الواثق بالله، المطهر بن محمد بن المطهر؛ وقال: أشهد لله أن هذا إمام مفترض الطاعة؛ رضيت به إماماً لي وللمسلمين.
ثم قام السيد الإمام، عبدالله بن الإمام يحيى بن حمزة، ثم القاضي العلامة فخر الدين، عبدالله بن حسن، ثم الفقهاء العلماء بنو حنش، ثم الأول فالأول، حتى أتوا على آخرهم؛ فنور الله بصائرهم، ووفق أنظارهم، وجعل الله في ذلك خيراً كثيراً؛ وقام بالأمر ضليعاً، وجاهد أعداء الرحمن.
قال: ثم إن الناصر (ع) مدّ الله ظلّ عدله، ونشر من فضله ما لايمكن شرحه، من إحياء رسوم الدين، ورفع منار المسلمين، والإحسان الجم، والمعروف الذي عمّ.
وجرى قلمه المبارك، من حَلْي ابن يعقوب، إلى باب زبيد، إلى الشِّحْر بساحل البحر، إلى كور الجحافل بالمشرق، إلى جبلة اليمن، إلى بيشة؛ وأحيا الله به الدين، وأمات بسره وبركته وهيبته شوكة الكافرين والفاسقين؛ وكانت دولته المباركة، ودولة أبيه الإمام المهدي، نيفاً وأربعين سنة.
قلت: واستمر ولده المنصور علي بن صلاح في الخلافة أربعين سنة، وكانت ولايتهم المباركة النبوية، أكثر من جميع مدة الأموية؛ فسبحان الحي الدائم المالك القاهر للبرية؛ فما أصدق قول القائل!:
كل شيء سواه يفنى ويبلى .... وهو حي ـ سبحانه ـ لا يزولُ
قال: وكانت له هيبة في قلوب الكافرين والفاسقين، ما لايمكن وصفه، حتى أن الواحد منهم إذا كلمه دهش، وارتعدت فرائصه؛ وكان كثير التهيب في مجلسه(ع) بالسلاح، والعدد والآلات، وكانت له محبة ومودة في قلوب المسلمين، والعلماء والصالحين، كما مرّ.
رأيت يوم فتح حصن الباطنية، وكان في /201(2/201)


حضرته علماء عصره، وأوتاد دهره؛ فساعة الفتح رأيتهم يقبلون أقدامه الشريفة، ويضعون رؤوسهم في حجره المبارك، ويقولون: الحمد لله الذي بلغنا هذا اليوم، وأدركنا دولتك.
سمعته وهو على المنبر بذمار، بعد قيامه بأمر الإمامة، يقول: يا معشر المسلمين ـ بعد أن حمد الله تعالى، وأثنى عليه، ووعظ الناس حتى ضج المسجد بمن فيه من البكاء والعويل، والخشوع الطويل ـ إني ما قمت بهذا الأمر إلا لله، ولإعزاز كلمة الدين، وزم أيدي المارقين، لا لغرض دنيوي؛ اللهم إن علمت مني خلاف ذلك، فلا وفقتني، ولا هديتني ولا رحمتني، ولا أجرتني من نارك وغضبك.
وأسبل دموعه شبه المطر، حتى تقاطرت على ثيابه وعلى منبره، وأنا شاهد بذلك.
[في وظائف الإمام الناصر محمد بن علي (ع)]
ثم ذكر أوراده الصالحة؛ وكان يحيي بين العشائين بالصلاة، ولا يتكلم بين الصلاتين؛ فإذا فرغ من ورده صلى العتمة، وبعدها ركعات؛ ثم يسجد سجدة طويلة، قدر قراءة جزء من القرآن، ثم يقبل على أهل حضرته، وهم العلماء الفضلاء العباد الصالحون، فيفطرون، ويخرجون من عنده؛ ويستقبل الليلة مطالعة للكتب، ونظراً في مصالح المسلمين، وسداد الثغور؛ وينام هنيهة، ثم يقوم في أول الثلث الآخر، فيحييه صلوات واستغفاراً، وخشوعاً ودعاء، حتى تطلع الشمس، ولا يتكلم قبل طلوعها ولو عراه مهم.
ثم ذكر من أوراده وأدعيته الشريفة ما تركته لإيثار الاختصار.
قال: وكان يصوم رجب، وشعبان، وشهر الله المحرم، والأيام البيض، وتسع الحجة، في السفر والحضر، لا يفطرها، فيما علمت وتيقنت؛ وكان على وجهه الكريم من الأنوار ما لا يستطاع إلحاح النظر في وجهه من النور والبهاء، والسيماء الأسنى. /202(2/202)


قال: وأما مودة إبراهيم الكينعي، فكان يوده مودة لله خالصة.
قال يوماً: نستغفر الله من تقصيرنا في حق هذا الإمام.
وكان يزوره في كل عام إلى ذمار، وإن كان في صنعاء ففي الشهر، أو الشهرين زورة، ويقف عنده شطر الليل؛ وكان يذكر له أحوال الناس، ويسأله لإخوانه وللفقراء، فيقول له: وقّع ما تشاء، وسلمها إلى فلان ـ من خدمه ـ سهلت أو عسرت، جلّت أو دقّت.
وشايعه وبايعه وجاهد معه.
قال إبراهيم الكينعي ـ رحمه الله ـ: ما وجدت في علوم المعاملة، وعلوم أهل الحقيقة، ووظائف أهل الطريقة، ومكاشفات أهل الحقيقة، في وقتي هذا، أعرف من الإمام الناصر (ع).
قال: وكان إبراهيم الكينعي يشتاق إلى رؤية الإمام الناصر، ووعظه وحكمه؛ وكان يقسم ـ رحمه الله ـ إذا وافق الإمام ليقبل أخمص قدميه؛ فيقول الإمام: أنا أكفر عن يمينك.
فيقول: لابد لي أن أفعل.
ويحب الإمام أن لاينفره ويضيقه؛ وكان يأخذ يد الإمام، ويضعها على صدره، وإذا أكل معه أخذ لقمة، وأشار بها إلى الإمام أن ينفث فيها من ريقه، ويقرأ عليها شيئاً من القرآن.
ووجدتُ بخط يده بعد موته ـ رحمه الله ـ ما لفظه: يا هو، ياهو، صل على محمد وآله؛ لما كان في صفر ـ غالب ظني ـ سنة إحدى وتسعين وسبعمائة، وأنا بمكة ـ شرفها الله تعالى ـ وأنا مشغول القلب بشخص أحبّه كثيراً، وأدعو له بأن الله يحفظه وينصره، ويرضى عنه؛ فأُجِبْتُ وأنا في اليقظة، بأنا قد حفظناه ونصرناه ورضينا عنه، وأمرت أن أكتبه لا أنساه، وكرر علي مراراً، وقيل لي: بشره بهذا فيطيب نفساً، ويقر عيناً، وهو الإمام الناصر محمد بن علي.
وكان يقول: لولا أني نهيت، لأخبرتكم عن الإمام صلاح من الكرامات/203(2/203)


والتنويرات، ما يزيدكم فيه اليقين.
وجاء مرة إلى عند الإمام، فنزل الإمام عن جواده، وعانقه وصافحه، وهو في بزة بالية.
فقال بعض من يليه: من هذا الذي عانقه الإمام؟
فالتفت إليه الإمام، وقال: هذا مجهول في الأرض، معروف في السماء.
وقال: كنت مع الإمام الناصر بذمار، وكنت أحضر معهم في سماع كتاب الثعلبي في تفسير القرآن، فابتدأني الإمام، وقال: جاءتني ورقة من صعدة، بأن الفقيه إبراهيم وصل من مكة؛ وتوجع من حلي، إلى صعدة، وقد بلغ معه الضعف غاياته؛ يعلم الله ـ تعالى ـ أني سهرت هذه الليلة شغلاً عليه وخيفة.
ولما بلغه موت الفقيه ـ رحمة الله وبركاته عليه ـ سقط ما في يده، وقال: الآن ـ والعياذ بالله ـ وقع ما كنا نحاذر؛ فإنا بالله عائذون.
ووقف بعده الإمام أشهراً، ووقع عليه أمر الله؛ فإنا لله وإنا إليه راجعون، نحمده على ما منح ووهب، وعلى ما استرجع وسلب، ونستغفره ونتوب إليه، ونسأله ونتضرع إليه، أن يوفقنا لكل ما يرضيه، من كل قول وعمل واعتقاد ونية، ويختم آجالنا بالخير والحسنى، ويثبتنا بالقول الثابت في الدنيا والآخرة، ويتقبل منا ولايتنا لأوليائه، ومحبتنا لمحمد وآله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ.
ثم ساق الكلام في سيرته، وذكر أولياء عصره.
[في كرامات الكينعي الظاهرة والباطنة]
إلى قوله:
الفصل الثامن:
في كراماته الظاهرة والباطنة، وما فتح الله له في مجاورته البيت العتيق، من الأسرار والكرامات، في اليقظة والمنام.
قلت: ونتبرك بذكر نبذة نافعة ـ إن شاء الله تعالى ـ وإنه ليغني في الدلالة على ماله عند الله تعالى من ارتفاع الدرجة، وعلوّ المنزلة، ما أكرمه الله تعالى به من الأنوار الساطعة، المشاهدة بالأبصار، على سبيل الاستمرار؛ وهو ظهور النور /204(2/204)


المنير، الساطع الأخضر، من فوق ضريحه المقدس، إلى عنان السماء، لاشك فيه ولا لبس؛ وهذه الأنوار الإلهية مشاهدة بالأبصار، على ضرائح كثير من أولياء الله ـ تعالى ـ الأبرار، في عصرنا هذا وغيره من الأعصار؛ ولم تزل تشاهد على الفضلاء بالمقبرة المباركة المقدسة، بمدينة صعدة المحروسة، وغيرها، لايخفى منارها، ولاتطفأ أنوارها؛ وذلك من عاجل ما وهب لهم في دار البلى، فكيف بما أعدّ لهم وأخفى المليك الأعلى، في دار الكرامة والبقاء؟!، فالحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى.
فمما ذكر من كراماته ـ رضي الله عنهما وأرضاهما ـ:
قال: ما روى أخص إخوانه عنده، السيد العالم، الفاضل الزاهد، الهادي بن علي، أنه حثّه على قراءة آية الكرسي؛ ورغّبه أنْ قال: إني قرأتها، فسمعت منادياً ينادي: يا إبراهيم.
وروى عنه شخص آخر، أنه قال عقيب قراءتها: يا إبراهيم قد قبلناك.
وروى عنه آخر، أنه سمع منادياً ينادي: يا إبراهيم ليهنك ما أعد الله لك.
الكرامة الرابعة: ما رواه الفقيه العلامة، الأكمل الأفضل، يحيى بن محمد العمراني، وكان وقف معه سنين الشتاء في مسجد الجميمة، ونفقته عند أحب إخوانه إليه.
قلت: لعله أحبهم في هذه المحلة، أو بالنظر إلى غير من هو عنده مثله، أو على طريقة قوله ـ تعالى ـ: {وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ ءَايَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا } [الزخرف:48]؛ لئلا يعارض ما ذكر في غيره؛ وعلى الجملة، أوجه الحمل على الصحة /205(2/205)

17 / 151
ع
En
A+
A-