كل مصر، وفي كل وجه وناحية؛ فإذا جاءكم كتابي هذا، فادعوا الناس إلى الرواية في فضل الصحابة والخلفاء الأولين، ولا تتركوا خبراً يرويه أحد من المسلمين في فضل أبي تراب، إلا وأتوني بمناقض له في الصحابة، فإن هذا أحب إلي، وأقر لعيني، وأدحض لحجة أبي تراب وشيعته، وأشد عليهم من مناقب عثمان وفضله.
فقرئت كتبه على الناس؛ فرويت أخبار كثيرة في مناقب الصحابة، مفتعلة لا حقيقة لها، وجدّ الناس في رواية ما يجري هذا المجرى، حتى أشادوا بذكر ذلك.
...إلى قوله: فعلموا صبيانهم وغلمانهم من ذلك الكثير الواسع، حتى رووه وتعلموه كما يتعلمون القرآن.
...إلى قوله: ثم كتب إلى عماله نسخة واحدة إلى جميع البلدان: انظروا من قامت عليه البينة أنه يحب علياً وأهل بيته فامحوه من الديوان، وأسقطوا عطاءه.
وشفع ذلك نسخة أخرى: من اتهمتموه بموالاة هؤلاء القوم، فنكلوا به، واهدموا داره.
فلم يكن البلاء أشد ولا أكثر منه بالعراق، ولا سيما بالكوفة.
...إلى قوله: فظهر حديث كثير موضوع، وبهتان منتشر، ومضى على ذلك الفقهاء، والقضاة، والولاة؛ وكان أعظم الناس بلية في ذلك القرآء المراؤون، والمتصنعون، الذين يظهرون الخشوع والنسك، فيفتعلون الأحاديث؛ ليحظوا بذلك عند ولاتهم، ويقربوا مجالسهم، ويصيبوا بذلك الأموال، والضياع والمنازل، حتى انتقلت تلك الأخبار إلى أيدي الديانين، الذين لا يستحلون الكذب؛ فنقلوها ورووها...إلى آخر كلامه. /373(2/373)
[ترجمة أبي الحسن المدائني]
قلت: أبو الحسن المدائني، ترجم له السيد الإمام (ع) في الطبقات، وعده الإمام الحجة، عبدالله بن حمزة (ع)، في رجال العدل والتوحيد.
وقال في تفريج الكروب، بعد سياق هذا: وقد رأيت أن أنقل هنا ترجمة المدائني؛ ليعلم أنه من الموثوق بهم.
وأما كتاب الأحداث، فنسبته إليه تواترية، كسائر المؤلفات المشهورة بالنسبة إلى أربابها.
ونقل ترجمته من ميزان الذهبي؛ وقد رجحت أن أنقل المقصود من ذلك الكتاب.
قال في الميزان: علي بن محمد المدائني الأخباري، صاحب التصانيف، ذكره ابن عدي في الكامل، فقال: علي بن محمد بن عبدالله بن أبي سيف المدائني، مولى عبدالرحمن بن سمرة؛ ليس بالقوي في الحديث، وهو صاحب الأخبار.
...إلى قوله: وروى عنه الزبير بن بكار، وأحمد بن زهير، والحارث بن أبي أسامة.
قال أحمد بن أبي خيثمة: كان أبي، وابن معين، ومصعب الزبيري، يجلسون على باب مصعب، فمر رجل على حمار فَارِهٍ، وبِزَّة حسنة، فسلم، وخص بمسائله يحيى.
إلى قوله: فلما ولَّى، قال يحيى: ثقة ثقة ثقة.
فسألت أبي: من هذا؟
فقال: هذا المدائني.
مات المدائني سنة أربع ـ أو خمس ـ وعشرين ومائتين، عن ثلاث وتسعين سنة، انتهى.
قال في تفريج الكروب: قال ابن عرفة، المعروف بنفطويه: وهو من أكابر أهل الحديث وأعلامهم، في تاريخه ما يؤيد هذا.
قال: إن أكثر الأحاديث الموضوعة في فضائل الصحابة افتعلت في أيام بني أمية؛ تقرباً إليهم بما يظنون أنهم يرغمون به أنوف بني هاشم، انتهى. /374(2/374)
قلت: وقد أظهر الله ـ سبحانه ـ الحق، وأركس الباطل، وأرغم أهله؛ يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون، وقد خسروا الدنيا والآخرة، ذلك هو الخسران المبين.
[بحث في معنى المعل]
قال صارم الدين (ع): وقد يرد الحديث؛ لتهمة الراوي، وهو المتروك، أو لفحش غلطه أو غفلته، وهو المنكر، على رأي.
قلت: تقدم الكلام فيه.
قال: أو لوَهْمه مع ثقته؛ فإن اطلع عليه بالقرائن وجمع الطرق، فهو المعل، وهو جنس يدخل تحته الشاذ، والمنكر، والمضطرب.
قلت: أما المعل، فهو اسم مفعول من الإعلال، فعله الماضي أعل.
وأما قول كثير من أهل الحديث: (معلل) كمكرم، فهو من التعليل، وماضيه علل، مضعف، ككرّم؛ ومعناه: ألهاه بالشيء وشغله، من تعليل الصبي بالطعام، فلا مناسبة فيه.
وقول بعضهم: (معلول) خلاف القياس؛ لأنه اسم مفعول الثلاثي المتعدي، الذي هو عل؛ ولم يرد إلا الرباعي أو الثلاثي اللازم.
قال في القاموس: والعلة (بالكسر) المرض، عَلَّ يعل، واعتل، وأعله الله، فهو معل، وعليل؛ ولا تقل: معلول، والمتكلمون يقولونها، ولست منه على ثلج، انتهى.
وقال في المحكم: لأن المعروف إنما هو أعله الله، فهو معل، اللهم إلا أن يكون على ما ذهب إليه سيبويه من قولهم: مجنون ومسلول: إنهما جاءا على جننته وسللته؛ ولم يستعملا في الكلام، واستغني عنهما بأفعلت، قال: وإذا /375(2/375)
قالوا: جن، وسل، فإنما يقولون: جعل فيه الجنون والسل، انتهى.
قلت: هكذا كلامهم في عدم استعمال العرب لمعلول.
والصحيح أنه عربي مستعمل، فقد ورد في كلام سيد العَرب العَرباء، وإمام الفصحاء والبلغاء، أمير المؤمنين، وأخى خاتم النبيين ـ صلوات الله عليهم ـ قال: وكل قائم بغيره معلول.
وهؤلاء لم يحيطوا بالعربية، والمثبت أولى من النافي، ومن علم حجة على من لم يعلم.
وأما عله الثلاثي المتعدي، فالظاهر عدم وروده، والأمر كما ذكره أئمة العربية، أن القاعدة الأغلبية أن اسم المفعول والمغير الصيغة، إنما يكونان في المتعدي، فيكون جن ـ المغير الصيغة ـ ومجنون ومعلول، المستعملات في أفصح الكلام، مع عدم استعمال جنه، وعله، الثلاثي المتعدي المبني للفاعل، وإنما الوارد أجنه الله ـ تعالى ـ وأعله، مما خالف القاعدة، ولا يقدح ذلك في الفصاحة، كما هو مقرر؛ ولذلك نظائر، ولا بأس بالتأويل؛ لموافقة الأغلب، مع إمكانه، وإلا فلا يضر بعد صحته في الموثوق بعربيته؛ فاستعمال المتكلمين، والفقهاء والمحدثين، وأبي إسحاق الزجاج: لمعلول، صحيح مقبول؛ وردُّ ابنِ الصلاح، وزين الدين، ومن تبعهما كمحمد بن إبراهيم الوزير، ومحمد بن إسماعيل الأمير عليهم في ذلك، مردود.
وقول ابن الصلاح: إنه مرذول، غير مقبول؛ بل كلامه هو المرذول، كيف وقد صح من كلام مَنْ كلامه فوق كلام المخلوق ودون كلام الخالق؟
إذا عرفت ذلك، فالعلة عندهم على ما ذكره ابن الصلاح، وتبعه زين الدين، وأورد معناه في رسالة الشريف، وتنقيح الأنظار عبارة عن أسباب خفية، غامضة قادحة فيه ـ أي في الحديث ـ مع أن ظاهره السلامة.
قال ابن الصلاح: واعلم أن معرفة علل الحديث من أجل علوم /376(2/376)
الحديث وأدقها وأشرفها؛ وإنما يضطلع بذلك أهل الحفظ والخبرة، والفهم الثاقب.
قال ابن حجر على كلام ابن الصلاح: هذا تحرير الحاكم في علوم الحديث؛ فإنه قال: وإنما يعلل الحديث من أوجه، ليس للجرح فيها مدخل؛ فإن حديث المجروح ساقط واهٍ، وعلة الحديث تكثر في أحاديث الثقات؛ إن تحدثوا بحديث له علة، فتخفى عليهم علته.
والحجة فيه عندنا العلم والفهم والمعرفة؛ فعلى هذا لا يسمى الحديث المنقطع معلولاً، ولا الحديث الذي في روايته مجهول أو مضعف معلول؛ وإنما يسمى معلولاً إذا آل أمره إلى شيء من ذلك؛ وفي هذا رد على من زعم أن المعلول يشمل كل مردود، انتهى.
قلت: وقد يطلق على ما فيه علل ظاهرة، وعلى ما في روايته جرح واضح، وعلى ما ليس بقادح؛ وسيأتي ـ إن شاء الله ـ.
قال ابن الصلاح: ويستعان على إدراكها بتفرد الراوي، وبمخالفة غيره له، مع قرائن تنضم إلى ذلك، تُنبه العارف بهذا الشأن، على إرسال في الموصول.
قلت: بناء على عدم القبول.
قال: أو وقف في المرفوع، أو دخول حديث في حديث، أو وهم واهم بغير ذلك، بحيث يغلب على ظنه ذلك فيحكم به، أو يتردد فيتوقف فيه؛ وكل ذلك مانع من الحكم بصحة ما وجد ذلك فيه.
وكثيراً ما يعللون الموصول بالمرسل، مثل: أن يجيء الحديث بإسناد موصول، ويجيء ـ أيضاً ـ بإسناد منقطع أقوى من إسناد الموصول.
قلت: الصحيح أن مثل هذا لا يقدح في الصحة، وأن الحكم للوصل؛ إذ هو زيادة ثقة، وهي مقبولة، وهكذا الحكم للرفع لذلك، وسيأتي ـ إن شاء الله ـ.
قال: ولهذا اشتملت كتب علل الحديث على جمع طرقه.
قال الخطيب: السبيل إلى معرفة علة الحديث، أن تجمع بين طرقه، وتنظر في /377(2/377)