العامل، الذي فاق أهل زمانه علماً، وإيضاحاً، وفضلاً؛ أوضحَ من العلوم كل مشكل، وسهل منها كل معضل، واعترف له بالكمال، ورمقته العيون من كل مكان.
ومن أخباره أنه لما عزم علىالحج، وحمل زاده، جاء إلى الإمام الناصر صلاح بن علي (ع) إلى ذمار؛ ليخبره بذلك ويستأذنه، فوقع مع الإمام موقعاً عظيماً؛ لغزارة علم هذا السيد، فما أذن له، بل قال: تحيي هذه الجهات بالعلم؛ ثم قال الإمام: إذا سافر للحج تعدى إلى الجهات الشامية أو غيرها، حيث يعلم بالعلم وطلبته؛ لشدة رغبته في إحياء العلم ونشره؛ ودخل مع الإمام ـ قلت: أي الناصر صلاح بن علي (ع) ـ إلى صعدة، وذبّ عن الإمام فيمن تعرض في شيء من السيرة، ثم عاد إلى صنعاء، وبها توفي في صفر، سنة أربع وثمانمائة، عن أربع وسبعين.
قلت: وذكر السيد الإمام الرواية عن العامري، أنه اختار الطريقة الأولى، من طرق رواية البخاري، وأنه قال: إنما اخترت هذه الطريق؛ لأن فيها اثنين من أهل البيت (ع).
قال السيد الإمام: قال الزريقي: فما ظنك بطريق سلسلها الأئمة الأعلام؟!.
هذا الإمام شرف الدين يروي عن الإمام المنصور بالله محمد بن علي، عن الإمام الهادي عز الدين بن الحسن، عن الإمام المتوكل المطهر بن محمد، عن الإمام المهدي لدين الله أحمد بن يحيى، عن الإمام السيد العلامة محمد بن سليمان.
وللسيد محمد أيضاً طريق أخذ عن السيد الواثق المطهر بن محمد، عن الإمام المهدي محمد بن المطهر، عن والده الإمام المطهر بن يحيى، انتهى.
قلت: وقد تسلسلت بفضل الله ومنّه، من لدينا إليهم وإلى غيرهم من الأئمة الهداة، بأهل بيت النبوة سفن النجاة، والحمد لله. /236(2/236)
[السند إلى مؤلفات الإمام عز الدين بن الحسن (ع) وترجمته]
وسبقت الأسانيد، إلى والدنا، الإمام المؤتمن، الهادي إلى الحق أبي الحسن، عز الدين بن الحسن (ع) في طريق المجموع وغيره.
فأروي بذلك السند المتصل بآل محمد، جميع مؤلفاته، شرح البحر الزخار إلى الحج، والمعراج، وكنز الرشاد، وفتاويه الجامعة، ورسائله الساطعة، ومسائله النافعة، وكل ماله من منثور ومنظوم، وجميع مروياته ومسنداته في أبواب العلوم، وقد تقدم ذكره في التحف الفاطمية ، مع سائر أئمة العترة النبوية (ع)، ونذكر هنا ما فيه زيادة إفادة في هذه المقاصد المرضية؛ وأنوار هؤلاء الأئمة الأطهار، أجلى من فلق النهار لذوي الأبصار؛ ولكن ذكرهم ذكر نعمان عند أولي الاختبار، وقد تضمنت سيرة الإمام (ع) أسفار علماء الملة الأبرار.
قال السيد الإمام في ترجمته (ع): الإمام الهادي إلى الحق؛ مولده لعشر بقين من شوال، سنة خمس وأربعين وثمانمائة، بأعلى فللة.
إلى قوله: لم يزل منذ عقل مولعاً بالعلم وتحصيله.
قلت: في مآثر الأبرار: نشأ هذا الإمام، نشوء آبائه الكرام، وقفى منهاج أسلافه الأعلام، فهو كما قال المنصور بالله (ع):
نشأته طاهرة إذْ نشا .... يقفو على نهج أبيه علي
قلت: وهذا من الأبيات المشروحة بمحاسن الأزهار.
قال السيد الإمام ـ رضي الله عنه ـ: ابتدأ طلب العلم بوطنه، ثم قصد /237(2/237)
صعدة، فقرأ فيها على شيوخ عدة، وصنّف وما قد تم له عشرون.
إلى قوله: وله من الإمام المطهر بن محمد بن سليمان إجازة، قال ما لفظه:
أجزت السيد، المقام الأفضل، العالم الأعمل، نافلة أمير المؤمنين، عز الدين ابن السيد شرف الدين الحسن ابن أمير المؤمنين الهادي لدين الله علي بن المؤيد بن رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ أن يروي عني، على الشرط المعتبر في الرواية، مما هو لي سماع من كتب الهداية، وإجازة.
ثم ذكر مسموعاته، واشتملت على كتب العربية؛ وأشار إلى ما تضمنته من كتب الفنون، وقد تقدمت.
قال: وأجل تلامذته الإمام محمد بن علي السراجي، وله منه إجازة عامة.
قلت: وغلط الشيخ محمد الشوكاني في البدر الطالع، فعدّ الإمام عز الدين من تلامذته، وهو خلاف الواقع المعلوم.
وولده الإمام الناصر للحق، الحسن ابن الإمام عز الدين بن الحسن (ع).
قال: فلما قفل، وقد انتهى إلى غاية وطره، ولم يزل يترقى في العلوم، ويدمغ هامات الموهوم منها والمعلوم، حتى برع في كل فن، خصوصاً علم التوحيد والعدل؛ فإنه كان أوحد زمانه، مبرزاً فيه على أقرانه، وصنف فيه شرحاً على منهاج القرشي، وأكبّ على قراءته عليه، ونسخه وتحصيله، أعيانُ الزمان، وجاءه لسماعه جماعة من نحو جهران، وخبان، وذمار، وحدث بهذا المصنف الركبان، حتى بلغ الصفراء وينبع وتلك البلدان؛ وله مصنفات غيره في سائر الفنون.
وفي آخر مدته أخذ في جمع شرح على البحر الزخار، واستحضر عدة كتب في كل فن؛ ولكنه توفي وقد بلغ إلى كتاب الحج، وقد صار مجلدين.
وكان يوزّع أوقاته؛ ففي بعضها ينسخ الأسفار بخطه، ثم /238(2/238)
يصححها سماعاً على شيخه؛ وكان له خط رائق.
قلت: قال في مآثر الأبرار، بعد إيراد هذا الكلام، إلا أن السيد الإمام ساقه على وجه الاختصار، ما لفظه: وكان له خط فائق، وضبط موافق، وبأمثاله لائق.
قلت: وقد منّ الله ـ تعالى ـ علينا من خزانته بكتب كثيرة، منها: نسخة البحر الزخار بقلمه الكريم، وهي الغاية في الإتقان والصحة؛ والإمام المرجوع إليه عند الاختلاف؛ وقد تم لنا ـ بحمد الله تعالى ـ فيها الدرس والتدريس، وتصحيح النسخ عليها عدة أشراف؛ جزاه الله ـ تعالى ـ أفضل الجزاء، عنا وعن المسلمين، وقدس روحه في عليين.
قال: وفي بعضها يقريء تلامذته، وفي بعضها ينقل شيئاً من القرآن غيباً، ويتهجد به.
قال: وأعجب ما رأيته بخطه في جنب مصحف: اتفق ـ والحمد لله ـ الفراغ من نقل القرآن الكريم، وتمام حفظه كله غيباً.
إلى قوله: فالمنة لله ـ سبحانه ـ، والحمد لله على ذلك، وعلى سائر نعمه؛ فنحن بعد ما يسره الله لنا من ذلك في أجلّ نعمة، وأبلغ قسمة؛ جعله الله لنا هادياً، وشافعاً، ونافعاً؛ وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم.
قال: وكان إحرازه للعلوم في مقدار عشر سنين؛ إن هذا لهو الفضل المبين.
قلت: هذا كلام العالم الثبت، المعاصر للإمام (ع)، المطلع من أحواله على التمام؛ ذلك الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.
قال: ولما قضى من طلب العلم حاجته، تفرغ للدرس والتدريس؛ فصار رُحلةً للقاصدين، ومنتجعاً للوافدين، تؤمه طلبة العلم من أكثر /239(2/239)
الأمصار، والبوادي والحضار؛ فممن قرأ عليه مدة مديدة: حي السيد الوشلي محمد بن علي، في عصابة.
قلت: هو الإمام محمد بن علي السراجي، كما في الطبقات.
قال: وتوجهت إليه المسائل والرسائل، من كل جهة، ورمقته الأعين، ونطقت بفضله الألسن، وحظي من الإقبال عليه بما لم يحظ به غيره، وكثرت نذوره، وأشرق فيهم نوره؛ وكان الناس يتحدثون بأنه الصالح للإمامة، وأنشدت فيه الأشعار، قبل التلبس بدثارها؛ وأظهر قوم إمامته في حال السيادة؛ فَلِحَي الفقيه النبيه، المنطيق الفصيح، علي بن يحيى الهذلي الضمدي فيه شعر، منه:
وإنا لنرجوا عاجلاً أن يقيمه .... إله به قامت سماواته السبعُ
يعيد نصاب الملك في مستقرّه .... ويخلع عنه من يحق له الخلعُ
قال: فلما دعا، فرح الناس بدعوته، فكان أول من بايعه والده المبارك، شرف الدين، الحسن بن أمير المؤمنين، وسائر إخوته، وبني عمه.
قلت: وهذه منقبة له كبرى، لم يسبقه إليها من أهل بيت النبوة (ع) إلا الإمام المهدي لدين الله محمد بن عبدالله النفس الزكية، في قيامه أيام أبيه، شيخ آل محمد، عبدالله الكامل (ع)، ولم يلحقه أحد فيما أعلم.
قال: ثم من حضر من العلماء، ثم القبائل؛ قرئت عليهم دعوته الكبرى، العامة لكل الورى، وفيها من البلاغة الرائعة، والحجج القاطعة، والمواعظ الحسنة، والوصايا المستحسنة، والاعتذار من القيام.
إلى قوله: ما يشهد له بتقدمه.
[نفوذ دعوته واتساع نطاق مملكته]
قال: فلما وصلت دعوته إلى الجهات اليمنية، مثل: صنعاء ومشارقها /240(2/240)