الموضوع له؛ وهو ثلاثة أقسام:
القسم الأول: دلالة الاقتضاء؛ وهي ثلاثة أنواع:
النوع الأول: ما توقفت عليه الصحة العقلية، كقوله عز وجل: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ } [يوسف:82]، والذي توقفت عليه الصحة هو الأهل مثلاً؛ إذ لولا تقديره لم يصح عقلاً، فالأهل حال غير مذكورة لمذكور، وهو القرية.
النوع الثاني: ما توقف عليه الصدق، نحو قوله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((رفع عن أمتي الخطأ والنسيان))، فلولا تقدير المؤاخذة أو نحوها، لكان كاذباً؛ لوجودهما، فالمؤاخذة مثلاً حال لم تذكر لمذكور، وهو الخطأ والنسيان.
النوع الثالث: ما تتوقف عليه الصحة الشرعية نحو: اعتق عبدك عني على ألف، فهو مستلزم للتمليك؛ لأن العتق عنه لا يصح شرعاً إلا بعد ملكه، ولا يملكه إلا بالتمليك له من المالك؛ فالتمليك حال لم تذكر لمذكور وهو العبد.
القسم الثاني: دلالة الإيماء، وتسمى تنبيهاً، وهي أن يقترن الحكم الملفوظ به بوصف لو لم يكن ذلك الوصف علة لذلك الحكم كان اقترانه به بعيداً، كقوله - صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم -: ((اعتق رقبة)) المقترن بقول السائل: واقعت أهلي في نهار رمضان، فَعِلِّيَّةُ الوقاع حال لم تذكر لمذكور، وهو إيجاب العتق.
قالوا: والمدلول عليه في هذه الأقسام مقصود للمتكلم، ولا إشكال.
القسم الثالث: المسمى دلالة الإشارة اصطلاحاً.
وأما في اللغة: فالإشارة هي الإيماء، وكذا تخصيص الاقتضاء بالأنواع السابقة، وإلا فكل دليل مقتضى لمدلوله هذا، مثل الآيتين اللتين استدل بهما أمير المؤمنين صلوات الله عليه، وهما: قوله عز وجل: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا } [الأحقاف:65]، مع قوله عز وجل: {وَفِصَالُهُ فِي/348(2/348)


عَامَيْنِ } [لقمان:14]، على أن أقل مدة الحمل ستة أشهر، وليس الخطاب في الظاهر مسوقاً لذلك؛ بل هو في الأولى لبيان الوالدة، وفي الثانية لمدة أكثر الفصال، لكن لزم منه ذلك، فأقل مدة الحمل حال لم تذكر للحمل المذكور.
ومثل جواز الإصباح جنباً، فهو حال لم تذكر للصائم المذكور في قوله عز وجل: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة:187]، فإنه يلزم منه ذلك، وإن كان الخطاب في الظاهر لبيان حل المباشرة والأكل والشرب في الليل.
قالوا: والمدلول عليه في هذا غير مقصود للمتكلم، وفيه إشكال؛ إذ العليم الحكيم لا بد أن يقصد جميع ما يدل عليه خطابه صريحاً أو لزوماً، منطوقاً أو مفهوماً.
والجواب: أن مرادهم بكونه غير مقصود بالأصالة لكون الكلام غير مسوق له كما سبق، وهو مقصود بالتبعية، فلما كان كذلك نزل بمنزلة غير المقصود، هذا معنى ما ذكروه؛ وقد أشكل الفرق بين المنطوق غير الصريح، والمفهوم على كثير.
قال السعد التفتازاني في حاشيته: والفرق بينهما محل نظر، انتهى.
وأدخله بعضهم بأقسامه في المفهوم، والأول هو الصحيح، والفرق واضح؛ فإن المنطوق غير الصريح حال لأمر مذكور كما سبق، والمفهوم حال لأمر غير مذكور، كالتحريم فإنه حال للضرب المفهوم من قوله عز وجل: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ } [الإسراء:23]، وليس بمذكور، وهذا في مفهوم الموافقة.
وكعدم وجوب الزكاة، فإنه حال للمعلوفة التي لم تذكر، وإنما هي مفهومة من ذكر السائمة، وهذا في مفهوم المخالفة. /349(2/349)


نعم، وينقسم المنطوق أيضاً إلى نص وغير نص.
فالنص: لغة: الرفع، والظهور.
واصطلاحاً: المعنى المستفاد من الخطاب الذي لا يحتمل غيره، ويطلق النص أيضاً على مدلول الكتاب والسنة نصاً أو ظاهراً، فهو في مقابل الإجماع والقياس، وعلى ما يقابل التخريج، فهو قول إمام المذهب.
فإن احتمل معنى غيره، فمع الاستواء، وعدم إمكان الحمل على الجميع فمجمل، ومع عدم الاستواء، فإن حمل على المرجوح لقرائن عقلية أو نقلية صيرته راجحاً، وكذا مع الاستواء أيضاً، وقامت قرينة تعين المراد من معانيه، وتقصره عليه، فمؤول، وإن حمل على الراجح، فظاهر.
[الكلام على الظاهر]
قال في الفصول ـ وأخذه في شرح الغاية ـ ما لفظه: فالظاهر لغة: الواضح، واصطلاحاً: اللفظ السابق إلى الفهم منه معنى راجح مع احتماله لمعنى مرجوح لم يحمل عليه.
وهذا التعريف لا يشمل المشترك؛ وهو مبني على أنه مجمل ما لم تقم قرينة معينة لأحد المعاني، وهو مختار ابن الإمام (ع).
والصحيح من كلام أئمتنا (ع) أنه مع إمكان حمله على الجميع غير مجمل، وهو الذي دلّ عليه كلام المؤلف في مقدمة الفصول حيث قال في سياقه: أئمتنا، والشافعي، وجمهور المعتزلة: فيجب حمله عليها جميعاً، عند تجرده عن القرائن لظهوره فيها كالعام، فلا إجمال فيه، انتهى.
فالأولى على هذا أن يقال: هو اللفظ السابق إلى الفهم منه معان غير متنافية، ولا قرينة تقصره على بعض، أو متنافية مع القرينة المعينة للمراد، أو معنى راجح مع احتماله لمعنى مرجوح لم يحمل عليه. /350(2/350)


[الجلي والخفي]
هذا، ولم يتعرض صاحب الغاية لقسمة النص إلى: جلي، وخفي، والذي ذكره هو الجلي، وقسمه في الفصول إلى: جلي، وخفي.
قال في تعريف الجلي: هو اللفظ الدال على معنى لا يحتمل غيره بضرورة الوضع، اسماً، أو فعلاً، أو حرفاً: كمحمد، وعشرة، وطلقت، وكي.
قلت: الأول: من أسماء الأعلام، والثاني: من أسماء الأعداد، والثالث: من الأفعال، والرابع: من الحروف.
قال: وخفي، وهو: اللفظ الدال على معنى لا يحتمل غيره بالنظر لا بضرورة الوضع.
قال صلاح الإسلام (ع) في شرح قوله: بالنظر: خرج النص الجلي، فمن هنا يعلم أن زيادة لا بضرورة الوضع إنما هي للإيضاح.
قال في الفصول وشرحه: وقصره ـ أي النص ـ الفقيه العلامة الحسين بن مسلم التهامي، وهو من تلامذة الشيخ الحسن، وله كتاب الإكليل على التحصيل للشيخ الحسن...إلى قوله: والغزالي، والطبري على الأول، وهو الجلي.
قال: ويطلقه ـ أي النص ـ الفقهاء على ما دل على معنى كيف كان؛ أي سواء كانت دلالته جلية أو خفية، قطعية أو ظنية، محتملة أو غير محتملة.
ثم ساق في الظاهر ما تقدم.
قال: ودلالته ـ أي الظاهر ـ على معناه الراجح ظنية في العمليات، وإنما كان كذلك؛ لأن حقيقة الظن التجويز الراجح، وهكذا هذا؛ بخلاف النص، فدلالته فيها قطعية إذ يحصل فيه حقيقة العلم، وهو الاعتقاد الجازم المطابق. /350(2/351)


قال صلاح الإسلام (ع): وقوله: في العمليات، إشارة إلى أن دلالته في العلميات قطعية؛ لامتناع تأخير البيان عن وقت الخطاب فيها، وقد سبق تقرير ذلك في العموم والخصوص.
قلت: هكذا كلام أكثر المؤلفين في الأصول، أن دلالة الظواهر كلها في العمليات ظنية، وإن كانت باعتبار السند قطعية للاحتمال المرجوح.
وأقول، والله ولي التوفيق، إلى منهج التحقيق: إن كلامهم في ذلك غير متين ولا واضح، فإنه يقطع على إرادة الحكيم للمعنى الراجح فيما علم وروده، ولم يصدر منه دليل قطعي سنده على إرادة المعنى المرجوح، حتى يكون العدول إليه بحجة مقاومة للمعنى الراجح، وخلاف ذلك إلغاز وتعمية، يتعالى عنها الحكيم العليم.
وأما ما يحتجون به من الاحتمال، فلا نسلم بقاءه مع هذه الحال؛ وأيضاً ذلك الظني السند، وإن كان نصاً في الدلالة، فأوجه الاحتمال فيه أكثر؛ إذ يحتمل الكذب والخطأ من الراوي، والوهم، والنسخ، والمعارضة؛ ومع هذا، فقد يكون محتملاً في الدلالة، بل لعله لا يتحصل دليل مقطوع به على مقتضى ما ذكروه، فإن الأعلام، والعشرة، وهي أوضح ما مثلوا به للنصوص الجلية، قد ورد التجوز بها في غير ما وضعت له، كما أورده الجلال والرازي، فلا يبقى نصّ ولا قاطع على هذا للاحتمال.
قال في الورقات وشرحها: والنص ما لايحتمل إلا معنى واحداً كزيد في: رأيت زيداً.
قال في شرح جمع الجوامع: فإنه مفيد للذات المشخصة من غير احتمال لغيرها.
ولقائل أن يقول: إن أريد من غير احتمال لغيرها حقيقة، فالظاهر كذلك، /352(2/352)

46 / 151
ع
En
A+
A-