والرواية واردة أن المراد بذلك نفس سيد الشهداء أسد الله، وعمّ رسوله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ الحمزة بن عبد المطلب ـ رضوان الله وسلامه عليه ـ قال:
صلى عليك الله نفساً أُزْلِفَتْ .... بالخلد في غرف القصور الرفّعِ
قال السيد الإمام الهادي بن إبراهيم (ع): لكل مُثْنٍ عارفة جزاء، وعارفتي في هذه الأبيات على الله تعالى؛ انتهى كلامه.
وأنا أقول: لكل عامل جزاء، وجزائي في رسم فضائلهم، وما ينتفع به ـ إن شاء الله ـ في الدين، وجزاء من حصله من إخواني المؤمنين، والعلماء العاملين، على رب العالمين؛ وقدوتنا أمير المؤمنين، وسيد المسلمين، وأخو سيد المرسلين ـ صلوات الله عليهم أجمعين ـ حيث يقول في آخر خطبته العظمى، التي سبق ذكرها: اللهم أنت أهل الوصف الجميل، والتعداد الكثير، إن تؤمل فخير مأمول، وإن تُرْجَ فأكرم مرجو.
إلى قوله ـ صلوات الله عليه ـ: ولكل مُثْنٍ على مَنْ أثنى عليه مثوبة؛ من جزاء، أو عارفة من عطاء؛ وقد رجوتك دليلاً على ذخائر الرحمة، وكنوز المغفرة، اللهم وهذا مقام من أفردك بالتوحيد الذي هو لك، ولم ير مستحقاً لهذه المحامد والممادح غيرك، وبي فاقة إليك لا يجبر مسكنتها إلا فضلك، ولا ينعش من خلتها إلا مَنُّك وجودك، فهب لنا في هذا المقام رضاك، وأغننا عن مدّ الأيدي إلى سواك؛ إنك على كل شيء قدير.
[في الكلام على السيد الهادي بن إبراهيم الوزير، وأبيه، وجده]
نعم، ثم ذكر في الصلة نكتة شافية في فضل الهادي بن إبراهيم، وأبيه، وجده علي بن المرتضى (ع)، فقال:
أما الهادي فكتابه الذي مرّ من عنوان فضله وعلمه وورعه وزهده.
أما /216(2/216)
علمه، فهو رجل جامع للعلوم، له موضوعات في كل فن، أكمل أهل زمانه، يؤهل للإمامة، ويتوخى لتحمل أمر الخاصة والعامة، مع الخوف العظيم، للعدل الحكيم، والورع الشافي، ومكارم الأخلاق، التي شرف بها وفاق، يضرب بلطف شمائله المثل، ويقتدى به في كل قول صالح وعمل؛ إمام لأهل العبادة، قد زينه الله بالتقوى والزهادة، وكمّله بفصاحة اللسان، التي لاتوجد الآن في إنسان، من النظم والنثر، والتصانيف الرائقة، والحكم الفائقة.
ثم ذكر جواب الإمام الناصر لدين الله محمد بن علي بن محمد (ع) عليه؛ وفيه من درر الكلام ما يدل على فضله، وفضل الإمام (ع)، وهو ما لفظه:
وصل كتابه الجامع للمحاسن، الفارق بين العذب الزلال والآجن الآسن؛ فتعطر جيد الخلافة بدرره، وتثمر وجه الحال بغرره، متجلبباً بالعجب، جامعاً للأدب، قد ملأ الدلو إلى عقد الكرب، وضمنه ما هو أشهى من المن والضرب؛ ولعمري، لقد أصبح منشئه عميد الفصاحة وناموسها، ويافوخ البلاغة وقاموسها، وما هو إلا لطائم المسك الأذفر، وكرائم اليمّ الأخضر، كنوز الرموز، ورموز الكنوز، وأفكار الأبكار، وأبكار الأفكار، نبه ووعظ، وقرض وأيقظ؛ لله دره من منطيق! وما ذكره من كلام الشافعية فالغيرة من الإيمان، وينبغي الذب عن الحوزة الزيدية، والانتصار للأسرة النبوية، باليد واللسان، والسيف والسنان؛ فلا زالت تلك الروية تنبذ الجواهر الطريفة، وتقذف بالدرر الشريفة، والله يمد مدته، ويحرس كريم مهجته، ويعيد من /217(2/217)
بركاته؛ والله يعلم أن القلب يأنس به، ويعتقد فضله وكرمه؛ ويأنس بأهل الدين، لايهضم لهم جانب، وهو في الحياة...إلخ كلامه المتين النبوي، والمعين العلوي، عليهم أفضل تحياته وسلامه.
قال: وكان إبراهيم الكينعي ـ رحمه الله ـ يعظمه تعظيماً عظيماً، ويكرمه.
سمعته يوماً يقول: هذا الهادي بن إبراهيم، إمام من أئمة أهل البيت؛ لأنه يافلان، أعلم الناس في علوم الشريعة، وأكملهم في معرفة علوم أهل الطريقة والحقيقة.
وقال له: أحبّ منك أبياتاً على وزن:
كسيحون محبته .... غدا قلبي به سمكا
فأنشأ ـ رضي الله عنه ـ:
صغير هواك عذّبني .... فكيف به إذا احتنكا؟
هواك عليك مقتصر .... وقلبي هام فيك لكا
ولي روح به شغف .... يروح إليك وهو لكا
ولي قلب أراك به .... إذا ما العين لم تركا
وإني فيك ذو وَلَهٍ .... فما أبقى وما تركا
ولي شوق إليك غدا .... عليه القلب مشتبكا
لقلبي باللقا ضحك .... ومن خوف الصدود بكى
فيا عجباه من دَنِف .... لدمع جفونه سفكا
ومنها:
ولو صبّت مدامعه .... غدت من مائه بِرَكا
كسيحون...البيت.
وهذا آخرها: /218(2/218)
ومالي عنه من بدل .... ومن لسمائه سمكا
قال: وله (ع) كرامات تروى.
وذكر منها: واقعة قوم تعدوا عليه فسلط الله ـ تعالى ـ عليهم عاجلاً وانتهبوا، وأسر بعضهم، وقتل بعضهم، وشاهدهم بعينه؛ ثم تاب من بقي منهم وأناب؛ هذا حاصلها.
قال: وأما أبوه السيد الإمام إبراهيم، فكان عالماً فاضلاً، زاهداً عابداً، قد براه الخوف، وأنحلته العبادة، وكان يتلألأ نوراً، ويُرى نور وجهه من بعيد.
...إلى قوله: روى لي السيد الأفضل أحمد بن الهادي بن أمير المؤمنين يحيى بن حمزة (ع)، أن هذا إبراهيم كان يؤثر بطعامه، وطعام أهل بيته، الفقراء؛ ورب ليلة يضمرونها.
إلى قوله: وله كرامات ظاهرة، وفضائل باهرة.
قال: وأما أبوه علي بن المرتضى، فإنه الفاضل الكامل، الورع الزاهد، ذو الكرامات الباهرة، والفضائل الظاهرة، والتنويرات الربانية، والمكارم الفائقة، والسجايا الرائقة، والأوراد الصالحة، والانقطاع إلى الله بالمرة؛ سكن (ع) بهجرة الظهراوين بشظب، انقطعوا إلى الله بها، وهاجروا من فتن الدنيا، ووظفوا الوظائف الحسنة من العبادات، والتلاوة ودرس العلوم؛ ومشائخهم وشبابهم ونساؤهم، بهم ضرب المثل، ويتوسل إلى الله ـ عز وجل ـ.
...إلى قوله: وصل إلى حدة بني شهاب، لزيارة بنت أخته الشريفة الفاضلة، العالمة، الزاهدة، العابدة، سيدة نساء دهرها، وبركة أهل عصرها، حورية بنت محمد بن يحيى القاسمي؛ فعلمتُ به ثمة، فقصدتُه للزيارة، فصليتُ خلفه العصر؛ أعتقد أنها أفضل صلاة قد صليتها؛ لما رأيت فيها من الخوف والنحيب، والرجيف والوجيف، والحنين والأنين والسكون، والهدوء والطمأنينة، في الأركان كلها.
فلما فرغ من صلاته أخذ المصحف الكريم، ووضعه على رأسه، /219(2/219)
وقال: إلهي ما لنا من عمل صالح نتوسل به إليك، إلا أني أتوسل إليك، وأبتهل بين يديك، وأسألك بجاه كتابك هذا الكريم أن تجيرنا من النار.
وقيل: هذا ديدنه بعد كل صلاة فريضة، وكان لايملك شيئاً من الدنيا سوى ثيابه التي يلبسها.
وأما كراماته: فهي جمة العدد، أذكر منها كرامة، وهي كافية، وهي: ما روى لي الثقة الأمين أحمد ابن خالي الهادي بن الإمام يحيى بن حمزة، أن رجلاً من أهل تلك الناحية، في جربة له حَجَرَة عظيمة، أعياه كسرها؛ فوقع في نفسه أن يتلطف للسيد الإمام علي بن المرتضى بن المفضل؛ ليصلي عليها، لعل الله ييسر ببركته كسرها؛ فساعده السيد الإمام وارتقى عليها، وتوجه وصلى؛ فلما بلغ الشهادة بالوحدانية، شهد بها من صميم فؤاده (ع)، فتفلقت الحجر من تحته، من عظم يقينه، ووقوع الشهادة على إرادة الله ـ تبارك وتعالى ـ فانزعج الناس من قعقعة الحجر، فوصلوا فوجدوها قد مرت قطعاً قطعاً.
وهذه ـ والله ـ كرامة عظيمة، وآية كبرى؛ أعاد الله من بركاته.
قلت: وقد ترجم للسيد الإمام المجتبى، علي بن المرتضى، في الطبقات، ذكر فيها: أن وفاته في شعبان، سنة أربع وثمانين وسبعمائة؛ ولولده إبراهيم، ووفاته سنة اثنتين وثمانين وسبعمائة، قبل والده علي بن المرتضى (ع)، وذكر لهذه الكرامة ما يناسبها، أن بعض الفضلاء ذكر كلمة الإخلاص في مسجد الجامع، فتصاكت قناديل المسجد، حتى تكسرت بعضها في بعض، فانزعج إخوانه، فقال: إني معتقد أن السواري تصاك بعضها في بعض؛ ولقد عجبتم من القناديل.
لله أهل الأسرار والإخلاص، واليقين الخاص!
قال: وأروي عن السيد الإمام الواثق بالله المطهر ابن أمير المؤمنين محمد /220(2/220)