عليه شيء من الأحكام؟
وعلى ذلك فقد اختل كلامه وبطل، وانتقض غرضه واضمحلّ.
فأقول وبالله أصول وأجول:
أما الأول: وهو نفي المصرح فيه، فقد أوضحت بطلانه، وأقمتُ برهانه.
وأما الثاني: وهو نفي مالم يصرح به، فهو من الرجم بالوهم، والرمي بالغيب، والحكم بلا أمارة ولا دليل؛ بل الأقرب والأصوب، الذي يشهد له أحوال إمام اليمن، محيي الفرائض والسنن ـ صلوات الله عليه ـ أن مالم يصرح فيه بالسند من البلاغات ونحوها، وأصول المسائل التي رواها عن أبيه الوصي، وجده النبي ـ عليهما وآلهما صلوات الملك العلي ـ وهي الكثير الطيب، والغزير الصيب، مسلسلة الرواة، بآبائه الهداة، وسائر العترة سفن النجاة؛ لوجوه صحيحة، ومرجحات صريحة، منها: تصريحه في الأحكام، وتوكيده التوصية لأهل بيت النبوة في أخذهم العلم عن سلفهم الكرام.
قال صلوات الله عليه، في باب القول في اختلاف آل محمد ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: قال يحيى بن الحسين: إن آل محمد ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ لا يختلفون إلا من جهة التفريط؛ فمن فرط منهم في علم أهل بيته أباً فأباً حتى ينتهي إلى علي بن أبي طالب (ع)، والنبي - صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم - وشارك العامة في أقاويلها، واتبعها في شيء من تأويلها، لزمه الاختلاف؛ ولاسيما إذا لم يكن ذا نظر وتمييز، وردّ ما ورد عليه إلى الكتاب، وردّ كل متشابه إلى /126(2/126)


المحكم.
فأما من كان منهم مقتبساً من آبائه أباً فأبا حتى ينتهي إلى الأصل، غير ناظر في قول غيرهم، ولا ملتفت إلى رأي سواهم، وكان مع ذلك فَهِماً مميزاً، حاملاً لما يأتيه على الكتاب والسنة المجمع عليها، والعقل الذي ركبه الله حجة فيه، وكان راجعاً في جميع أمره إلى الكتاب، وردّ المتشابه منه إلى المحكم، فذلك لايضل أبداً، ولا يخالف الحق أصلاً.
قلت: وهذا يدل على أن المراد بذلك أنهم لايختلفون في أصول الدين وقطعيات الشريعة التي لايجوز الاختلاف فيها؛ ولا يصحّ حمله على مسائل الاجتهاد، لوقوع الاختلاف بينهم قطعاً، حتى بينه وبين جده القاسم وأولاده (ع).
فبالله عليك أيها الناظر المنصف، لا المناظر المتعسف، أما يشهد كلام إمام الأئمة هذا شهادة بينة، ويدل دلالة قيمة، على أخذه لعلمه كما وصى به عن سلفه، وأهل بيته هداة الأمة، فهو تالله، أجلّ؛ وحاشا مقامه أن يوصيهم بالبر وينسى نفسه؛ أم وصاهم بما لا طريق إليه، ولاسبيل لهم عليه، أو حثهم ذلك الحث البليغ، على أخذ جميع علمهم عن سلفهم، والحال أنه يقلّ وجوده، كما زعم صاحب التنقيح وجنوده، بل ليس عنده في الأحكام إلا حديث واحد؟!
فأنت أيها المطلع موكول في مثل هذا إلى علمك، وفهمك ودينك.
ومنها: أنه معتمد في الأعمّ الأغلب، بل لايشذ عن ذلك ماتفرد في المذهب، على الإسناد والاستناد فيه، بلفظ: حدثني أبي، عن أبيه؛ وأبوه هو الحافظ، وجده هو نجم آل الرسول ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ وإمام أسباط الوصي والبتول ـ صلوات الله عليهم ـ، أيكون نجم أهل بيت النبوة، وكذا من بعده من آبائه لم يأخذ كل واحد منهم عن أبيه إلا حديثاً، أو حديثين يرويه، وفي مذهبه يقتفيه؟‍! مع أن كل واحد منهم أدرك أباه، وهذّبه ورباه، ومن معين العلوم /127(2/127)


سقاه؛ كلا، لعمرك إن هذا مما لاتقبله ولاترتضيه.
وقال بعض علماء العصابة المرضية: والمختار عند أئمتنا (ع) تقديم ما ثبت عن أئمة العترة، مسنداً، أو مرسلاً، وتقديم رواية القرابة، على غيرهم من سائر الصحابة.
قال: وقد ذكر الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين ـ قدس الله روحه في الجنة ـ أنه ما يقول إلا ما يقول آباؤه، ولايقولون إلا ما يروونه عن أجداده، حتى يتصل بأبيه علي (ع)، ثم بجده محمد ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ.
قلت: وهذا محمول على أصول التوحيد والعدل، والمهمات من الشريعة، لايصح حمله على غير ذلك قطعاً.
وروي عن الهادي (ع) أنه إذا أطلق الحديث، فهو لقوته؛ إذْ رواته عدول؛ إذْ لا تطلق الرواية إلا عمن كملت فيه تلك الشروط؛ فكان ما في مجموع القاسم والأحكام للهادي (ع)، وسائر كتبهما، هو نفس قول النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ إلا ما أشار إلى أنه عن اجتهاد... إلى آخر كلامه.
وقد نقله بتمامه، القاضي شمس الدين، أحمد بن يحيى حابس ـ رضي الله عنه ـ في المقصد الحسن.
[إسناد أئمة العترة أصول مذهبهم إلى الهادي]
ومنها: أن أئمة العترة المحمدية ـ صلوات الله عليهم ـ ومن تبعهم من أعلام العصابة الزيدية ـ رضوان الله عليهم ـ أسندوا فقههم ومذاهبهم ـ أي أصولها وجملها ـ إلى إمام اليمن، محيي الفرائض والسنن، بسند آبائه عليهم الصلوات والتسليم.
وممن صرح بذلك منهم: الإمام المتوكل على الله يحيى شرف الدين (ع)، حيث قال: لنا سند في الفقه عجيب، وسبب ممتد صليب، يتصل بخاتم المرسلين ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ عن رب العالمين؛ نرجو به الفوز الأسنى عنده، ونسأله أن يوزعنا عليه وعلى سائر النعم شكره وحمده.
ثم /128(2/128)


ساقه بالقراءة متصل السند إلى الإمام المؤيد بالله (ع)، قراءة على أبي العباس الحسني، قراءة على يحيى بن محمد المرتضى، قراءة على عمه أحمد بن يحيى، قراءة على أبيه الهادي يحيى بن الحسين، قراءة على أبيه الحسين، قراءة على أبيه القاسم، قراءة على أبيه إبراهيم، قراءة على أبيه إسماعيل، قراءة على أبيه إبراهيم، قراءة على أبيه الحسن، قراءة على أبيه الحسن السبط، قراءة على أبيه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، أخذه عن رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين ـ.
وكذا الإمام المنصور بالله القاسم بن محمد (ع)، قال: فأنا أروي مذهبي عن السيد العلامة صارم الدين إبراهيم بن المهدي الجحافي القاسمي قراءة، وعن السيد العلامة أمير الدين بن عبدالله من آل المطهر بن يحيى إجازة، وعن غيرهما إجازة وقراءة.
ثم ساق السند مسلسلاً بآل محمد من طريقة الإمام شرف الدين إلى الإمام المتوكل على الله المطهر بن يحيى؛ ثم بسنده إلى الإمام المرتضى لدين الله، عن آبائه، إلى رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ وقال في آخره: فهذا هو مذهبنا؛ وقد تقدم.
وكذا سند الواثق بالله، المسلسل بآبائه إلى رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ.
وكذا غيرهم من السلف والخلف.
وقد سبق في اتصال أسانيدنا إليهم، وأسانيدهم إلى سلفهم، في الفصل الرابع، وغيره، ما يكفي ويشفي.
نعم، والذي تقدم التصريح فيه، والنقض به عليه، هو المسلسل في الأحكام بآبائه الكرام؛ وأما فيما كان عن سائر سلفه الأعلام، فقد صرّح الإمام في الأحكام، بمسلسلات سادات الأنام (ع)، ففيه الكثير النافع، والغزير الواسع، عن الإمام الأعظم، وعن أخيه الباقر، وولده الصادق، وابن /129(2/129)


عمهم عبدالله بن الحسن الكامل، بسند آبائهم ـ صلوات الله عليهم ـ وقد تقدم منها عند تمام سند الأحكام؛ والوامض اليسير، يدل على النوّ المطير؛ ألا ترى أنه في المسائل التي كثر الاختلاف فيها، وتعارضت الروايات عن أهل البيت (ع) في شأنها، نحو مسألة الطلاق المثلث، كيف أورد الإمام ـ صلوات الله عليه ـ أسانيده عن نجوم آل محمد صلوات الله عليهم، فقال (ع): حدثني أبي، وعمّاي، محمد، والحسن، بنو القاسم بن إبراهيم، عن أبيهم القاسم بن إبراهيم ـ رضوان الله عليهم ـ.
ثم أسند أقوال جده نجم آل الرسول، والإمام أحمد بن عيسى بن الإمام الأعظم، والإمام موسى بن عبدالله بن الحسن ـ صلوات الله عليهم ـ إليهم...إلى قوله: وحدثوني عن أبيهم القاسم بن إبراهيم، عن رجل يثق به، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن آبائه، عن علي (ع)، أنه كان يقول فيمن طلق ثلاثاً في كلمة واحدة: إنه يلزمه تطليقة واحدة، ويكون له على زوجته الرجعة، مالم تنقضِ العدة.
قال أبو محمد القاسم بن إبراهيم ـ رضي الله عنه ـ: وهو قول بين القولين، قول من أبطل أن يقع بذلك شيء من الطلاق، وبين قول من قال: إنه يقع بذلك الثلاث كلها؛ وهذا قولي.
وقد روي ذلك عن زيد بن علي، وعن جعفر بن محمد ـ رضي الله عنهم أجمعين ـ من جهات كثيرة، أن من طلق ثلاثاً معاً في كلمة واحدة، فهي واحدة، انتهى.
قلت: والروايات في هذا مختلفة، بأسانيد صحيحة، كما في مجموع الإمام الأعظم، عن آبائه، عن علي (ع)، وفي أمالي الإمام أحمد بن عيسى (ع)، مما يفيد بصريحه وقوع الثلاث.
والذي أراه أن أحسن ما يجمع /130(2/130)

2 / 151
ع
En
A+
A-