس ذلك إلا من مناقضاتهم، وإخراج الله الحق على ألسنتهم؛ وكتب الجمهور الأغلب منهم: أهل الصحاح ـ الملتزمون لصحة ما رووه ـ وغيرهم، مشحونة برواياتهم، والتصريح بقبولهم وعدالتهم.
وأخرى يعتذر بأنهم إنما رووا عنهم /402(2/402)