وجوه الجمع الرافعة للمنافاة الظاهرة.
وعلى الجملة، إن الزيادة لها حكم الخبر المستقل، فيرد منها ما يرد منه، ويقبل ما قبل.
وأما العلة: فإن كانت العلة قادحة، فالرواية غير مقبولة.
وإن كانت غير قادحة، ككثير من العلل، التي يعلل بها أهل الحديث بموجب مصطلح لا برهان عليه، فلا تضر؛ وسيأتي البحث ـ إن شاء الله تعالى ـ فيه.
وقد قيد العلة في رسم الصحيح بكونها قادحة المؤلفُ كما سبق؛ ونقله محمد بن إبراهيم الوزير عن ابن الصلاح، وزين الدين العراقي في التنقيح؛ وقد اعترضه محمد بن إسماعيل الأمير في التوضيح، بأن التقييد للعلة بقادحة، ليس في كلام ابن الصلاح.
هذا معنى كلامه، وهو غير وارد؛ فإن ابن الصلاح صرح في تفصيل رسمه بالتقييد، حيث قال: وما فيه علة قادحة.
فلا انتقاد على الوزير؛ لكن لم يتأمل الأمير في رسم ابن الصلاح، كما نقله عنه.
نعم، والتقييد بذلك هو الواضح السبيل، على منهج الدليل؛ وبه يدخل في الصحيح ما أخرجه بعض أهل الحديث، وهو ما فيه علة غير قادحة، فليس بمانع على رأيهم؛ والعجب من الأمير، حيث قال في التوضيح ما لفظه: تقييده للعلة بالقادحة أخرج منه بعض أفراد الصحيح، وهو ما فيه علة غير قادحة، فإنه غير صحيح عند المحدثين كما عرفت.
فقوله: صحيح باتفاق المحدثين مسلم؛ لكنه غير جامع؛ لخروج بعض أفراد الصحيح عندهم، كما عرفت...إلخ كلامه.
قلت: في كلامه هذا خلل واضح، فأين الاتفاق من المحدثين مع التقييد؟ وهم يشترطون السلامة على الإطلاق، فهو غير صحيح عندهم أصلاً؛ لاشتراطهم عدم العلة مطلقاً، سواء كانت قادحة أم لا؛ فعلى أي وجه يصح التسليم، عند ذي نظر سليم.
فصواب الكلام غير مسلم؛ لأن هذا القيد أدخل في /333(2/333)


الصحيح ما ليس بصحيح عندهم، وهو ما فيه علة غير قادحة، فيكون عندهم غير مانع؛ ولعله قصد أن هذا الرسم غير جامع لمسمى الصحيح على الرأيين: رأي أهل الفقه، ورأي أهل الحديث، لخروج الصحيح عنه على رأي المحدثين؛ بسبب التقييد للعلة بالقدح، وهم يعتبرون السلامة على الإطلاق، ولكن عبارته لا تؤدي هذا المعنى، ولا وجه لتسليم الاتفاق؛ وإنما المتفق على أنه صحيح ما صدق عليه رسم المحدثين، وهو ما ذكره ابن الصلاح بقوله: أما الحديث الصحيح، فهو: الحديث المسند، الذي يتصل إسناده بنقل العدل الضابط عن العدل الضابط إلى منتهاه، ولا يكون شاذاً، ولا معللاً.
قلت: فيقال: في هذا مسلّم أنه صحيح بالاتفاق، ولكنه غير جامع عند أهل الفقه؛ لخروج ما فيه علة مطلقاً، مع أن ما فيه علة غير قادحة ليس بخارج عندهم، بل هو صحيح؛ وأيضاً لخروج مرسل العدل، الذي لا يرسل إلا عن عدل، فيكون هذا الرسم غير صحيح عند أهل الفقه من الجهتين؛ فتدبر، والله ولي التوفيق.
هذا، والذي يظهر عند التحقيق، أن التقييد للعلة ليس للإخراج، بل هو للإيضاح، وأن كل علّة قادحة عند أهل الاصطلاح؛ وعلى هذا فالاختلاف راجع إلى ما يعلل به، لا إلى وصف العلة، فمن علل بشيء فهو عنده قادح، وهذا هو الوجه الصحيح الواضح؛ وما تقدم وارد على الأمير؛ لتصريحه بالتأثير، وبنائه للخلاف والوفاق، على التقييد والإطلاق.
نعم، قال صارم الدين (ع): والمختار وفاقاً للجمهور إمكان التصحيح في الأزمنة المتأخرة، لمن قويت معرفته؛ خلافاً لابن الصلاح.
قلت: وهذا من جنس مجازفات ابن الصلاح، التي ليس عليها أثارة من علم، ولا رائحة دليل، ولا يتابعه عليها من له مسكة؛ كقوله في أحاديث /334(2/334)


البخاري ومسلم: إنها متلقاة بالقبول من الأمة، سوى أحرف يسيرة؛ كما سبق.
قال في التنقيح: ولا يجب الاقتصار إلا على رأي ابن الصلاح، وهو مردود.
قال صارم الدين (ع): فإن خولف الراوي في روايته مع القوة، فالراجح هو المحفوظ، والمرجوح هو الشاذ؛ ومع الضعف الراجح هو المعروف، ومقابله هو المنكر.
[الكلام على الشاذ]
قلت: الشاذ لغة: اسم فاعل، والفعل شذ يشذ (بضم الشين وكسرها) شذاً كضرب، وشذوذاً بزنة فعول (مضموم الفاء)، وهو الكثير في مصدر الثلاثي اللازم مفتوح العين؛ والشاذ هو النادر عن الجمهور على ما في القاموس؛ وفي الصحاح: المنفرد عن الجمهور.
واصطلاحاً: اختلف فيه، فنقلوا عن الشافعي ـ رضي الله عنه ـ كما في علوم ابن الصلاح، وتنقيح ابن الوزير، أنه قال: ليس الشاذ أن يروي الثقة ما لايرويه غيره؛ إنما الشاذ أن يروي الثقة حديثاً يخالف ما روى الناس.
قلت: وهذا هو معنى ما فسره به السيد صارم الدين ـ رضي الله عنه ـ إذ المراد بالقوة في كلامه: الثقة، وبالناس في المنقول عن الشافعي: الجنس لا العموم؛ وقد صح إطلاقه على الواحد مع ظهور المراد، كما في قوله ـ عز وجل ـ: {مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ } [البقرة:199]، وفي قوله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ }...الآية، [آل عمران:173].
وعلى هذا يكون المراد مخالفة من هو أرجح منه؛ وإلا فلا وجه لنسبة الشذوذ إليه، فينطبق التفسيران، ويتفق القولان؛ وقد نقل معنى ما /335(2/335)


ذكر عن الشافعي الشريف في الرسالة.
وهذا القول هو الأول، وهو الصحيح في تفسيره.
القول الثاني:
المنقول عن الحاكم، أن الشاذ هو: الذي ينفرد به ثقة، وليس له أصل يتابع ذلك الثقة، وأنه يغاير المعلل من حيث أن المعلل وقف على علته، الدالة على جهة الوهم فيه، والشاذ لم يوقف فيه على علة كذلك؛ هذا نقله عنه ابن الصلاح، ومحمد بن إبراهيم الوزير، بنقص يسير.
ونقل الأمير عن بعضهم، أن الحاكم قال: وينقدح في نفس الناقد أنه غلط، ولا يقدر على إقامة الدليل على ذلك، ويشير إلى هذا قوله: ويغاير المعلل، انتهى.
القول الثالث:
المنقول عن أبي يعلى الخليلي القزويني، أنه قال: الذي عليه حفاظ الحديث، أن الشاذ ما ليس له إلا إسناد واحد، يشذ بذلك شيخ، ثقة كان أو غير ثقة؛ فما كان عن غير ثقة فمتروك لا يقبل، وما كان عن ثقة يتوقف فيه، ولا يحتج به؛ نقله عنه الوزير، وابن الصلاح.
إذا عرفت هذا، فقد قيده المؤلف، والشافعي، بقيدين: الثقة، والمخالفة، ووافقهما الحاكم في القيد الأول، وهو: الثقة، وقيده بقيد آخر: لا يوقف عليه.
قال ابن حجر: وهو على هذا أدق من المعلل بكثير؛ فلا يتمكن من الحكم به إلا من مارس الفن غاية الممارسة...إلخ.
قلت: بل لا يتمكن من الحكم عليه أحد، وكيف يتمكن، والحكم متوقف على الوقوف على علته، وهو لم يوقف فيه على علة، ولا يقدر على إقامة الدليل على ذلك؟
وأما الانقداح في النفس، فإن كان لوجه، فقد وقف فيه على /336(2/336)


علة، وإن لم يقدر على التعبير، فليس بشرط إلا للبيان، وإلزام الخصم؛ وإن لم، فهو من قبيل الوسواس، الذي لا اعتبار به في الشرع، وهو شبيه بما قيل في الاستحسان على أحد الأقوال؛ ولكنه هنالك قد وقف عليه، ولم يبق إلا التعبير، فالأمر يسير.
وأما هذا، فلم يوقف على بيان، فلم يبق إلا أن يستعاذ فيه بالله ـ تعالى ـ من الشيطان، ويطرحه ويمضي على منهج البرهان.
وأما القول الثالث: فلم يقيده بشيء، فهو أعم مطلقاً، وهو مشكل على القواعد غاية الإشكال، على جميع الأقوال.
أما على ما عند آل محمد (ع)، فمعلوم أنهم يقبلون خبر العدل الضابط، ولا يشترطون هذه الشرائط.
وأما عند أهل الحديث، فقد حكموا بالصحة على ما تفرد به الثقة الضابط، وكتبهم جميعاً كالبخاري ومسلم بذلك مشحونة؛ والصحة تنافي الشذوذ؛ إذ قد شرطوا في الصحيح عدم الشذوذ، كما سبق.
قال ابن الصلاح: أما ما حكم به الشافعي بالشذوذ، فلا إشكال أنه شاذ غير مقبول، وأما ما حكيناه عن غيره، فيشكل بما ينفرد به العدل الحافظ الضابط كحديث: ((إنما الأعمال بالنيات)).
ثم ساق في مثال ذلك...إلى قوله: فكل هذه مخرجة في الصحيحين، مع أنه ليس لها إلا إسناد واحد، تفرد به ثقة، وفي غرائب الصحيحين أشباه لذلك غير قليلة.
ثم حكى كلام مسلم في تفرد الزهري، وقد سبق كلامه.
قال: فهذا الذي ذكرناه، وغيره من مذاهب أئمة الحديث يبين لك أنه ليس الأمر في ذلك على الإطلاق، الذي أتى به الخليلي، والحاكم.
قلت: أما الخليلي، فنعم.
وأما الحاكم، فلم يطلق، لكنه قيده بقيد لا يوقف عليه، فليس إلا بينه وبين /337(2/337)

43 / 151
ع
En
A+
A-