القربى، الذين يرونها من أجلّ القرب، وأنفع ذخائر العقبى.
ثم ابتدأ في تعدادهم، وسيأتي البحث في ذلك مستكملاً ـ إن شاء الله تعالى ـ.
[سبب اعتناء صارم الدين بتأليف علوم الحديث]
قال: ثم إن المصنفين من أئمتنا وعلمائنا جمعوا في كتب الفروع، بين أقوال أهل البيت، وبين أقوال غيرهم من الصحابة والتابعين، والفقهاء الأربعة وأتباعهم وغيرهم؛ بخلاف أتباع الفقهاء، فإنهم لا يذكرون أقوال أهل البيت وأتباعهم، ولم يتعرض أحد منهم لجمع طرق الأحاديث في كتبنا وكتبهم، وإضافة كل حديث إلى من خرجه منا ومنهم، وانفرد به؛ وكان الاعتناء بذلك أولى من الجمع بين المذاهب؛ لثمانية وجوه:
الأول: أن مذاهب الجميع في الفروع مسندة إلى الأحاديث في الغالب، وصادرة عنها؛ فالاشتغال بتحقيقها ومعرفة رواتها ومن خرجها من الشيعة والسنية أقدم، والعناية بالكلام عليها لاستناد المجتهدين إليها أولى وأهم؛ إذ الاشتغال بالأصول أحق بالتقديم من الاشتغال بالفروع.
[جواز الجمع بين الصلاتين تقديماً وتأخيراً]
الثاني: أن تلك الأحاديث إذا اتفقت عليها الروايات، وتطابق على نقلها الأئمة الأثبات، سواء اتفقت أسانيدها أو اختلفت، ازدادت قوة، والتحق حسنها بالصحيح رتبة، وترجحت على معارضها الذي ليس كذلك.
وقد سلك هذه الطريقة الإمام الهادي (ع) في كتاب المنتخب، فاحتج على جواز الجمع بين الصلاتين العجماوين، والعشائين للمعذور، للأحاديث التي روتها العامة في كتبها من طريق عبد الرزاق، عن مشائخه كمعمر، وسفيان، وعمرو بن دينار، وإبراهيم بن محمد بن يزيد.
ثم قال: وإنما احتججنا برواية الثقات من رجال العامة؛ لئلا يحتجوا فيه بحجة، فقطعنا حججهم بروايات ثقاتهم. /301(2/301)


قلت: قوله: (للمعذور) تقييد من المؤلف، فأما كلام إمام الأئمة (ع) في المنتخب، فلم يفصل؛ بل هو دال على الجواز مطلقاً للمعذور وغيره لاستدلاله (ع) بقوله عز وجل: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ }...الآية [الإسراء:78]، وقوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ } [هود:114].
وقوله في خبر جبريل (ع): فروى القوم هذا الخبر مجملاً، ولم ينظروا فيه نظراً شافياً، حتى يتبين لهم فيه مواقيت الصلوات.
...إلى قوله: واعلم ـ وفقّك الله ـ أنه لما صح هذا الخبر عن رسول الله - صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم - أنه صلى الظهر في أول يوم حين زالت الشمس، وصلى العصر وظل كل شيء مثله، ثم صلى من الغد الظهر وظل كل شيء مثله، وصلى العصر وظل كل شيء مثلاه، علمنا أنه قد صلى في أول يوم العصر في وقت الظهر التي صلاها من الغد، فأجاز ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ بفعله هذا صلاة الظهر في وقت صلاة العصر، وصلاة العصر في وقت صلاة الظهر؛ لأنه صلى الظهر والعصر وظل كل شيء مثله، فوجب بفعله هذا أن وقت الظهر كله وقت للعصر، ووقت العصر كله وقت للظهر؛ لأنه من زوال الشمس إلى أن يصير ظل كل شيء مثله وقت واحد ممدود لا مرية فيه، وقد صلى رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ في هذا الوقت الواحد الظهر والعصر عند زوال الشمس، فقد أدى الصلاتين في أوقاتهما؛ لأن أول الوقت كآخره، وآخر الوقت كأوله في تأدية صلاتهما غير متعد؛ لفعل رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ، وكذا من صلاهما في آخر/302(2/302)


الوقت، فقد صلاهما في أوقاتهما.
...إلى قوله (ع): قد بينت لك فيما شرحت لك، وأوجبت أن وقت الظهر كله وقت للعصر، ووقت العصر كله وقت للظهر.
ثم ساق الأخبار..إلى قوله: فهذه أخبار صحيحة موافقة لكتاب الله، أن وقت الظهر والعصر من زوال الشمس إلى الليل، ووقت المغرب والعشاء إلى الفجر، وهو قول ثابت، وهو قول جدي القاسم بن إبراهيم ـ رحمة الله عليه ـ، وبه نأخذ.
والدليل على صحة هذا القول وثباته، أن رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ جمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء في المدينة من غير سفر، ولا خوف ولا مطر.
ثم ساق الروايات في ذلك.
قلت: وتفسير الجمع بتأخير الأولى، وتقديم الأخرى غير صحيح؛ لأن الجمع حقيقة شرعية في جمع صلاتين في وقت واحد، كما ذكره المؤيد بالله في شرح التجريد، وما ذكر جمع لغوي، والحقيقة الشرعية مقدمة على اللغوية؛ وكذا لا يضر احتمال الجمع للتقديم والتأخير، إذْ قد بطل بثبوته القولُ بعدم جواز الجمع، سواء كان جمعه ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ تقديماً أو تأخيراً؛ فلم يبق إلا القول بجوازه.
والذي يتحرر على تحقيق النظر، ويدور عليه كلام نجم آل الرسول، وحفيده إمام الأئمة ـ سلام الله عليهما ـ في الجامعين: المنتخب والأحكام، ومن معهما في مسألة الجمع ـ هو القول الوسط، لا الإفراط ولا التفريط؛ فلا يقال بالوجوب البت، والحكم بلزوم كل صلاة في وقت، وترك التأسي بفعله وقوله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ في الترخيص، وإرادة رفع الحرج على أمته ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ.
ولا باتخاذ الجمع خُلقاً وعادة على الاستمرار، وإهمال /303(2/303)


الأوقات التي لازمها رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ وشرع الدعاء فيها بالنداء على التكرار، سيما أهل عمارة المساجد الذين لامندوحة لهم في ذلك ولا عذر من الأعذار.
وأما مع العذر أو السفر، فلا كلام في الجواز عند أئمة العترة والشيعة وغيرهم من علماء الأمة، وهذا القول هو الراجح على مقتضى الدليل؛ واستيفاء الكلام على أطرافه يحوج إلى التطويل، وهو مبسوط في محله؛ والمسألة نظرية، والتخطية والتأثيم فيها وفي غيرها من المسائل الاجتهادية، لا وجه لهما، مهما كان البناء على الإنصاف والنظر في الدليل؛ بل هي في جنبة المُخَطّي والله الهادي إلى خير سبيل.
(رجع) إلى كلام السيد صارم الدين (ع).
قال: وكذا الإمام المنصور بالله في كتاب الشافي روى أحاديث فضائل العترة من طريق أهل البيت (ع) وشيعتهم، ومن طريق المحدثين والفقهاء؛ قال: وإنما فعلنا ذلك من كلا الطريقين؛ ليقع التمييز بين الروايتين، وتلزم الحجة بإجماع النقلين، والحق عند أهل الإسلام لا يعدو هاتين الطائفتين، وكل يدعي ذلك لنفسه؛ فإذا اتفقوا على أمر واختلفوا في أمر آخر، كان ما اتفقوا عليه أولى بالاتباع مما اختلفوا فيه، فليس برد الحق ينتصر القاصر، ولا بدفع الأدلة ينتفع المكابر.
الثالث: سكون كل واحد من الشيعة والسنية برواية سلفه، وما يحصل بذلك من الاتفاق، والأمن من غوائل الاختلاف والافتراق، وعدم التعرض حينئذ للقدح في الرواية بحصول الاتفاق على المروي، والكروع نهلاً وعَلَلاً من عين ذلك المنهل الروي. /304(2/304)


الرابع: أنه قد يكون في بعض الروايات زيادة يحصل بها تخصيص عام، أو تقييد مطلق، أو تبيين مجمل، أو بيان وهم راوٍ، والمخالفة لرواية من هو أوثق منه، ونحو ذلك من الفوائد التي تحصل بمعرفة الرواية.
الخامس: أن في ذلك إرغاماً لأنوف النواصب، وتكذيباً لما زوره لسان مفتريهم المناصب، بإيراد الأحاديث المروية من طريق أهل البيت (ع) وأتباعهم، من طريق المحدثين، فيكون دعوى تضعيفها منهم حينئذ مشتركة الإلزام، بينهم وبين العترة الكرام.
قلت: ويبطل ذلك الإلزام، بإجماع علماء الإسلام.
قال: السادس: السلامة من الاغترار بمطلق الترجيح والتضعيف، إذا اختلفت الأحاديث، واحتج كل طائفة بحديث منها، ورجحته بأحد المرجحات، وضعف معارضه بما يوهيه من المضعفات، وكثيراً ما يقع ذلك في الكتب المقصورة على ذكر أدلة الأحكام، وبيان ما يحتج به كل في الحلال والحرام، وتجول فيها خيول النصوص في ميادين التراجيح، وتوزن فيها أدلة العموم والخصوص بموازين النقاد المراجيح؛ فإنك تجدهم طالما يرجحون المفضول على الفاضل، ويجرحون بما يعده خصومهم من أعلى المراتب والفضائل، كالقدح بالتشيع؛ وتجد المتكلم منهم على أحاديث مذهبه يتغاضى عمن روى حجته وإن كان مجروحاً أو ضعيفاً، ويتطلب الجرح لمن روى ما يخالفها وإن كان ثقة عفيفاً؛ فيحتاج إلى معرفة ذلك في هذا المقام، فكم من حديث قد ضعفوه بذلك، ورجحوا عليه المرجوح، ونالوا من أعراض قوم لا تزال أرواحهم في الجنان تغدو وتروح.
السابع: أن المحدثين قد شابوا كتبهم بذكر أعداء أهل البيت ـ عليهم/305(2/305)

37 / 151
ع
En
A+
A-