قلت: سبق البحث في هذا.
قال في تنقيح الأنظار: المنقطع، والمعضل: اختلفوا في صورتيهما؛ قال زين الدين، وابن الصلاح: المشهور أن المنقطع ما سقط من رواته راوٍ واحد غير الصحابي، انتهى.
وحكى الحاكم وغيره: أنه ما سقط منه قبل الوصول إلى التابعي شخص واحد.
وإن كان أكثر من واحد في موضع واحد سمي معضلاً، وإلا يكن ـ أي الساقط ـ أكثر من واحد في موضع واحد بل كان واحداً في موضعين، قال: فمنقطع في موضعين، ويسمى المعضل أيضاً منقطعاً، فكل معضل منقطع، وليس كل منقطع معضلاً.
قال الزين: فقول الحاكم: قبل الوصول إلى التابعي، ليس بجيد، فإنه لو سقط التابعي؛ لكان منقطعاً.
وقال ابن عبد البر: المنقطع ما لم يتصل إسناده، والمرسل مخصوص بالتابعي؛ فالمنقطع أعمّ.
قال ابن الصلاح عن بعضهم: إن المنقطع مثل المرسل، وكلاهما شاملان لكل ما لم يتصل إسناده؛ وهذا المذهب أقرب المذاهب، وقد صار إليه طوائف من الفقهاء، وهو الذي حكاه الخطيب في كفايته.
قلت: وهو الذي عليه الطائفة المرضية، والعصابة الزيدية.
[بحث في تثنية خبر كلا وكلتا وإفراده]
نعم، وعبارة ابن الصلاح، وهي: وكلاهما شاملان، ثابتة في كتابه.
قال في التوضيح: وتثنية خبر كلاهما جائز، والأولى إفراده كما في قوله تعالى: {كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ ءَاتَتْ أُكُلَهَا } [الكهف:33]، وقول الشاعر: /363(2/363)


كلانا غني عن أخيه حياته .... ونحن إذا متنا أشد تغانيا
قلت: ذكر أهل العربية أن (كلا ـ وكلتا) مفردان لفظاً، مثنيان معنى، وأنه يفرد العائد إليهما مراعاة للفظ، ويثنى مراعاة للمعنى، وهو قليل، وقد اجتمعا في قوله:
كلاهما حين جد السير بينهما .... قد أقلعا وكلا أنفيهما رابي
يصف فرسين تسابقا، فنظر للمعنى في قوله: (أقلعا) ـ أي أمسكا عن الجري ـ، وللفظ في (رابي) وهو المنتفخ من الجري؛ ومثلوا أيضاً لمراعاة اللفظ بالآية.
وأما البيت الذي ذكره، وهو: كلانا غني...إلخ، فهو مما يتعين في الإفراد نحو: كلاهما محب لصاحبه؛ لأن المعنى فيه واللفظ كلاهما مفرد، فالتمثيل به لما يصح فيه الوجهان غير صحيح.
هذا، والمعضَل، بفتح الضاد المعجمة: مشتق من الإعضال، وأعضل بمعنى استغلق واشتد، فهو لازم، وبمعنى أعياه الأمر، فهو متعدّ.
قال في التوضيح: فكأن المحدث أعضله أي: أعياه، فلم ينتفع به من يرويه عنه.
قلت: والتحقيق ما ذكره في الديباج شرح رسالة الشريف المحقق حيث قال: المعضل اسم مكان؛ وأنه في اصطلاحهم منقول عنه، لا عن اسم مفعول؛ لأنه لا اسم مفعول على تقدير كونه لازماً، وعلى تقدير كونه متعدياً، وإن جاز أن يكون اسم مفعول، لكنه لا يناسب هنا؛ بخلاف ما إذا كان اسم مكان، وبهذا /364(2/364)


القدر تظهر المناسبة بين المعنى اللغوي والاصطلاحي، ولا صعوبة فيه، وإن عده بعضهم صعباً، فتدبر. انتهى.
قال السيد صارم الدين (ع): ومَدْرك واضحه عدم التلاقي، ومعرفته ثمرة تاريخ الوفيات، ومدرك خفيه العنعنة من المدلس.
قلت: أي إذا قال المدلس: عن فلان، فهو يحتمل الانقطاع احتمالاً راجحاً؛ لأجل اعتياده للتدليس، إلا أنه غير محقق لاحتمال الاتصال، فهو خفي؛ بخلاف ما إذا قال المدلس العدل: سمعت فلاناً أو نحوه، فلا تردد في اتصاله.
قال (ع): ورواية المتعاصرين بعضهم عن بعض من غير لقاء.
قلت: وهو من الواضح كما سبق، فعدم اللقاء يكفي، سواء تعاصرا أم لا.
قال (ع): ولذلك اشترط البخاري تحقيق اللقيا ولو مرة، واكتفى مسلم بعدم العلم بانتفائه.
أئمتنا، والحنفية، والمالكية: بل يقبل مطلقاً.
قلت: وقد أوردتُ كلام الإمام الحجة المنصور بالله عبدالله بن حمزة (ع) في حكاية الكلام، وتقرير الاستدلال على صحة الإرسال، في بحث من التحف الفاطمية (ص215).
قال ابن الإمام (ع) في الغاية وشرحها: اختلف الناس في قبول المرسل، وهو ما سقط فيه راوٍ أو أكثر:
القول الأول: القبول له مطلقاً، وهو رأي جمهور أئمتنا (ع).
قلت: الصحيح أنه رأي جميعهم، كما ذكره السيد صارم الدين، ورواه /365(2/365)


عنهم الإمام المنصور بالله في الشافي.
قال ابن الإمام (ع): والمعتزلة، والحنفية، والمالكية، وأحمد ـ في أشهر الروايتين عنه ـ والآمدي، وبعض أهل الحديث.
والثاني: عدمه مطلقاً، وهو رأي جمهور أهل الحديث.
والثالث: أو من غير الصحابي فقط، يعني أنه لا يقبل المرسل من غيرهم، ويقبل منهم، وهو قول الجمهور من المحدثين؛ وذلك لأن الجهالة بالصحابي غير قادحة بناء على القول بعدالتهم على الإطلاق.
إلى قوله:
والرابع: أو مع التابعين وأئمة النقل؛ معنى هذا القول: هو عدم قبول المرسل من غير الصحابة والتابعين وأئمة النقل، وأما مرسل هؤلاء فمقبول، وهو مذهب عيسى بن أبان؛ وفي رواية عنه أنه يقبل مرسل تابعي التابعين.
الخامس، قوله: والشافعي ـ رضي الله عنه ـ يقبل المرسل إذا تأكد بما يظن معه صدقه، وذلك بأمور، منها: أنه يقبل من الرواة من لا يرسل إلا عن عدل أو عضد بقول صحابي أو فعله، أو فعل الأكثر، أو أسنده، أو أرسله غيره مختلفي الشيوخ.
قلت: والقبول هو مذهب الأئمة الأعلام، من علماء الإسلام؛ لكن الصحيح من مذهب أئمتنا (ع) ومن وافقهم، أنه يقبل مرسل العدل، الذي لا يرسل إلا عن عدل، مع اتفاق المذهب في معنى العدالة؛ وينبغي أن يحمل إطلاق المحققين على هذا.
وإنما أطلقوا باعتبار القيود الآخرة، نحو: ما ذكره السيد صارم الإسلام بعد كلامه السابق، حيث قال: إذْ هو إرسال، وسواء سقط الإسناد، أو بعض منه في أي موضع. /366(2/366)


[تفصيل في الترجيح بين المسند والمرسل]
قلت: والترجيح بين المسند والمرسل، اللذين هما على الصفة المعتبرة، مختلف فيه.
والمختار عندي أنه موضع اجتهاد، وأنه يختلف باختلاف أحوال الراوي والمروي له؛ فإن الراوي قد يكون من أئمة الدين المحتاطين، المطلعين على أحوال الراوين، والمروي له على خلاف ذلك، بحيث لو سمي له الرواة لم يعرف أحوالهم، أو يعرف معرفة غير راسخة؛ فلا شك أن الإرسال في هذه الصورة ممن لا يرسل إلا عن عدل أرجح، وفيه كفاية المؤنة بتحمل العهدة عن البحث، ونظر هذا الإمام على كل حال أقوى؛ وقد يكون الحال على العكس، فلا ريب مع ذلك أن الإسناد أولى وأحرى؛ لتلك المرجحات الأولى.
وعلى هذا الترجيح فيما بينهما من الدرجات، ومع استواء الحالين، فالإسناد أصح وأوضح؛ إذ يجوز أن يكون المرسل لم يطلع على موجب لجرح في الرواة، أو أحدهم، أو نحو ذلك؛ وبالاطلاع على الرجال يرتفع هذا الاحتمال.
وكذا من صح عنه أنه لا يروي إلا عن عدل سواء أسند أو أرسل؛ لتحمله العهدة على الإطلاق، وزيادة الاستفادة من إسناده؛ لمعرفة ثقات الرجال عنده، والوقوف على الأحوال، وبيان تعدد الطرق عند اختلاف الإسناد، وللترجيح بين الرواة مع التعارض، ولصحته بالإجماع، ونحو ذلك مما لا يخفى من مرجحات الإسناد على الإرسال.
ولم يعدل أئمة الهدى ـ صلوات الله عليهم ـ عنه في بعض الأحوال إلا لمقاصد راجحة، ومقتضيات واضحة، لاتخفى على ذوي الأنظار الصالحة، منها: قطع تشكيك المتمردين على السامعين؛ لتناول المخالفين بالطعن والجرح لثقات المرضيين، وصيانة الأعلام، من ألسن الجفاة الطغام.
ومنها: محبة التخفيف مع كثرة الاشتغال بأحوال المسلمين، وجهاد المضلين، والقيام /367(2/367)

49 / 151
ع
En
A+
A-