وضاعت حقوق الله، ووضعت في غير ما ارتضاه، وظهرت غربة الدين، وقويت شوكة المفسدين؛ شخصت إلينا الأعيان، من جميع النواحي والبلدان، وامتدت الأعناق، من أداني الأرض وأقاصي الآفاق.
...إلى قوله: كرَ علينا الأنام، كرّة ما لها مدفع، وأقبلوا علينا إقبالةً لا يجدي فيها الاعتذار ولا ينفع.
...إلى قوله: ممن هممهم مقصورة على تقويم أمر الدين المريج، وليس لهم على جانب الدنيا تعويل ولا تعريج، بلزوم القيام لله، وتحتم الغضب لدين الله، وتلافيه قبل التلف بالكلية؛ وإنا إن فرطنا في ذلك أسخطنا الرحمن، وأرضينا الشيطان.
...إلى قوله: ونظرنا إلى أن الأمر بالمعروف الأكبر، والنهي عن الفحشاء والمنكر، معلومان بالوجوب بالضرورة من الدين، وأن الظنون لا تعارض اليقين؛ قال الله تبارك وتعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104)} [آل عمران]، وقال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ } [النحل:125]؛ وقال رسول الله - صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم -: ((والذي نفسي بيده، لتأمرن بالمعروف، ولتنهن عن المنكر، أو ليوشكن الله يبعث عليكم عقاباً، تدعونه فلا يستجيب لكم)).
...إلى قوله: وعنه ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ أنه قعد على المنبر، وقال: ((أيها الناس، إن الله يقول لكم: مروا بالمعروف، وانهوا عن المنكر، قبل أن تدعوني فلا أجيب لكم، وتسألوني فلا أعطيكم، وتستنصروني فلا أنصركم)) فما زاد عليهن حتى نزل /246(2/246)


؛ وقال: ((ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويوقر كبيرنا، ويأمر بالمعروف وينه عن المنكر)).
...إلى قوله: وطمعنا في نيل ثواب الله الجزيل، ورضوانه الأكبر الجليل، بالتأهل لإرشاد عباده، إلى مطابقة مراده، ودعائهم إلى طاعته، والسيرة فيهم بمقتضى شريعته، نظراً إلى قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33)} [فصلت]، وقوله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((سبعة يظلهم الله في ظله يوم لاظل إلا ظله: إمام عادل...الخبر)) وقوله - صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم -: ((إن المقسطين عند الله على منابر من نور، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا))، وقوله - صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم -: ((يوم من عادل خير من عبادة ستين سنة، وحدّ يقام في الأرض بحقه أزكى فيها من مطر أربعين صباحاً))، وقوله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((عدل ساعة خير من عبادة ستين سنة، قيام ليلها وصيام نهارها))، وقوله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((أفضل الناس منزلة عند الله تعالى يوم القيامة إمام عادل)).
..إلى آخرها.
وفيها من معين العلوم، ما يشفي أدواء الكُلوم.
وإنما اخترت إيراد هذا القدر منها؛ لما فيه من بيان محل الإمامة عند الإمام (ع)، وأنها ثانية النبوة، ومنوط بها من الدين أحكام الإسلام.
وفيه بطلان ما نقله الجنداري عنه في حواشي الثلاثين المسألة؛ ولعله لما اطلع على الأسئلة، التي أوردها الإمام فيها على الأعلام، وقد توهم ذلك غيره ممن لم يحقق مقاصد الإمام، وأورد ذلك بعضهم في عصره، ونسب إليه القول بأنها عنده ظنية؛ وأجاب عليه الإمام بأنه لم يصرح بما ذكره السائل، وأفاد نفيه عنه، وأنه إن كان أخذه له من تلك /247(2/247)


السؤالات، فهو مأخذ غير صحيح؛ حقق ذلك الإمام (ع) في فتاويه، فخذه من ذلك المقام؛ وكم يحصل من التهافت في أمثال هذه النقولات لمن لم يتثبت ويحقق موارد الكلام؛ هذا، والله ولي التسديد والإنعام.
[نبذ من كتابه المعراج]
قال الإمام (ع) في المعراج:
بسم الله الرحمن الرحيم
أما بعد حمد الله على نعمه، التي يجب شكرها، ولا يطاق حصرها، والثناء عليه بكماله، وصفات جلاله، التي يطيب نشرها، ولا يُقْدَّر قدرها، والصلاة والسلام على خاتم الرسل، وموضح السبل، وناسخ الملل، ودامغ الشرك حتى اضمحل وبطل، وعلى عترته شموس الإسلام، وقادة الأنام.
إلى آخر الكتاب.
وهو محيط بحقائق الأنظار، جامع لدقائق الأفكار، كاشف لدفائن الأسرار.
[بحث في نفي الذوات في العدم، وكلام الإمام عز الدين (ع) في ذلك]
ومما نصّ فيه الإمام على مخالفة جمهور المعتزلة، وموافقة قدماء أهله: مسألة ثبوت ذوات العالم.
قال بعد حكاية الخلاف: وذهب من أئمتنا إلى نفيها الإمام عماد الإسلام.
قلت: يعني الإمام يحيى بن حمزة (ع).
قال: وقال في التمهيد: ذهب المحققون من جماهير العلماء، إلى أن المعدوم ليس بشيء، ولا عين، ولا ذات، في حال عدمه؛ وإنما هو نفي محض، /248(2/248)


والله ـ تعالى ـ هو الموجد للأشياء، والمحصل لذواتها، وحقائقها.
قال الإمام الهادي إلى الحق، عز الدين بن الحسن (ع)، بعد هذا الكلام: وهذا هو الحق الذي لاريب فيه؛ ولعمري، إن إثبات ذوات في العدم، لها صفات وأحكام، وتتعلق بها بعض المتعلقات، لاينبغي أن يكون معقولاً، وأنه أبعد في التعقل من الطبع والكسب، ونحوهما.
إلى قول صاحب المنهاج: وقال أبو القاسم: شيء، وليس بذات.
قال الإمام (ع): اعلم أنه لافرق بين قول أبي القاسم، وقول من نفى الذوات في حالة العدم؛ لأن مراده أن المعدوم شيء من جهة اللغة، ولاخلاف في ذلك.
إلى قوله: إذا عرفت ذلك، فاعلم أن هذه قاعدة ينبني على صحتها كثير من مذاهب البهشمية.
قال: وكثير من الذاهبين إلى النفي يشنعون في الإثبات، ويزعمون أنه في غاية الخطر؛ لأن فيه نفي تأثير الباري في الذوات، وكثير من الصفات، بل إثبات ذوات لانهاية لها معه في الأزل، حتى أن منهم من يقول: لافرق بين القول بإثبات الذوات في العدم، وإثبات المجبرة للمعاني القديمة، في شناعة القول وخطره، وظهور بطلانه.
ثم ساق استدلال الفريقين، واستوفى أعاريض الكلام، وقد أشرت إلى المسألة في التحف الفاطمية عند الكلام على الإمام المهدي (ع).
وقال (ع): بعد الكلام على مسائل الصفات، ما لفظه: ويلحق بما تقدم فائدة عظيمة النفع في التوحيد، وهي أنه يليق بكل ذي عقل وافر، وعلم راسخ، من أهل الدين المستبين، والمعرفة الحقيقية واليقين، عند أن يلقي إليه الشيطان ـ نعوذ بالله منه ـ الوسوسة، ويبعثه على التفكر في ذات الباري ـ جل /249(2/249)


وعلا ـ.
إلى قوله: ألا يصغي إلى ذلك أُذناً، ولايصرف إليه قلباً، ولايشتغل بما يلقى إليه من ذلك؛ فإن هذا الوسواس أعظم ما يتوصل به الشيطان، إلى إضلال المكلف، وكفره وإلحاده.
ثم روى الخبر المشهور، وفيه: ((فيقول: آمنتُ بالله، وينظر في ملكوته ـ تعالى ـ ومصنوعاته)).
قال: وقد كان ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ على ما روي كثير التكرار، للإقرار بالله، ووحدانيته، وصفاته، والنظر في ملكوت الله ـ تعالى ـ الدالة على ذلك، وكان ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ كثيراً ما يأمر بالنظر فيها، وينهى عن النظر في ذاته ـ تعالى ـ فقد روي عنه أنه قال: ((تفكروا في الخلق، ولاتفكروا في الخالق، فإنكم لن تقدروا قدره)).
وقد سلك أمير المؤمنين ـ كرم الله وجهه ـ هذه المحجة في أقواله، فإن من كلامه: من تفكر في خلق الله وحد، ومن تفكر في الله ألحد.
ثم ساق من كلامه المعلوم في الأصول، وقد سبق منه طرف نافع.
قال: ومن كلامه (ع): أن الله ـ تعالى ـ لامن شيء، ولا في شيء، ولا على شيء.
ومن كلامه (ع): لم تحط به الأوهام، بل تجلى لها بها، وبها امتنع عنها، وإليها حاكَمَهَا.
والأوهام هنا: العقول، وقد تقدم تفسير كلامه هذا.
قلت: الذي تقدم ما لفظه: أي امتنع من العقول بمعرفة العقول، بعجزها عن إدراكه والإحاطة به.
وإليها حاكمها: أي جعلها محكمة في ذلك؛ لأنه نزلها منزلة الخصم المدعي، والخصم لايحكم إلا حيث تتضح الحجة، ويفتضح جاحدها، فلا يرضى لنفسه بدعوى ما يعلم كل عاقل كذبه فيها. /250(2/250)

26 / 151
ع
En
A+
A-