اختلاف رواته؛ ويعتبر بمكانهم من الحفظ، ومنزلتهم في الإتقان والضبط.
وروي عن علي بن المديني، قال: الباب إذا لم تجمع طرقه لم يتبين خطأه؛ ثم قد تقع العلة في إسناد الحديث، وهو الأكثر، وقد تقع في متنه.
ثم ما يقع في الإسناد قد يقدح في صحة الإسناد والمتن جميعاً، كما في التعليل بالإرسال والوقف؛ وقد يقدح في صحة الإسناد خاصة، من غير قدح في صحة المتن.
[ترجمة الطنافسي وعمرو بن دينار المكي]
فمن أمثلة ما وقعت العلة في إسناده من غير قدح في المتن: ما رواه الثقة، يعلى بن عبيد.
قلت: هو الطنافسي، ترجم له السيد الإمام في الطبقات، وأفاد أنه توفي سنة تسع ومائتين، وخرج له الإمام أبو طالب، والإمام المرشد بالله، ومحمد بن منصور، واحتج به الجماعة؛ وذكر أن يحيى بن معين قال فيه: ثقة إلا في الثوري، وعنه مطلقاً.
وقال أحمد: صحيح الحديث، صالح.
وقال أبو حاتم: صدوق.
قال ابن الصلاح: عن سفيان الثوري، عن عمرو بن دينار.
قلت: هو المكي، من ثقات محدثي الشيعة، ترجم له السيد الإمام ـ رضي الله عنه ـ وقد تقدم.
قال: عن ابن عمر، عن النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ، قال: ((البيعان بالخيار...)) الحديث.
فهذا إسناد متصل بنقل العدل عن العدل؛ وهو معلل غير صحيح، والمتن على كل حال صحيح.
والعلة في قوله: عن عمرو بن دينار؛ إنما هو عن عبدالله بن دينار؛ عن ابن عمر، هكذا رواه الأئمة من أصحاب سفيان، عنه؛ فوهم يعلى بن عبيد، وعدل عن عبدالله بن دينار إلى عمرو بن دينار، وكلاهما ثقة.
قلت: لامجال للحكم بالوهم على يعلى، فمن /378(2/378)
الممكن أن يكون سفيان رواه له عن عبدالله، وللآخرين عن عمرو، ويكون في الواقع رواية الرجلين له، فلا وجه للإعلال بهذا؛ وقد أشار إلى ما ذكرته صاحب الديباج.
[الكلام على الجهر بالبسملة]
قال ابن الصلاح:
ومثال العلة في المتن ما انفرد مسلم بإخراجه في حديث أنس ـ رضي الله عنه ـ من اللفظ المصرح بنفي قراءة بسم الله الرحمن الرحيم.
فعلل قوم رواية اللفظ المذكور لما رأو الأكثرين إنما قالوا فيه: وكانوا يستفتحون القراءة بالحمد لله رب العالمين، من غير تعرض لذكر البسملة؛ وهو الذي اتفق البخاري ومسلم على إخراجه في الصحيح.
ورأوا أن من رواه باللفظ المذكور، رواه بالمعنى الذي وقع له منهم من قوله: كانوا يستفتحون بالحمد، أنهم كانوا لا يبسملون، فرواه على ما فهم، وأخطأ؛ لأن معناه، أن السورة التي كانوا يفتتحون بها من السور هي الفاتحة؛ وليس فيها تعرض لذكر التسمية.
وانضم إلى ذلك أمور، منها: أنه ثبت عن أنس أنه سئل عن الافتتاح بالتسمية، فذكر أنه لا يحفظ فيه شيئاً عن رسول الله - صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم - والله أعلم.
انتهى كلامه.
قلت: وما أحق هذا الإعلال، وأوفقه لحقيقة الحال؛ فقد علم إثباتها في القرآن الكريم، وفي الصلاة على التعميم، وعن وصي الرسول الأمين، وأولاده الأئمة الطاهرين ـ صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ـ وعلم إجماع أهل بيت محمد ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ على الجهر بها في الصلاة الجهرية؛ وقد حفلت بالروايات الصحيحة في ذلك كتب أعلام الأئمة، بل وكتب غيرهم من علماء الأمة. /379(2/379)
قال بعض العلماء: وأما كونه أقوى ـ أي الجهر بها في الجهرية ـ فلقوة أدلته وصحتها؛ فإنه روى جهر النبي - صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم - بالبسملة في الصلاة الجهرية بضع وعشرون صحابياً، كما ذكره الزين العراقي، عن الحافظ أبي أسامة؛ ذكره ابن حجر المكي.
وقال السيد صارم الدين (ع): رواية الجهر عنه ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ رواها فوق عشرين صحابياً، ورواية الإخفاء لم يروها إلا ابن مغفل ـ وهي ضعيفة ـ وأنس ـ وهي معلة ـ رواه عنه السيد الإمام، صلاح الإسلام، في شرح الهداية.
وقال البيهقي: وأما أن علي بن أبي طالب كان يجهر بالتسمية، فقد ثبت بالتواتر؛ ومن اقتدى في دينه بمتابعة علي بن أبي طالب كان على الحق، والدليل عليه قوله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((اللهم أدر الحق مع علي أينما دار)).
وقال البيهقي: وأيضاً، فإن فيها تهمة أخرى، وهو أن علياً (ع) كان يبالغ في الجهر بالتسمية؛ فلما وصلت الدولة إلى بني أمية، بالغوا في المنع من الجهر؛ سعياً في إبطال سنة علي بن أبي طالب.
ثم قال: ولا شك أنه مهما وقع التعارض بين قول أنس وابن مغفل، وبين قول علي بن أبي طالب، الذي بقي عليه طول عمره، فإن الأخذ بقول علي أولى؛ فهذا جواب قاطع في المسألة.
ثم ساق في الاحتجاج إلى أن قال: ومن اتخذ علياً إماماً لدينه، فقد تمسك بالعروة الوثقى في دينه ونفسه.
انتهى من الروض النضير.
ومثل ما نقله عن البيهقي من أول البحث، قاله الرازي بلفظه كله، في مفاتيح الغيب، وقفتُ عليه فيه.
وقال الرازي أيضاً بعد حكاية الجهر عن أمير المؤمنين ـ صلوات الله عليه ـ: إن هذه الحجة قوية في نفسي، راسخة في عقلي، لا تزول /380(2/380)
بسبب كلمات المخالفين، انتهى.
قلت: فهذا كلام المنصفين من المخالفين، والترجيح المعلوم الذي ذكره هو على فرض صحة الرواية عن أنس في النفي، وفيها ما سبق من الإعلال؛ وهي مع ذلك معارضة بروايات عنه، وفي مجموع ما روي عنه فيها اضطراب كثير.
وأما عبدالله بن المغفل: فقد رووا عنه عدم سماعه لها، والإثبات أولى من النفي، ومن علم حجة على من لا يعلم؛ لا سيما إذا كان الحجة من يدور الحق معه، باب مدينة العلم، المبين للأمة ما اختلفوا فيه بعد أخيه ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ.
ومما يزيدك بياناً، ويفيدك برهاناً، على أن المخالفين في قراءتها والجهر بها في الجهرية رفضوا الروايات الصحيحة، وعدلوا عن أقوال علمائهم وأئمتهم، الذين يزعمون الاقتداء بهم، وأنهم ائتموا في ذلك بمعاوية، إمام الفئة الباغية، الداعية إلى النار، ما صح في ذلك عن حفاظهم، ومحققي مذهبهم.
قال السيد الإمام، علم الأعلام، صلاح الإسلام، صلاح بن أحمد بن المهدي بن محمد بن علي بن الحسين بن الإمام عز الدين بن الحسن (ع) في شرح قول السيد الإمام، صارم الإسلام، إبراهيم بن محمد الوزير (ع) في الهداية: (وحذفها بدعة) ـ ما لفظه: ولذلك أن معاوية لما صلى بالناس العتمة، فترك البسملة، فناداه منادٍ: أسرقت الصلاة أم نسيت؟ أين بسم الله الرحمن الرحيم؟
احتج به ابن دقيق العيد، وذكره الرازي في مفاتيح الغيب بلفظ: فلما قضى صلاته، ناداه المهاجرون والأنصار من كل ناحية.
وفيه: وأعاد معاوية /381(2/381)
الصلاة، وقرأ بسم الله الرحمن الرحيم.
قال ابن دقيق العيد: فهذا دليل واضح على أنه قد كان يقرأ بالبسملة، وأنه أمر ظاهر؛ ولولا ذلك ما كان لنكيرهم معنى.
وقال الرازي: وهذا الخبر يدل على إجماع الصحابة على أنها من القرآن ومن الفاتحة، وعلى أن الأولى الجهر بها.
وهذا الخبر أخرجه الشافعي بلفظ: إن معاوية قدم المدينة، وصلى بهم، ولم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم، ولم يكبر عند الخفض إلى الركوع والسجود؛ فلما سلم، ناداه المهاجرون والأنصار: يا معاوية، سرقت من الصلاة، أين بسم الله الرحمن الرحيم؟ وأين التكبير عند الركوع والسجود؟ ثم إنه أعاد الصلاة، مع التسمية والتكبير.
وقال الشافعي: إن معاوية كان سلطاناً، عظيم القوة، شديد الشوكة؛ ولولا أن الجهر بالتسمية كان الأمر المتقرر عند كل الصحابة من المهاجرين والأنصار، لما قدروا على إظهار الإنكار عليه بسبب ترك التسمية.
وقال سعد الدين التفتازاني في التلويح: أما حديث الجهر بالتسمية، فهو عندهم من قبيل المشهور.
إلى قوله: إلا أنه ـ يعني أنساً ـ اضطربت رواياته فيه؛ بسبب أن علياً ـ رضي الله عنه ـ كان يبالغ في الجهر؛ وحاول معاوية وبنو أمية محو آثاره، فبالغوا على الترك، فخاف أنس.
وقال الرازي ـ بعد أن أطال الاستدلال ـ ما لفظه: إن الدلائل العقلية موافقة لنا، وعمل علي (ع) معنا؛ ومن اتخذ علياً إماماً لدينه، فقد تمسك بالعروة الوثقى في دينه ونفسه.
انتهى ملخصاً من مفاتيح الغيب.
وفي أسفار نجوم الهدى ما ينفي كل شبهة وريب. /382(2/382)