ومقاصدها، وما يخل بمعانيها، خلافاً لبعض السلف والمحدثين والظاهرية.
وقيل: يجوز لمن نسي اللفظ.
قلت: الحجة على جواز الرواية بالمعنى لما لم يكن متعبداً بلفظه، إجماع الصدر الأول ومن بعدهم قبل المخالف؛ ولأن المعنى هو المقصود فيما لم يدل الدليل على التعبد بلفظه.
ومما يدل عليه أيضاً: ما في الكتاب العزيز، من حكاية أقوال الأنبياء (ع) والأمم المختلفي اللغات بالعربية؛ وما فيه أيضاً من التعبير عن القضايا المتحدة بأساليب متنوعة، وعبارات متعددة.
هذا، والمسألة وتفصيل الأقوال فيها ومتمسكات أصحابها، مبسوطة في أصول الفقه.
وما كان كذلك، فإني أختصر فيه القول إحالة على ما هنالك؛ إلا أن يكون في الإشارة إليه هنا زيادة إفادة، من تقرير حجة، أو دفع شبهة، أو تحقيق بحث، والله ولي الإعانة.
[الكلام على مجهول العدالة والضبط]
قال (ع): ومتى خفي المعنى، احتيج إلى بيانه، ويسمى شرح الغريب، وبيان المشكل.
ومن أحسن موضوعاته: الفائق، والنهاية.
وقد يرد بجهالة الراوي، وهو إما مجهول العدالة، ورده أئمتنا.
قلت: المجهول اسم مفعول من الجهالة، خلاف المعرفة؛ وهي تتعلق باعتبار الراوي من جهات تتضح بمعرفة الأقسام.
فهو إما مجهول الاسم والنسب، وهو مقبول على الصحيح؛ لأن المعتبر العدالة والضبط، ومعرفتهما ممكنة، بدون معرفة الاسم والنسب.
وإما مجهول الضبط، وهو غير مقبول، كمجهول العدالة على الصحيح. /393(2/393)
والحجة في ردهما واحدة.
وإما مجهول العدالة، وهو من لم تعرف عدالته، ولا عدمها، ويقال له: مجهول الوصف، عند المحدثين؛ والصحيح أنه غير مقبول؛ لأن الفسق وما ألحق به مما يخل بالعدالة مانع بالإجماع؛ فلا بد من تحقق عدمه شرعاً، كالكفر، وذلك لا يكون إلا بمعرفة الحال؛ ولأن قوله ـ عز وجل ـ: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } [الإسراء:36]، وقوله تعالى: {إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا } [يونس:36]، دال على المنع من قبول الآحاد.
وخصص خبر المعروف بالعدالة بالإجماع، وبقي ما عداه على حكم العموم.
وقد استدل على عدم القبول بأن الأصل الفسق، كما قال عضد الدين: واعلم أن هذا مبني على أن الأصل الفسق، أو العدالة؛ والظاهر أنه الفسق؛ لأن العدالة طارئة، ولأنه أكثر.
قال سعد الدين: فهو أغلب على الظن وأرجح، وهو معنى الأصل؛ لكن في كون العدالة طارئة نظر، بل الأصل أن الصبي إذا بلغ، بلغ عدلاً، حتى تصدر منه معصية.
قلت: التحقيق أنه قبل البلوغ غير متصف بالعدالة ولا بضدها؛ وإذا بلغ اتصف بأحدهما، بعد تمكنه واختياره لما شاء منهما، فلا أصل هنا لواحد منهما؛ بل العدالة وعدمها خلاف الأصل، ولا يحكم له بشيء منهما، إلا بعد الخبرة والمعرفة بحصول أحدهما.
هذا، وأما كون الفسق ونحوه أكثر وأغلب، فلم يجب عنه السعد، وهو صحيح معلوم.
نعم، وما أوردوه من قبول الرسول - صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم - لخبر الأعرابي برؤية الهلال، فلا حجة فيه؛ لجواز معرفته لعدالته، ولأن الإسلام /394(2/394)
يجب ما قبله، ولم يحدث بعده ما ينقض العدالة.
قال أبو الحسين في المعتمد ما لفظه: ولا شبهة أن في بعض الأزمان كزمن النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ قد كانت العدالة منوطة بالإسلام، وكان الظاهر من المسلم كونه عدلاً.
إلى قوله: فأما الأزمان التي كثرت فيها الخيانات ممن يعتقد الإسلام، فليس الظاهر من الإسلام كونه عدلاً؛ فلا بد من اختباره...إلخ.
والاستدلال بقوله: ((نحن نحكم بالظاهر)) غير صحيح؛ إذ لا ظاهر مع عدم الخبرة، بل الصدق والكذب من المجهول مستويان في الاحتمال.
هذا، وقد قُدح في الخبر؛ قال المزي، والذهبي: لا أصل له.
وكذا الاستدلال بقبول الخبر بكون اللحم مذكى، وبِرِقِّ الجارية ونحوهما، استدلال في غير محل النزاع؛ إذ الخبر في تلك الأشياء مقبول مع الفسق، وهذا يشترط فيه عدمه، على أن الرواية أعلى مرتبة من هذه الأمور الجزئية؛ لأنها تثبت شرعاً عاماً، فلا يلزم من القبول فيها القبول فيما نحن فيه، كما ذكروه.
وكذا قولهم: الفسق شرط وجوب التثبت، فإذا انتفى انتفى، غير مسلم؛ غايته أنه انتفى العلم به، ولا يلزم من عدم العلم بالشيء عدمه؛ والمطلوب العلم بانتفائه، ولا يحصل إلا بالخبرة به، أو بتزكية خبير به.
أفاد معناه في المعيار، والقسطاس، وشرح الفصول.
هذا، والقول بعدم قبول مجهول العدالة هو مختار أئمتنا (ع) والجمهور، كما حكاه المؤلف (ع).
[الخلاف في عدالة الصحابة]
قال: إلا مجهول الصحابة.
قلت: والقول هذا مبني على عدالتهم؛ إما على الإطلاق، أو إلا من ظهر فسقه، وكلا القولين باطل، لا سيما القول الأول؛ فبينه وبين الحق والتحقيق لمن حكم بمقتضى البراهين المعلومة من الكتاب والسنة المجمع عليها عند كل فريق /395(2/395)
مراحل؛ وقد قدمت في ذلك ما يكفي ويشفي.
قال المؤلف (ع) في الفصول ما لفظه: أئمتنا، والمعتزلة: وهم عدول، إلا من ظهر فسقه، كمن قاتل الوصي (ع) ولم يتب.
قلت: في الحكاية عن أئمتنا (ع) نظر؛ ولقد أحسن ابن الإمام (ع) حيث قال في تعداد الأقوال:
ورابعها: ما اختاره بعض أئمتنا (ع) والمعتزلة، وهو قوله: وقيل: هم عدول، إلا من ظهر فسقه ولم يتب، كمن قاتل علياً (ع).
وقد ظهر أن المؤلف ومن تبعه اعتمدوا في كثير من الحكايات للأقوال في مباحث علوم الحديث، على كلام الحافظ محمد بن إبراهيم الوزير؛ وهو كثير المجازفة، في هذه الأبحاث؛ لما هو عليه من المعارضة، كما سبق وسيأتي؛ وذلك معلوم لا يخفى على المطلع المنصف، ولا اعتبار بالجاهل ولا المتعسف، والله ولي التوفيق.
قال في الفصول، ما لفظه: جمهور الفقهاء والمحدثين: عدول ـ أي الصحابة ـ مطلقاً، وما شجر بينهم، فمبناه على الاجتهاد.
قلت: وهذا القول واضح البطلان؛ لمخالفته صرائح البرهان.
وقد أشار السيد الإمام صلاح الإسلام (ع) في شرحه، إلى الحجج المعلومة على رده، من الكتاب والسنة، بعد سياقه لما أوردوه من الاستدلال بنحو قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا } [البقرة:143]، وقوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } [آل عمران:110]، وقوله: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ }...الآية [الفتح:29]، ((وأصحابي /396(2/396)
كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم))، وهو من الأحاديث الموضوعة، المجروح رواتها بالكذب؛ وقد أوضح محمد بن إبراهيم في التنقيح، والإمام القاسم بن محمد، وولده الحسين (ع)، في بطلانه ما يكفي.
وبما رووه في الثلاثة القرون، وهو ما رواه عمران بن الحصين، أن النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ قال: ((خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم)).
قال عمران: فلا أدري أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثة؟.إلخ. أخرجه البخاري، ومسلم، والترمذي.
وفي رواية النسائي عنه: ((خيركم قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم)) فلا أدري أذكر مرتين بعده، أو ثلاثاً؟.إلخ.
وعن ابن مسعود: أن رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ، قال: ((خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم...إلخ)) أخرجه البخاري، ومسلم، والترمذي؛ ذكر الجميع ابن الأثير في جامع الأصول.
وقد عورض بحديث: ((أمتي كالمطر، لا يدرى أوله خير أم آخره))، أخرجه الترمذي من حديث أنس، وصححه ابن حبان من حديث عمار، وله شواهد، وابن عساكر عن عمرو بن عثمان مرسلاً، بلفظ: ((أمتي مباركة لا يدرى أولها خير أو آخرها)).
وبحديث أبي ثعلبة الخشني لما سئل عن قوله تعالى: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ } [المائدة:105]، قال: أما والله، لقد سألت عنها رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ، فقال: ((ائتمروا بالمعروف، وانتهوا عن المنكر، حتى إذا رأيتم شحاً مطاعاً، وهوىً متبعاً، ودنيا مُؤثَرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بنفسك، ودع العوام؛ فإن من ورائكم أيام الصبر، الصبر فيهن مثل القبض على الجمر، للعامل /397(2/397)