فقد أطلع الله العلماء الذين أمر بسؤالهم على علمه، وهو ما كان تأويله مخالفاً لتنزيله، مثل: قوله سبحانه: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ(22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)} [القيامة:22،23]، ومثل قوله: {وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ } [الزمر:67]، مما يتعلق بتنزيله، وينسب فيه إلى الله شبه خلقه الجاهلون، فأبطلوا ما ذكر الله من الأمهات المحكمات، اللواتي جعلهن بالحق شاهدات، وعلى ظاهر المتشابه ناطقات. انتهى كلامه صلوات الله عليه وسلامه.
[انقسام المتشابه، وتكهن اليهود في مدة نبوة محمد (ص)]
قلت: فتحصل من كلام أمير المؤمنين، باب مدينة علم الرسول الأمين، وكلام الهادي إلى الحق المبين ـ عليهم صلوات رب العالمين ـ أن المتشابه قسمان:
القسم الأول: هو ما لايطلع الخلق على حقيقة معناه، ولا علم عندهم على تفصيل ما أراد به الحكيم، ولا وقوف على كنه ما عناه، وليس إلا نحو ما ذكر ـ عز وجل ـ في أوائل السور، وهو المقصود في الآية الكريمة بقوله سبحانه: {وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ } كما أفاده كلام الوصي، ونجله الهادي، وغيرهما من أئمة الهدى ـ صلوات الله عليهم ـ وهو الموافق لما ورد في سبب النزول.
قال الحاكم في التهذيب ما نصه: النزول عن ابن عباس: أن رهطاً من اليهود منهم: حيي بن أخطب، وكعب بن الأشرف أتوا النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ وقالوا: بلغنا أنه نزل عليك (ألم)؟ فقال: ((نعم))، فقالوا: إن كان ذلك حقاً، فملك أمتك إحدى وسبعون سنة، فهل نزل عليك غيرها؟ قال: ((نعم، المص)) قالوا: هذه أكثر هي إحدى وثلاثون ومائة سنة.
قلت: بناء على أن الصاد: ستون، كما ذكره في هامش الكتاب./358(2/358)
(رجع إلى كلامهم) فهل غيرها؟ قال: ((نعم، ألر))، قالوا: هذه أكثر، هي مائتان، وإحدى وثلاثون سنة، فهل غيرها؟ قال: ((نعم، ألمر))، قالوا: هي أكثر، هي مائتان وإحدى وسبعون سنة، ولقد خلطت علينا يا محمد.
فأنزل الله هذه الآية...إلخ.
وذكر غير ذلك، ولكن هذا هو الراجح لموافقة ما سبق.
قلت: وهذه وإن سبق لها وضع في العربية لمعان مفهومة، وهي مسمياتها من الحروف المعلومة، إلا أنه قد علم بالنقل، وبكونه لا طائل في الدلالة عليها، أنها غير مقصودة، وأن الحكيم قد نقلها إلى معان استأثر بعلمها، واختص بأسرارها، وليس في ذلك ما يخل بالحكمة؛ إذ ليس لها ظاهر يوقع في شبهة يصير بها سامع الخطاب في لبسة؛ وما تكلفه صاحب الكشاف، وإن كان حسناً باعتبار بعض المناسبة، فهو على طريقة التخمين والتقدير.
القسم الثاني: وهو ماله معنى مفهوم، وموضوع مقصود للحكيم معلوم؛ وإنما يختلف الحمل فيه على الظاهر والتأويل، المدلول عليه بحجة العقل ومحكم التنزيل، وهو المشار إليه بقوله عز وجل: {هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ } فإنه يفهم منه بمقتضى نصوص اللغة العربية قطعاً أن المحكمات أصل لغيرهن من الآيات، وليس ذلك إلا هذا القسم، سواء أطلق عليهن اسم المتشابهات أم لا، فهن على كل حال المتأولات.
والحاصل أن الآية الكريمة أفادت التقسيم إلى محكم، وهو الأم المرجوع إليه، وإلى متأول، وهو المختلف معناه، الذي يجب رده إلى أمه، سواء أطلق عليه اسم المتشابه أم لا؛ وإلى متشابه، وهو على التحقيق الذي استأثر الله تعالى بعلمه كما سبق.
وهذا التقسيم هو الذي يدل عليه الذكر الحكيم، والعقل القويم، والنقل المستقيم.
[لا معنى للنزاع في محل الوقف باعتبار المقصود من العلم بالتأويل وعدمه في قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَهُ...}]
إذا عرفت هذا فاعلم أنه لا معنى للنزاع في محل الوقف باعتبار المقصود من العلم بالتأويل /359(2/359)
وعدمه.
أما أولاً: فلكل واحد من الوقفين وجه قويم، ومنهج مستقيم؛ فإن وقف على الجلالة، فالمقصود من المتشابه ما استأثر الله بعلمه في نحو أوائل السور، والذي أشار إليه صاحب الكشاف، وغيره، من المناسبة فيها على وجه التخمين والتقدير، لاتقاوم السابق من النقل والتفسير، وإذا ورد الأثر، بطل النظر، ولا ينبئك مثل خبير.
هذا، ونحو ما قصد معرفته إجمالاً نحو: الأعداد المذكورة، وأحوال الآخرة مما لم يتضح على التفصيل، ولا وجه فيه للتأويل، وهذا لا مانع منه، لا عند العدلية، ولا غيرهم؛ ودعوى من ادعى أنه غير ذلك مما له معنى في العربية معلوم، ويسبق إلى الأفهام منه مقصود ومفهوم، وأنه لا يراد به ذلك المقرر المرسوم ـ مجرد هذيان، ليس عليها سلطان؛ بل هي مختلة الأساس، متهدمة الأركان، مردودة بصريح العقل، وصحيح النقل، وذلك أعظم برهان.
وإن وقف على العلم، فالمراد ماله ظاهر وتأويل، يحكم به العقل ومحكم التنزيل، فيرد إليه لقيام الدليل.
وأما ثانياً: فالأوقاف سماعية، وقد يكون الوقف والمعنى غير تام، بل هو مرتبط بما بعده من الكلام، كما هو معلوم لمن له بذلك إلمام، وفي هذا كفاية، والله ولي الهداية.
قال صارم الدين (ع): ولا ما تعم به البلوى، كمس الذكر.
قلت: أي ليس مما يعلم كذبه ما ورد بنقل الآحاد فيما تعم به البلوى عملاً، كخبر مس الذكر؛ لعموم الدليل على القبول في باب العمل، كما هو مفصل في الأصول، وإنما لم يقبل أئمتنا (ع) هذا الخبر؛ لعدم صحته، ولصحة خلافه أيضاً، وقد حمل على فرض ثبوته على النسخ، كما قرر في الفقه.
قال: خلافاً لبعض الحنفية؛ فأما مخالفة قضية العقل المشروطة كذبح البهائم، فمقبول، أو سمعاً ضرورة كمخالفة أصول الشرائع، أو استدلالاً /360(2/360)
كمخالف الإجماعين.
جمهور المحدثين والظاهرية: ويرد ما سقط إسناده، أو بعض منه.
ثم الساقط إن كان واحداً من أوله، فهو المعلق.
قلت: تقدم الكلام على المعلق، وليس مقصوراً على ما ذكره صارم الدين (ع)، بل هو كما ذكروه أن يسقط من أول الإسناد راو، فأكثر، ويعزى الحديث إلى من فوق الساقط، ولو سقط الإسناد كله، فالصحيح عندهم أنه تعليق.
[تعليق على صحة كتابي البخاري ومسلم]
قال: وقبل أكثرهم تعاليق الصحيحين المجزومة.
قلت: يعني كتابي البخاري، ومسلم، على مصطلحهم.
وقبولهم لها، وردهم لغيرها، من التحكمات الواضحة، والتعصبات الفاضحة، التي ليس عليها برهان، ولا أنزل الله تعالى بها من سلطان؛ وكان يلزم قبولها ممن هو في درجتهما، أو فوق رتبتهما، وهذا على فرض صحة ما زعموه لهما، من المبالغة في الاحتياط، والتشدد في الاشتراط، والواقع بخلافه كما هو معلوم، بشهادة الخصوم، ولكن يأبى الحق إلا أن يكون واضحاً ناطقاً، والباطل بالرغم على أصحابه فاضحاً زاهقاً؛ وكم من مقام ينادي عليهم لمن عقل، ولكن كما قال عز وجل: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ } [الفرقان:44].
ولقد قال من جاراهم بغاية الإنصاف، ونهاية التسليم والاعتراف، على مقتضى ما ادعوه من السبق، وهو خلاف الحق: /361(2/361)
يقولون: صححنا الحديث بجهدنا .... نعم صدقوا لولا التعصب فيهمُ
إذا نحن عارضنا حديثاً بمثله .... أبوا غير ما قال البخاري ومسلمُ
وأقول بموجب البرهان والتحقيق، وشهادة الخصم التي هي عليه أقوى بيان وتصديق:
يقولون: صححنا الحديث بجهدنا .... وما صحّ ذا والإفك عيب ومأثمُ
وكيف وما عابوه من صنع غيرهم .... أتوه عياناً؟ كيف يخفى ويكتمُ؟
فقد سلكوا كل الذي ينقمونه .... بحق وغير الحق والله يحكمُ
شذوذاً وإرسالاً وضعفاً وعلةً .... وجرحاً صريحاً والجهالة فيهمُ
أيفلح قومٌ من ثقات رواتهم .... معاوية عمرو ومروان منهمُ
كذا الأشعري والمغيرة والذي .... حكى فسقه نصُّ الكتاب المقدّم
وقاتل سبط المصطفى مِنْ عُدُولهم .... ومادح أشقاها ابن حطان مُكْرَم
أبى الله والإسلام والعلم والتقى .... وقربى رسول الله نقبل عنهم
فهل تهمة في الدين إن لم تكن بهم؟ .... وما الجرح إن كانوا عدولاً وهم همُ؟
قل الحق يا هذا وإن رغمت له .... أنوف لعمر الله لسنا نُسَلِّم
وقل للدعاوى الفارغات وأهلها .... هلم إلى البرهان فالحق أقومُ
وقد سبق في صدر الكتاب، ما فيه بلاغ لأولي الألباب.
[الحديث المرسل وأقسامه]
قال السيد صارم الدين (ع): وردها ـ أي تعاليق الكتابين ـ الأقلون.
أو من آخره، فهو المرسل، أو ما بينهما، فإن كان اثنين مع التوالي، فهو المعضل، وإلا فهو المنقطع. /362(2/362)