أو مجازاً، فهو ممنوع بناء على أن المجاز يدخل الأعلام، وقد سبق بيانه، انتهى.
وعلى الجملة، إن فتح باب الاحتمال يتسع معه المجال، ولكنها كلها احتمالات لا تضر، ولا تقدح في الدليل القرآني أو النبوي، المعلوم صدوره عن الله ورسوله صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم، ولو سلم على الفرض أن دلالته غير معلومة، فلا ريب أنه مما أنزل الله، وأنه على كل حال أصح وأرجح.
وقد بسطتُ الكلام في هذا البحث في فصل الخطاب، والله الموفق للصواب.
قال في الفصول: وهو ـ أي الظاهر ـ إما بالوضع لغة: كالأسد، أو شرعاً: كالصلاة، أو بالعرف: كالدابة.
قلت: الأول: حقيقة لغوية في الحيوان المفترس، والثاني: شرعية في العبادة المخصوصة، والثالث: عرفية عامة في ذوات الأربع.
قال: وقد يصير نصاً لعارض.
قال صلاح الإسلام: كما إذا اقترن بالحقيقة قرينة قطعية ناصة على إرادة المعنى الأصلي، فإنه يكون نصاً في ذلك الشيء بسبب القرينة، نحو: قولنا: رأيت أسداً يفترس بقرة بمخلبه.
قلت: وكما إذا خاطب الحكيم بالحقيقة، ولم ينصب على إرادة غيرها قرينة، وكذا إذا نصبت القرينة القطعية الصارفة عن الحقيقة، فإن إرادة المجاز تصير معلومة بتلك الطريقة.
قال في الفصول: ويسمى النص، والظاهر: محكماً، ومبيناً.
والمؤول، وهو: الظاهر المحمول على المعنى المرجوح لدليل قطعي، أو ظني يصيره راجحاً ـ ولذلك رد كثير من التأويلات ـ يسمى: متشابهاً.
قلت: فالمحكم مشترك بين النص، والظاهر؛ ومميز الظاهر الاحتمال، والنص عدمه.
والمتشابه مشترك بين المجمل، والمؤول؛ ويميز المجمل كون /353(2/353)
دلالته غير واضحة، والمؤول بخلافه.
هذا، والمفهوم بخلاف المنطوق السابق، وذلك واضح، وتفصيل الأقسام والأحكام مشروح في كتب الأصول مستوفى الكلام، وإنما أشرت بما يحتمله المقام؛ لما في ذلك ـ إن شاء الله ـ من الفوائد الجسام.
وقد اتضح بهذا ما أشار إليه المؤلف (ع) من الأقسام، ولنعد إلى تمام الكلام.
[الكلام على المختلف والمردود]
قال (ع): وإن عورض، وأمكن الجمع، فهو مختلف الحديث، وتعرف كيفيته بأصول الفقه.
قلت: ومعظم مداره على أبواب العام والخاص، والمطلق والمقيد، والمجمل والمبين، والظاهر والمؤول، والناسخ والمنسوخ، ومسالك الترجيح، وغيرها مما لا يخفى على ذي النظر الصحيح.
قال (ع): وإن لم يمكن وعلم التاريخ، فهو الناسخ والمنسوخ، ولأئمتنا، وغيرهم، فيه مصنفات. قلت: ومن أجلّ مؤلفات أئمتنا فيه كتاب الناسخ والمنسوخ لصنو إمام الأئمة، وفخر أعلام هداة الأمة، العالم الكريم، عبدالله بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم ـ عليهم أفضل التحيات والتسليم ـ وغير ذلك مما قد سبق ذكره في هذا المجموع المبارك ـ إن شاء الله تعالى ـ.
قال: وإلا فالترجيح إن أمكن، وإلا فالوقف.
قلت: أي يطرح المتعارضان مع عدم إمكان الجمع بأي وجه، وعدم معرفة التاريخ، ويرجع في حكم ما وردا فيه إلى غيرهما، من شرع، أو عقل؛ كما علم في الأصول.
قال: والمردود قد يكون كذبه معلوماً عقلاً ضرورة؛ كمخالفة قضية العقل المبتوتة الضرورية، كقبح الظلم، وحسن شكر المنعم.
قلت: القضايا المبتوتة هي: المقطوعة، التي لا يمكن أن تتغير بحال، /354(2/354)
وتسمى المطلقة، وهي عقلية اتفاقاً؛ وإن ورد الشرع بتقريرها، فهو مؤكد، ولا يقال لها شرعية.
ويقابلها المشروطة، وهي التي يمكن أن تتغير، ومعنى كونها مشروطة، أن العقل يحكم فيها بحكم مهما كانت على تلك الصفة، كذبح الحيوان مثلاً، فإن العقل حاكم بقبحه مهما كان عارياً عن نفع ودفع ضرر، راجحين على الألم، وعن استحقاق؛ لكونه على هذه الكيفية ظلماً، فلما ورد الشرع بجوازه علم أن له نفعاً بذلك راجحاً، فحسنه العقل.
فما غيره الشرع من هذا فهو شرعي اتفاقاً، وما لم يغيره، فإن كان مع زيادة شرط لايقضي به العقل، كتحريم ذي ناب من السباع، ومخلب من الطير، فكذلك؛ وإن لم يغيرها، ولا اعتبر في بقائها على الأصل ذلك الشرط، فمختلف فيه، قيل: عقلي، وقيل: شرعي.
والكلام مستوفى على الجميع في الأصول.
قال (ع): واستدلالاً.
قلت: هو عطف على قوله: ضرورة، أي يكون كذبه معلوماً عقلاً استدلالاً.
قال: كمخالفة قضية العقل المبتوتة الاستدلالية، كخبر قضى بتشبيه أو تجوير، ولم يقبل تأويلاً، وبذلك يعلم أنه من وضع الحشوية؛ وليس من ذلك بعض أحاديث الصفات، الثابتة بنقل الثقات؛ لإمكان تأويلها على الأصح.
قلت: أما ما هو كذلك، فحكمه حكم ما ورد في الآيات القرآنية، وهو منزل على مقتضى حكم العقل، أو محكم التنزيل، والمعاني القويمة العربية، الحقيقية، والمجازية؛ وجميع ذلك واضح المنهج، كما قال عز وجل: {قُرْءَانًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ } [الزمر:28].
هذا فيما له معنى مفهوم، وتوجه إلينا به خطاب معلوم. /355(2/355)
لأن ما علم له في العربية استعمال بحقيقة أو مجاز، وأطلقه الحكيم، فلا بد من قصد أيهما، وحمله على أحدهما؛ ولو قصد به خلاف ما يفهم منهما لكان فيه غاية التعمية والإلغاز، والعليم الحكيم جل جلاله، لا يوقع فيما هذا حاله.
[المحكم والمتشابه]
وأما مالم يكن كذلك بأن لم يسبق له استعمال معلوم، ولا يتبادر منه معنى مفهوم، كما في أوائل السور، أو لم يقصد الاطلاع فيه على التفصيل، بل الحكمة في معرفته على الوجه الإجمالي، كعدد حملة العرش، وزبانية جهنم ـ أعاذنا الله تعالى منها ـ وتفصيل أحوال الآخرة، فليس علينا فيه تكليف إلا الإيمان به على ما أورده عليه الخبير اللطيف؛ وكلا القسمين يطلق عليه اسم المتشابه؛ لوجود المناسبة في المعنيين، وقد ترجم عنهما بالمتشابه، وفسر كل واحد منهما في بابه، قرناءُ التنزيل، وتراجمة المحكم والتأويل.
قال أمير المؤمنين، وباب مدينة علم الرسول الأمين ـ صلوات الله عليهما وعلى آلهما أهل الذكر المبين ـ: واعلم أن الراسخين في العلم هم الذين أغناهم عن اقتحام السدد المضروبة دون الغيوب، الإقرارُ بجملة ما جهلوا تفسيره من الغيب المحجوب؛ فمدح الله اعترافهم بالعجز عن تأويل ما لم يحيطوا به علماً، وسمى تركهم التعمق فيما لم يكلفوا البحث عن كنهه رسوخاً.
إلى آخر كلامه صلوات الله عليه وسلامه، وهو يناسب الوقف على الجلالة في قوله عز وجل: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ }...الآية [آل عمران:7]، ويكون المراد به القسم الثاني من المتشابه؛ وهو نحو ما في أوائل السور، وعدد الحملة والزبانية، وتفصيل أحوال الآخرة.
وقال إمام الأئمة، وهادي الأمة، الهادي إلى الحق القويم، يحيى /356(2/356)
بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم ـ عليهم التحية والتسليم ـ في تفسيره: فالمحكمات، فهنّ الآيات اللواتي ظاهرهن كباطنهن، وتأويلهن كتنزيلهن، لا يحتملن معنيين، ولا يقال فيهن بقولين، مثل قوله تبارك وتعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} [الشورى]، ومثل: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ(1)اللَّهُ الصَّمَدُ(2)لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ(3)وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ(4)} [الإخلاص]، ومثل: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا(111)} [الإسراء].
ومثل: سورة الحمد، ومثل قوله: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ }...الآية كلها [البقرة:255]، وغير ذلك؛ مما كان من الآيات المحكمات، اللاتي لا تدخلهن التأويلات، ولا تختلف فيهن القالات.
والأمهات: فهن اللواتي ترد إليهن المتشابهات، وأم كل شيء: فأصله، وأصله: فمحكمه.
إلى قوله: والمتشابهات فهن: ما حجب الله عن الخلق علمه من الآيات، اللواتي لا يعلم تأويلهن غير رب السماوات، كما قال الله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران:7].
فأخبر أنه لا يعلم تأويله إلا الله، وأن الراسخين في العلم إليه يردونه إذ لم يعلموه، وإذ حجب عنهم تأويله فلم يفهموه، مثل: يس، وحم، والمر، وطسم، وكهيعص، وألم، وألر، والمص، وص.
وما كان من المتشابه مما يحتاج الخلق إلى فهمه، /357(2/357)