وبعضهم إلى تسعة وأربعين قسماً، فصلها في التنقيح، وغيره.
[بحث في قول الترمذي: حسن صحيح]
قال صارم الدين (ع): فإن وصف الحديث بالصحة والحسن معاً، فقيل: باعتبار إسنادين.
قلت: وقد أورد عليه أن الترمذي يقول: هذا حديث حسن صحيح، لانعرفه إلا من هذا الوجه.
وأجيب: بأنه أراد لا نعرفه بذلك اللفظ، وقد ورد معناه بإسناد آخر؛ أو لانعرفه حسناً إلا من هذا الوجه، ومن غيره صحيحاً غريباً أو نحوه؛ أو يريد لا يعرف عن ذلك الصحابي، وله إسناد آخر عن صحابي آخر.
هذا حاصل ما ذكروه.
قال: وقيل باعتبار اللغة والعرف.
قلت: فيكون حسناً لغةً، وهو ما تميل النفس إليه، ويستحسن صحيحاً اصطلاحاً، ولا تنافي إلا أنه بعيد عن مقاصدهم؛ كذا أفادوه.
قال: وقيل: غير ذلك، منها: أنه صحيح في إسناده ومتنه، حسن في الاحتجاج به، ويكون هذا الحسن هو الحسن اللغوي؛ وهذا لمحمد بن إبراهيم الوزير.
قال في التنقيح: وهذا الجواب عندي أرجحها؛ لأنه لايرد عليه شيء من الإشكالات.
قلت: قد أورد عليه الأمير في التوضيح إيرادات ركيكة، منها: أن الحسن اللغوي ما تميل إليه النفس، ولا يأباه القلب، وهو صفة اللفظ، وليس من مدلولها الاحتجاج به.
قلت: وهذا غير صحيح، فإن الحسن اللغوي أعمّ من ذلك؛ فهو يطلق /328(2/328)


على ما حسن من كل شيء، كما نص عليه أهل اللغة، فتستوي فيه الألفاظ والمعاني وغيرها قطعاً، فلا وجه لتخصيصه لغة ولا شرعاً؛ ومنع إطلاقه على الاحتجاج، غفلة أو لجاج؛ وبقية إيراداته على هذا المنهاج.
وأتى في الديباج بوجه آخر حاصله: أنه للاختلاف بين أهل الحديث في ناقله، فهو عند بعض ظاهر العدالة، تام الضبط؛ فهو على رأيه صحيح.
وعند بعض خفيف الضبط والعدالة، فهو عنده حسن؛ فأشار بذلك إلى المذهبين.
قلت: وهذا وجه حسن صحيح، ولا مانع، وكلها محتمل؛ والعمدة على ما عند صاحب الإطلاق في الواقع؛ وعلى كل حال، فلا مجال لصاحب الإطلاق من الإخلال، فما كان ينبغي له أن يستعمله مع ظهور التدافع من غير تبيين للمقصود؛ لما فيه من الإلغاز والإجمال.
نعم، قال السيد صارم الدين (ع): وإن وصف بالغرابة، والحسن، فباعتبار حال الإسناد؛ مثل: أن يسند الحديث غير واحد بإسناد حسن إلى آخر الحفاظ، لكن ذلك الحافظ، ومن فوقه تفرد به؛ فهو عنه إلى أسفل حسن غير غريب، ومنه إلى فوق حسن غريب.
قلت: قد تقدم له تعريف الغريب، والعزيز، والمشهور، والمتواتر، وهذه الأربعة أقسام الأخبار.
وأما المستفيض، فهو عنده وعند بعض أهل الحديث مرادف للمشهور، على ما سبق؛ وعند بعضهم فيه كلام آخر وسيأتي.
فالغريب والعزيز من الآحاد، والمشهور أعمّ، والثلاثة الأقسام تدخلها الثلاثة الأنواع: الصحة، والحسن، والضعف كما سيتضح ـ إن شاء الله ـ ولا بأس بزيادة الإيضاح؛ لبيان الاصطلاح. /329(2/329)


[الكلام على الحديث الغريب]
فأقول والله ولي التوفيق:
القسم الأول: الغريب.
وهو: لغة: صفة مشبهة، مشتقة من الغرابة والغربة، ومعناهما: البعد والانفراد، فهو البعيد والمنفرد.
واصطلاحاً: ما انفرد بروايته كله أو بعضه واحد.
قال ابن الصلاح: وكذا الحديث الذي تفرد فيه بعضهم بأمر لا يذكر فيه غيره، إما في متنه، وإما في إسناده.
وقال الشريف الجرجاني: والغريب إما صحيح كالأفراد المخرجة في الصحيح.
وغير صحيح، وهو الأغلب.
والغريب أيضاً، إما غريب متناً وإسناداً، وهو: ما انفرد برواية متنه؛ أو إسناداً لامتناً، كحديث يعرف متنه عن جماعة من الصحابة، إذا انفرد واحد بروايته عن صحابي آخر، ومنه قول الترمذي: (غريب) من هذا الوجه؛ ولا يوجد ما هو غريب متناً لا إسناداً، إلا إذا اشتهر الحديث الفرد، فرواه عمن تفرد به جماعة كثيرة، فإنه يصير غريباً مشهوراً.
قلت: يكون غريباً باعتبار طرفه الأول، وهو رواية المتفرد به؛ ومشهوراً باعتبار طرفه الآخر، وهو رواية الجماعة عنه؛ وقد مثلوا لهذا بحديث: ((إنما الأعمال بالنيات))، رواه كل واحد من الستة: البخاري، ومسلم، وأبي داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، بسنده إلى يحيى بن سعيد الأنصاري ـ وليس القطان، الذي تكلم في الصادق (ع) ـ عن محمد بن إبراهيم، عن علقمة، عن عمر بن الخطاب.
قلت: وقد صحّ معناه برواية أئمتنا (ع)، وقد تقدم، والكتاب العزيز يشهد له: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } [البينة:5]، ولا يمكن /330(2/330)


الإخلاص إلا بنية.
نعم، ويطلق على كتب هؤلاء (الصحاح)، قالوا: تغليباً، وإلا فلم يلتزم الصحة إلا البخاري، ومسلم؛ وبعضهم يجعل مكان ابن ماجه موطأ مالك، ويقال لهم: الستة والجماعة؛ وهذا عارض.
نعم، قال ابن الصلاح بعد إيراده، وسياقه لهذا الخبر وغيره ما لفظه: وكل هذه مخرجة في الصحيحين، مع أنه ليس لها إلا إسناد واحد.
إلى قوله: وفي غرائب الصحيح أشباه لذلك غير قليلة، وقد قال مسلم بن الحجاج: للزهري نحو تسعين حرفاً، يرويه عن النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ لا يشاركه فيها أحد.
قلت: وهكذا كلامهم جميعاً، وفيه رد على من قدح في رواية بعض أعلام الشيعة بالتفرد، مع وضوح العذر له، بما هو معلوم للأمة؛ وهذا صحيحهم، بل أصح كتبهم عند جمهورهم، كتاب البخاري غريب متفرد به، انتهت رواياتهم جميعاً له إلى الفربري، واعتذر بعذر يقرب من المستحيل عادة، وهذا معلوم، ولكن التعصب لا حيلة فيه.
هذا، ويطلق الغريب على ما في متون الأحاديث، من الألفاظ، التي معانيها خفية على من لا ممارسة لهم في اللغة، والبحث عنها في علم العربية؛ وقد صنف في غريب الحديث مصنفات مبسوطات.
[الكلام على الحديث العزيز]
القسم الثاني: العزيز.
وفعله عَزّ يعز (بالكسر) عزاً وعزة وعزازة: صار عزيزاً، وبمعنى: قوي، وبمعنى: قل. ويعز (بالفتح) إذا اشتد، وقياسه: أن تكون عين الماضي مكسورة كشرب؛ إذ ليس عينه أو لامه حلقياً كسأل ومنع، حتى يجوز فتح العين في /331(2/331)


ماضيه ومضارعه؛ وما ورد على خلاف ذلك، فشاذ، كما ذكروا في الصرف.
وهو في الاصطلاح: ما رواه اثنان لا غير، على ما تقدم، وعند بعضهم: أو ثلاثة.
والمناسبة بين المعنى اللغوي والاصطلاحي حاصلة، سواء كان بمعنى القوة؛ إذ قد تقوت رواية الواحد بالثاني، أو بمعنى القلة؛ إذ هي قليلة باعتبار ما فوقها.
[الكلام على الحديث المشهور]
والقسم الثالث: المشهور.
اسم مفعول، من الشهرة (بالضم)، وهي: الظهور، وفعله شهر، من باب منع.
وهو في الاصطلاح مما اختلف فيه كلامهم، فقيل: ما رواه فوق اثنين كما تقدم له، وقيل: ما رواه فوق الثلاثة، وقيل: هو الذي شاع عند أهل الحديث خاصة، وقيل: عندهم، وعند غيرهم، بأن رواه كثيرون.
ويرادفه المستفيض، اسم فاعل من مزيد الثلاثي، وزيادة السين والتاء فيه للمبالغة، يقال: فاض الماء يفيض فيضاً، إذا زاد حتى خرج من جوانب الإناء؛ أفاده في شمس العلوم؛ وفي القاموس: كثر حتى سال.
قال: والخبر شاع.
قلت: وقد يبلغ حد التواتر، وبعضهم يخص المستفيض بما رواه أكثر من ثلاثة.
هذا، والغرابة، والعزة، والشهرة، والاستفاضة لا تنافي الصحة، ولا الضعف، إذ ليست إلا باعتبار العدد، من غير نظر إلى العدالة والضبط.
قال السيد صارم الدين (ع): وزيادات رواة الصحيح والحسن مقبولة، ما لم تقع منافية لرواية من هو أوثق منه.
قلت: أما المنافاة، فالمراد منها الحقيقية، التي لا يمكن الجمع معها بتأويل، ولا تعميم وتخصيص، ولا إطلاق وتقييد، ولا نسخ، ونحوها من /332(2/332)

42 / 151
ع
En
A+
A-