شمل الأخبار، العمل على نيّة المطلق، فإن نوى ثلاثاً كانت ثلاثاً، سواء في كلمة واحدة أم في ثلاث، وإن لم يقصد إلا واحدة فهي واحدة.
والدليل على ذلك ما رواه الإمام زيد بن علي، عن آبائه، عن علي (ع)، في الخلية، والبرية، والبتلة، والبتة، والبائن، والحرام: نوقفه فنقول: ما نويت؟
فإن قال: نويتُ واحدة؛ كانت واحدة بائناً، وهي أملك بنفسها، وإن قال: نويت ثلاثاً؛ كانت حراماً حتى تنكح زوجاً غيره...إلى آخره.
ورواه عنه غيره؛ ويدل على ذلك الأخبار ((إنما الأعمال بالنيات، ولا قول ولا عمل إلا بنية، ولا قول ولا عمل ولا نية إلا بإصابة السنة))، وحديث ركانة.
وهو كلام أهل المذهب في العامي، أن ما أوقعه معقتداً لوقوعه ووافق أحد المجتهدين، وقع؛ ففتواه بعدم وقوع الثلاث مع هذا خلاف المذهب.
وأما خبر ((ثلاث...إلخ))، فالهزل لا ينافي النية، ويمكن أن يحمل ((وهزلهن جد)) أنه إن ادعى عند المنازعة الهزل فلا يدين؛ لأن الظاهر خلافه؛ أما مع عدم المنازعة، وفيما بينه وبين الله ـ سبحانه ـ فله نيته، جمعاً بين الأدلة؛ فتدبر هذا.
[قطوف من المنتخب]
ولقد قال إمام الأئمة، وهادي هداة الأمة، إمام اليمن، محيي الفرائض والسنن، الهادي إلى الحق، يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم ـ عليهم الصلاة والتسليم ـ في الجامع المنتخب، ما حكاه إمام الشيعة على الإطلاق، المهاجر إلى إمام اليمن من العراق، العالم الولي، محمد بن سليمان الكوفي ـ رضي الله عنه ـ لما قال: قلت: فإني قد فهمت ما أجبتني به في التوحيد، وإثبات النبوة، والإمامة، وأنا أريد أن أسألك عن أصول الحلال والحرام، في جميع الفقه؛ فإني قد وطئت علوم العامة، وعلوم عامة الخاصة، فوجدتهم مختلفين، كما ذكرتُ لك.
فقال لي: إذا كنت قد قدمت النية في طلب العلم، وفرغت قلبك للمسائل عن الحلال /131(2/131)
والحرام، فافهم ما أقدمه لك من الشرط فيما تسألني عنه.
قلت: نعم ـ إن شاء الله ـ أنا أجمع همّي في ذلك.
قال: فلا تقبل مني جواب مسالة أنبئك عنها أو أجيبك فيها بتقليد، ولا اتكال على ما تعرفه، مما قد خصني به في العلم ربي، دون أن تسألني عن الحجة، وحجة الحجة، حتى ينتهي بك ذلك إلى أصول المعرفة، التي لايجوز لأحد أن يجاوزها.
قلت: وما أصول المعرفة، التي لايجوز لأحد أن يجاوزها عند بلوغها؟
فقال: هي المعاني، التي من طلب مجاوزتها خرج إلى حد المكابرة والبلادة، وإلى طلب جواز ما أوقفه الله عليه، ومنعه من التجاوز له.
إلى قول الإمام: هي الثلاثة الأصول، التي جعلها الله حجة على خلقه، لاينفك الحق منها، ولايخرج أبداً عنها، وهي: كتابه الناطق، والإجماع عن رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ فيما جاء به عن الله ـ عز وجل ـ وحجة العقل، التي ركبها الله في صدور العالمين؛ لتدلهم على رب العالمين، وتهديهم إلى فرائض الدين، وتثبت ما اختار الله لهم من الحق واليقين.
إلى قوله: وإذا سألت عن شيء من الحلال والحرام، فاجعل ذلك لله ـ تبارك وتعالى ـ خالصاً.
إلى قوله: فإن ذلك أجزل لثوابك، وأكثر لتفجّر ينابيع الحكمة من قلبك؛ واستقصِ في مسائلك كما أطلقت لك وأمرتك، وإلى ذلك ندبتك، فإني مجيبك عما تسأل عنه؛ فسل عما بدا لك ـ إن شاء الله تعالى ـ.
انتهى المراد.
وما أحق المقام بإيراد كلام السيد الحافظ، محمد بن إبراهيم الوزير، في شأنهم(ع)، لما لم يكن في مقام الجدال، وهو ما لفظه: فإذا عرفتَ هذا، فلا يعزب عنك معرفة خصيصتين:
الخصيصة الأولى: أن أهل البيت (ع) اختصوا من هذه الفضائل بأشرف أقسامها، وأطول أعلامها.
إلى قوله في كلامه السابق: فانظر بعين الإنصاف، إلى أئمة العترة الطاهرة، ونجوم /132(2/132)
العلم الزاهرة، كيف سلمت علومهم من كل شين، وخلصت من كل عيب؟.إلخ.
قال الإمام محمد بن عبدالله الوزير (ع): أقول: قد أفاد وأجاد، فيما وصف أهله (ع)، فهم كذلك؛ وما يمنعهم، وقد وضعهم الله ـ سبحانه ـ في الموضع الأرفع، وأعلا درجاتهم ورفع.
إلى قوله: فإن الإمام الكبير، الهادي إلى الحق (ع)، له من الكتب ما يزيد على خمسين مؤلفاً؛ وقد روي عنه أنه قال: خرجت إلى اليمن بعلم كالجمل، فلم ألقَ له حملة، فوضعت منه أذنيه، أو نحو ذلك.
إلى قوله: كذلك جده نجم الآل، القاسم بن إبراهيم ـ عادت بركاته ـ كذلك الناصر، كذلك المرتضى محمد بن الهادي، وأخوه الناصر (ع)، وأمثالهم ـ وهم أهل النصوص ـ قد وضعوا ما فيه الكفاية؛ بل أوسعوا، مع اشتغالهم، غير أنهم لايرتضون روايات غيرهم، إلا نادراً، مع وثوقهم بمن رووا عنه؛ لقطع حجة الخصم.
وقد أجاب المرتضى (ع) على من سأله: كيف لم تدخلوا أحاديث العامة؟
فأجاب بنحو هذا.
إلى قوله: وانظر حيث احتاج ـ أي الهادي (ع) ـ إلى رواية العامة، في باب الأوقات، فذكر من رواياتهم كثيراً؛ فهل ترى أنه (ع) لم يعرف من روايات العامة إلا ما في ذلك الباب؟
وكم له ولجده القاسم بن إبراهيم (ع) في أثناء كتبهم من ألفاظ، دالة على أنهما قد عرفا روايات العامة؛ فابحث على مجموع القاسم، والهادي، تجد الشفاء؛ ولقد رد على الفرق الكفرية مثل: النصارى؛ وذكر معرفة أناجيلهم، ونقل منها كثيراً.
وكذلك الناصر (ع)، فإنه ذَكَر أنه قرأ ثلاثة عشر كتاباً من كتب الله، المنزلة على الأنبياء؛ فما ظنك بهؤلاء؟ أيعرفون الكتب المنزلة، ولا يعرفون ما ورد من أبيهم رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ؟!
بلى والله؛ ولكن جعلوا أصل دينهم ما حفظوه وتلقوه عن آبائهم /133(2/133)
فعلاً وقولاً، واعتقاداً وعملاً؛ ثم إذا استظهروا برواية شيء من غيرهم، فإنما هو استظهار فقط، أو قطع للخصم، فتأمل، انتهى المراد.
[من أقوال السيد محمد بن إبراهيم الدالة على أن آخر أمره كان السداد]
قلت: واعلم أيها المطلع ـ ثبتنا الله تعالى وإياك والمؤمنين، على الحق القويم، والصراط المستقيم ـ أن هذا السيد العالم العظيم، محمد بن إبراهيم ـ رحمه الله تعالى ـ وإن خالف سلفه الهادين في بعض مقامات المعارضات، ومثارات المجادلات، وكان سبباً في زيغ كثير من المعاندين والمقلّدين، فله من النصوص الصرائح، بالحق الواضح، ما يقطع تلك المقاطعات، ويمنع تلك المعارضات، ويرد كيد الكائدين، ويفلّ حدّ الجاحدين، ويرغم أنوف المعتدين.
وكان آخر أمره السداد، ومراجعة منهاج الرشاد، فتداركه الله ـ إن شاء الله ـ ببركة أسرار البيت النبوي، ونفحات أنوار الهدى العلوي؛ والأعمال بخواتمها؛ ونرجو الله ـ تعالى ـ أنه لم يتمكن من إصلاح الهفوات، المضمنة تلك المؤلفات، للانتشار، أو نحوه من الأعذار، التي يعلمها العليم بذات الصدور؛ وإلى الله ترجع الأمور.
نعم، ومن أقواله في هذا الباب، الدالة على اقتفاء منهج الصواب، والمشي في سنن قرناء الكتاب، وحجج الله ـ تعالى ـ على أولي الألباب، ما قاله في سياق كلام الإمام المنصور بالله، والإمام يحيى (ع)، ما لفظه: لأن أقل أحوالهما أن يكونا قد عرفا أن ذلك مذهب إمام الأئمة، وأفضل الأمة، وأنه الحجة في الهدى، والعصمة من الردى؛ فقد صحّ عنه (ع) أمور كثيرة، في الأصول والفروع، منها: تجرمه وتظلمه من يوم السقيفة؛ ولا قوة إلا بالله، والله المستعان.
[لمع من كلام السيد محمد بن إبراهيم في حجية إجماع العترة]
وقال في العواصم: إن أهل البيت في زمان حدوث الفسق في المذاهب، لم يكونوا إلا علياً وولديه الحسنين (ع)، وإجماعهم حجة، ومعرفتهم متيسرة متسهلة؛ لاتحادهم واشتهارهم.
وفي الفرائد: قال العضد، والشريف /134(2/134)
الجرجاني، في شرح المواقف: إن جميع الفرق منسوبون إلى علي (ع)؛ وابن عباس ـ رضي الله عنه ـ تلميذه.
وقال الوالد العلامة، محمد بن إبراهيم، في العواصم: لانعلم بعد النبيين والمرسلين أعلم من علي ـ أو كما قال ـ.
وفيه: أن المعلوم لمن له أدنى أنس بمذهب أهل البيت (ع)، وصفوة شيعتهم من الزيدية ـ رضي الله عنهم ـ يعلم أنهم مجمعون على تخطئة من تقدم على علي(ع).
وقال محمد بن إبراهيم في الكلام السابق: فأما حرب علي (ع)، فهو فسق بغير شك، وله الولاية العظمى، التي هي عمدة في الدين.
وقال: وقد أجمع أئمة العترة (ع) وشيعتهم أنه لايجوز خلو عصر من الأعصار إلى يوم القيامة، من عالم مجتهد من أهل البيت (ع).
وقال في سياق كلام في شأن آل محمد ـ صلوات الله عليهم ـ: لأن إجماعهم(ع) المعلوم عندنا حجة، وقولهم إلى الحق أوضح محجة.
إلى قوله: فإنا نردّ من ردوا، ونجرح من جرحوا.
إلى قوله: ولم أزل ـ بحمد الله ـ متمسكاً بأهل البيت، سراً وجهراً، مفتياً بإظهار عقيدتي نظماً ونثراً.
ومن أشعاره في هذا المعنى ما تقدم؛ وقال:
كفاني قول أهل البيـ .... ـت معقولاً ومنقولاً
فأما غير ما قالوا .... فلا أرضى به قولاً
وقال:
إذا شئت منهاجاً إلى الحق واضحاً .... مسالكه عند اختلاف المآخذ
فلا تعد عن نهجي كتابٍ وسنةٍ .... وعض على مافيهما بالنواجذ
ولا تعد عن منهاج آل محمد .... سفينة نوح ملتجى كل عائذ
فهم نصف مظلوم وحتف لظالم .... وهم غيث محتاج وهم غوث لائذ
/135(2/135)