الوجيز، والرافعي في شرحه المسمى بالفتح العزيز، وغيرهم من فقهاء المذاهب الذين لا عناية لهم بعلم الحديث؛ فإنهم يحتجون بالأحاديث الصحيحة والضعيفة، والمنكرة والموضوعة والواهية، التي لا يعرف لها أصل في كتب الحديث، حتى أن هؤلاء الفقهاء يضيفون الحديث إلى الصحيح، ويقولون: متفق على صحته، أو لايتطرق إليه التأويل، أو ينسبونه إلى البخاري أو مسلم، وليس منهما، ويغيرون ألفاظه، ثم يفسرونه بغير المراد.
قال المحدثون: وإنما أوقعهم في ذلك اطراح صناعة علم الحديث، التي يفتقر إليها كل فقيه وعالم، وقد وقع للجويني والغزالي وغيرهما من جميع فقهاء المذاهب ما يتعجب منه.
قال: والتحقيق أن لكل فن رجالاً يقدمون فيه على غيرهم، إلا لمانع، كمن عرف منهم بتعصب، أو غير ذلك، مما يمنع من قبول قوله، مثل: استناده إلى أصل مرفوض، كقبول من علم أنه فاسق تصريح، بناء منه على أنه عدل، أو مخطئ متأول؛ وهذه آفة قد أصيب بها كثير من الحشوية والنواصب.
[إقبال علماء الشيعة واشتغالهم بعلم العترة، والتقريع على من أهمل ذلك]
واعلم أنه كان لقدماء الشيعة اشتغال بعلوم العترة شديد، وإعراض عن علوم غيرهم، وعناية كلية بالحديث واستماعه وإسماعه، وتصحيح طرقه؛ ومن أحب ذلك طالع ما ذكرناه من الكتب المتقدم ذكرها، وغيرها.
وقد صنف الحافظ العلامة أبو جعفر محمد بن جرير بن رستم الشيعي كتاباً في الرواة عن أهل البيت.
وكان لهم أيضاً إقبال على مصنفات العترة، وحرص /296(2/296)
على حفظها وجمعها، حتى لقد اجتمع منها كتب كثيرة، منها ما هو بخط الإمام المرتضى محمد بن يحيى (ع)، وكانت مرجع أهل ذلك العصر.
ثم إنه لم يزل الأمر يضعف، والدَّخَل يكثر، حتى ذهب أكثر تلك الكتب، واستغني عن مكنون علمها بمصنفات أحدثها المتأخرون؛ لكنهم كثروها بعلوم العامة، فجمعوا فيها بين الغث والسمين، والمخشلب والدر الثمين، واشتغل بها أهل هذه الأزمنة المتأخرة، وأعرضوا عن تلك الكتب النافعة بالكلية، وفيها من الزيف والدغل ما لا يخفى على صيارف الشيعة ونقادهم، فضعف بذلك أمرهم، وكثر الطعن عليهم من خصومهم، حين رأوهم أخذوا من علومهم وكتبهم، وأعرضوا عن المصنفات القديمة لأئمتهم، وعن حديثهم.
ولما انتشرت كتب المحدثين في الأقطار، وطارت في جميع الآفاق كل مطار، وأقبل عليها الناس من جميع المذاهب، اشتغل بقراءتها خلق كثير من أهل المذاهب، واعتمدوا عليها، وفيها حق شِيْبَ بباطل، كبعض أحاديث الفضائل، وشهد قد خُلِطَ بسمّ قاتل، كالأحاديث التي ظاهرها التشبيه والجبر.
...إلى قوله: حتى كاد يغرس في قلوب بعض من اعتمدها من أهل مذهبنا شجرات، يجتنى من باطلها ثمرات، والأمر في ذلك كما قيل في المثل: من يَسمع يَخَل.
وقل من اشتغل بعلم مخالف معاند، وشبه زائغ حائد، فسلم من اعتقاد فاسد؛ كما وقع ذلك لمن اشتغل بعلم الفلاسفة من المتشرعين، ولمن اقتصر على أخذ علم الحديث من كتب فقهاء المحدثين، وقصرت همته عن معرفة كتب أهل البيت المطهرين؛ ولقد وجدت ذلك من نفسي أيام قراءتي لكتب الحديث من كتبهم، مع شدة تمسكي بمذهب العترة (ع)، فلولا تثبيت الله لي لقد كدت أركن إلى بدعهم شيئاً قليلاً، وأميل عن طريقة /297(2/297)
الشيعة التي هي أهدى سبيلاً، وهي الفطرة التي لا تجد لها من قلوب المؤمنين تحويلاً.
وقد كان بعض أئمتنا المتأخرين يكره لمن لا يثق من نفسه بالاستقامة أن يقرأ من الحديث ما فيه ظواهر تحمله على اعتقاد الجبر والتشبيه.
قال الإمام المهدي علي بن محمد (ع): ومن اقتعد في مساجد الزيدية يقريء في كتب خصومهم، ويفري أديم أقوال العترة وعلومهم، مُنع من ذلك، وقُمع أن يسلك تلك المسالك.
وحديث النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ واجب القبول والاتباع، وعلى كل مسلم أن يدين بلزوم الإسماع له والاستماع، وإنما كره ذلك لمن لا يعرف القبيح من الحسن، ويخشى الوقوع في الفتن، التي أودعها كثير من النواصب والحشوية في أثناء الآثار والسنن، وخلطوها بالحق المبين؛ لترويج باطلها على الجاهلين، وليتوصلوا بها إلى التشكيك على غير العلماء الراسخين.
...إلى قوله: وقال السيد الإمام جمال الدين، علي بن محمد بن أبي القاسم ـ رحمه الله تعالى ـ: الذي ذهب إليه علماؤنا، وتجري عليه أصولهم، أن في أخبار هذه الكتب الصحيح والمعلول، والمردود والمقبول.
والضابط في ذلك: أنما صححه أئمتنا من ذلك، فهو صحيح، وما ردوه أو طعنوا في روايته، فهو مردود؛ لصحة اعتقادهم، وسعة اطلاعهم، وتحريهم في انتقادهم.
....إلى قوله: ولنتكلم في ثلاثة أبحاث:
الأول: في إسناد العترة، وأنه أصح الأسانيد؛ وهذا أمر لا امتراء فيه عند أهل المذهب، /298(2/298)
ومسنداتهم المتصلة تسمى سلسلة الذهب.
...إلى قوله: والمختار عند أئمتنا (ع) تقديم ما ثبت عن أئمة العترة مسنداً أو مرسلاً، وتقديم رواية القرابة، على غيرهم من سائر الصحابة.
البحث الثاني: في ذكر أسلافنا من أهل الحديث، المعتمد على رواياتهم في الزمن القديم والحديث، من غير أهل البيت (ع)؛ ليعرف ذلك المغربون، ويظهر كذب ما يزعمه الناصبون، وكتب الحديث برواياتهم مشحونة، وجواهر أخبارهم في طبقات الرواة مدونة مخزونة، وهم خلق كثير، وسواد عظيم، بالحجاز والعراق واليمن والشام، وكثير من بلاد الإسلام؛ ومن أحب تحقيق ذلك فليطالع كتب الرجال، وطبقات الحفاظ؛ وقد يخصهم بالذكر بعض علمائنا إذا انفردوا بقول في مسألة كالأمير الحسين، فإنه يقول في بعض المسائل: وهذا رأي محدثي أصحابنا.
وقد روى عنهم أصحاب الصحاح كالبخاري، ومسلم، وغيرهما، واعتمدوا على رواياتهم في أثناء الأحكام الشرعية في الحلال والحرام؛ فيالله من تعصب ذوي العقول والحلوم، على جحد المعلوم الثابت بشهادة الخصوم للخصوم.
...إلى قوله:
البحث الثالث: في ذكر جماعة من حفاظهم، وتسميتهم بأعيانهم، وتعريف طرف من أحوالهم؛ فأما الإحاطة بهم فهي متعذرة أو متعسرة، وغير ممكنة في حقنا ولا متيسرة.
[سلف العترة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم]
إلى قوله:
فأما سلفنا من الصحابة، فجميع بني هاشم، وبني المطلب، وكثير من المهاجرين والأنصار، وغيرهم من فضلاء الصحابة الأخيار، وإن اختلفت عاداتهم /299(2/299)
وطرائقهم، لا سيما بعد استقرار الأمر لمن ابتزه، ولم يقع في موضعه ولا طبق محزه، فمنهم المسر ومنهم المعلن بمذهبه، وسواء منهم من أسر القول ومن جهر به، كجهر الاثني عشر النقباء، الذين صدعوا بالحق عند صرف الأمر عن أهله احتساباً لله وغضباً، وغيرهم ممن هو أشد إنكاراً، وأكثر عدداً وأظهر اشتهاراً؛ وقد دونهم العلماء الأخيار، ونقلوا منهم التجرم العظيم والاستنكار.
قلت: وما أحسن قوله في ذلك في البسامة:
فقلْ لمن رام للأسباب معرفة .... وربما تعرف الأسباب بالفطرِ
حبّ الرياسة أطغى الناس فافترقوا .... حرصاً عليها وهم منها على صدرِ
والحق أبلج والبرهان متضح .... وبيننا محكم التنزيل والسورِ
مات النبي أجلّ الخلق مرتبة .... محمد خاتم الأنباء والنذرِ
نبينا المصطفى الهادي الذي ظهرت .... آياته كظهور الشمس والقمرِ
هذا، والكلام ذو شجون، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
قال: فإليهم في نقل الحديث مستندنا، وعلى معتقدهم في التفضيل والخلافة معتقدنا، ولسنا نقتصر عليهم في قبول الرواية، بل نروي عن المخالفين المتأولين، كما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
قلت: ولم يرد المحاربين لأمير المؤمنين ـ صلوات الله عليه ـ، فسيأتي له التصريح بأنهم غير متأولين؛ فتدبر.
قال: فأما سلفنا من التابعين، ومن بعدهم من حفاظ الأخبار، ونقلة علوم الآثار، ومعدلي حملة العلم النبوي، الذين يرجع إلى اجتهادهم في التوقيف والتضعيف، والتصحيح والتزييف، فهم خلف من تقدم من أهل مودة ذوي /300(2/300)