زواره ملائكة الله، ومؤنسوه كرام الحضرة الإلهية؛ يشاهد ذلك عياناً، في المكة والبيت العتيق، وطريق العمرة؛ ولقد حظر علي ما شاهدت، ولولا ذلك لأخبرتك بعجيب غريب؛ ولعل الله الكريم المنان يجمع البين، ويدني الديار، ونفوز بلذة الأخوة الصالحة في الله...إلخ.
...إلى قوله: ما روى تلميذه وزميله في الحضر، ورفيقه في السفر، حسن بن موسى بن حسن، وقد تقدم ذكره، وفضله، قال: كنت مع سيدي إبراهيم ـ رحمه الله تعالى ـ فقال: ياحسن، اعلم أن النوم ـ بحمد الله ـ قد ملكته بعد أن ملكني، إن شئت أن أنام نمت، وإن شئت ألا أنام ولو اضطجعت لم أنم، وإن شئت أن ينام جسدي وقلبي مع الله فعلت، وإن شئت ينام قلبي نام.
قلت: وليس في هذه الكرامات لأولياء الله - تعالى - حطّ ولا هضم ولا مقاربة، فضلاً عن المساواة، لدرجات أنبياء الله ـ تعالى ـ؛ لأن لهم ما هو أجل وأفضل، بل هذه دلالات نيرات، وآيات بينات، على تفضيلهم، وعظم محلهم، وشواهد ناطقة، وبراهين صادقة، على تأييد رسالاتهم، وتحقيق نبواتهم؛ لوقوعها لمتبع شرعهم، وملتزم دينهم؛ فهي كرامات لأولياء الله، ولاحقة بمعجزات رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم، وعلى جميع أنبياء الله ـ بل ولا تدل على فضل من وقعت له ممن ليس بإمام أو ليس من آل محمد، على الأئمة الهادين، والعترة الطاهرين؛ لكون هؤلاء الأفاضل الأكرمين من خُلّص أتباعهم، ولباب أشياعهم، المقرين بتفضيلهم، المتقربين إلى الله ـ تعالى ـ بمودتهم؛ بل هي دلالة على فضل آل محمد ـ صلوات الله عليهم ـ وبرهان على ما لهم عند الله ـ تعالى ـ من علو الشأن، وعظم المكان؛ ولا شك أن المتبوع أفضل، والمقتدى به، /211(2/211)


المهتدى بهديه أجلّ، وكل له عند الله - تعالى - منزلة ومحل؛ وليست هذه الكرامات بمعجزات؛ إذ المعجز هو الواقع لمدعي النبوة، كما حقق ذلك في الأصول، والوقوع فرع الجواز عند ذوي العقول.
[التبكيت لمن يكذب بالكرامات]
وما يقع من الجهلة، الذين لا حظّ لهم في معرفة هذه المنزلة، من الردّ والتكذيب؛ وكذا ما قد يصدر ممن يتلبس بالعلم والمعرفة، من التشكيك والتردد، الدالين على بعدهم عن أهل هذه الصفة؛ فكل ذلك مدفوع بالبرهان، الذي ليس بعده بيان؛ إذْ منها ما هو ضروري بالمشاهدة، ومنها ما هو متواتر معلوم، ومنها ما هو ثابت الصحة بروايات الثقات العدول، كمثل ما في كتب أئمة الهدى، التي قدمنا أسانيدها، ومثل ما في هذا الكتاب، المتصل السند، ولعمر الله، إن المناكرة والجحد لهذا، لدليل على نكس القلوب، وأن صاحبها عن أنوار هذه الهداية محجوب.
[عودة إلى كرامات الكينعي وشيء من شعره]
هذا، وقد أورد في هذا البحث كثيراً عن بعض إخوانه، أنه قال له: هل تسرّنا بكرامة لك، تشرح صدورنا؟
فقال: إبراهيم ـ رضي الله عنهم ـ: إني إذا أردت أمراً أو سفراً، وسألت الله الخيرة، سمعت شخصاً يقول: افعل أو لاتفعل.
قال: ومما نقل من كلامه وخط يده، مما نحن بصدده: الحمد لله، الذي أسعدنا به عن غيره، وبه عن ذكره؛ لايعرف هذا ويصفه إلا من ذاقه، فمن لم يسلك الطريق، فلا يكن منه نكير على أهل التحقيق، فهي منح من الملك الجبار، يفيضها على من يشاء ويختار.
قال: ومما قاله إبراهيم ـ رحمه الله تعالى ـ:
ببابك عبدٌ واقفٌ متضرّعٌ .... مقِلّ فقيرٌ سائلٌ متطلعُ
حزينٌ كئيب من جلالك مطرق .... ذليلٌ عليل قلبه متقطّعُ
أنا الضارع المسكين ممدودة يدي .... إليك فما لي في سوائك مطمعُ /212(2/212)


فؤادي محزون ونومي مُشَرَّد .... ودمعيَ مسفوح وقلبيْ مروّعُ
فلا تبلني بالبعد منك فإنه .... أشد بلاء الخائفين وأوجع
إذا رجع القصّاد منك بسؤلهم .... فيا ليت شعري كيف عبدك يرجع؟
[إخبار الهادي بن إبراهيم(ع) بمرض الكينعي ووفاته]
قال في الفصل الحادي عشر: وأما وقت وفاته، وموضع قبره، فإني لما علمت برجوعه إلى الله، ولقائه لمن يحب لقاه، أظلمت الأقطار، واسود النهار، وتزعزع الفؤاد، وانتزع العقل أو كاد، استرجعت واستغفرت، وحمدت الله تعالى على عظم المصيبة، وحلول الرزية، وقلت كما قال علي (ع):
ألا أيها الموت الذي ليس تاركي .... أرحْني فقد أفنيتَ كلّ خليل
أراك بصيراً بالذين أحبّهم .... كأنك تسعى نحوهم بدليل
وكتبت كتاباً إلى السيد الإمام، جمال الملة المحمدية، وتاج إكليل العصابة الزيدية، وشمس أندية العلوم الربانية، آية الزمان، وبركة هذا الأوان، جمال الدين، الهادي بن إبراهيم بن علي بن المرتضى بن المفضل ـ مد الله فضله، ونشر بره، وأعاد من بركاته ـ استعلمه من مرضه ـ رحمه الله تعالى ـ ووقت وفاته، وأخبره بوضعي لهذا الكتاب، ويحقق لي حال إبراهيم الكينعي، وما شاهد من كراماته، وموضع قبره؛ فوصلني جوابه الكر يم، المسلي لكل قلب مكلوم أليم، أوله:
بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله على كل حال.
جواب من أسلمته ذنوبه، ولكن إلى رب كريم، وكتاب من أوبقته عيوبه، ولكن في سوح غفور رحيم.
إلى قوله /213(2/213)


في وصف المؤلف ـ رضي الله عنهما ـ: وهداه بوهاج الزيادة، وعداه إلى منهاج العبادة، أخوه في الله، المحب له صدقاً ـ إن شاء الله تعالى ـ فيشتاق إليه شوق المطافيل إلى أولادها، ويحن إليه حنين العطافيل إلى أفلاذ أكبادها؛ علماً بأن في اجتلاء غرة الأخ الحبيب، المولع بكل عبد منيب، سلالة زين العابدين، يحيى بن المهدي بن زيد بن علي بن الحسين، جِلاء للقلوب، وبالنظر إليه انتفاء للكروب.
ولما وصلني كتابه، الذي فاقت أصوله، وراقت فصوله، كان فاتحاً للخيرات وصوله؛ أهلاً به من كتاب، طبق مفصل الثواب، وطابق مقصد السنة النبوية والكتاب.
ذكر سيدي ـ أيده الله ـ عنايته المرضية، بتأليف مختصر يحتوي حلية الصفوة الرضية، من هذه البرية، فاهتز القلب إلى ذلك نشاطاً، ومد الشوق إلى ما هنالك بساطاً.
...إلى قوله: ملك عُبَّادِ الملك الجليل، المتشبه بسميِّه إبراهيم الخليل، وما ذكر في مقام إلا فاحت نوافجه، وصعدت إلى الملأ الأعلى معارجه.
قلتَ ـ أيدك الله ـ: صف لي كراماته، وما انتهى إليّ من أحواله؛ فسبحان الله! أنى لي مِقْوَل يصوغ هذه الحلية الشريفة، أو قلم يحيك هذه البردة اللطيفة الظريفة؟ لساني عن بيان فضله كليل، وبراعتي لاتحسن صياغة هذا الإكليل؛ لكني أسلس قياد الطاعة، وأرتسم لما ذكره حسب الاستطاعة.
اعلم ـ وفقك الله ـ أنه لما وصل من جوار البيت العتيق، وقف فيه ثلاث سنين، ووصل إلى حَلْي، وابتدأه المرض فيه، ورفيقه العبد الصالح، التقي العابد، صبيح، مولى آل زيدان، وصل إلى ناحية جازان، شكى أهل الجهات تلك الجدب والعطش، فدعا لهم ولسائر أهل البلدان، فحصل ببركته ذلك المطر /214(2/214)


العظيم، الذي عمّ البلدان كلها، يوم الأربعاء، في شهر ربيع الأول؛ فلما وصل قريباً من صعدة، قال لصبيح: إني رأيت لعشرة من إخواني الجنة، وأمرت أن أبشرهم ـ ثم رسم أسماءهم ـ قال: وأنت يا صبيح بن عبدالله.
ولما توفي ـ رحمه الله ـ خرج أهل صعدة كافة، السادة والعلماء، والفضلاء والأمراء، وأهل المدينة عن بكرة أبيهم إلا الشاذ؛ وكان ذلك اليوم بكرة نهار الأربعاء، ثامن وعشرين من شهر ربيع الأول، سنة ثلاث وتسعين وسبعمائة.
قلت: وقد سبق في التحف الفاطمية ، ولكن ساق إليه الكلام.
قال: وفي يوم موته تقدم السيد الإمام، دواد بن يحيى بن الحسين، صلى عليه؛ وهو الذي أوصى حي الإمام المهدي علي بن محمد أنه يتولى الصلاة عليه، وكان هذا من تمام لطف الله وتوفيقه.
وأما مكان قبره، فهو بالبقعة المباركة، رأس الميدان، غربي مدينة صعدة، قد عمر عليه صبيح هذا مشهداً، وهو مشهور مزور؛ ووقف صبيح بعده أياماً، وتوفي ودفن بمشهد الفقيه ـ رحمة الله عليهم، وأعاد من بركاتهم ـ.
قال: ثم إني أنشأت أبياتاً في ضريحه:
يا زائر القبر فيه بهجة الزمن .... العابد الصدر نور الشام واليمن
ثم أورد القصيدة (البديعة) التي قالها فيه، صدرها:
شجر الكرامة والسعادة أينعي .... للقاء سيدنا الإمام الكينعي
وهي سبعة وستون، آخرها:
يا نفس إبراهيم أنت كريمة .... في داره بدعائه لما دعي
أنتِ المرادة عند ربكِ فاسمعي .... بالمطمئنة حين قال لك ارجعي
قلت: يحمل على إرادة الجنس ـ أي هي وما شاكلها من المطمئنات ـ /215(2/215)

19 / 151
ع
En
A+
A-