الإمام، محمد بن أبي القاسم، والسيد الإمام الهادي بن يحيى بن الحسين، والسيد الإمام داود بن يحيى بن الحسين، والسيد الإمام محمد بن علي بن وهاس، فعرفوا كماله، فأوجبوا عليه، وقام بالأمر لله قاصداً، ولأعدائه محارباً، وانتشر فضله، وعمّ نائله؛ وله كرامات مشهورة، وأوراد مسطورة، منها: أنه كان يقرئ في مسجد موسى بقطيع صنعاء، وحلقة قراءته نيف وعشرون، فجاء القاضي الشامي ويده عضباء قد يبست، فقال: يا مولانا، هذه يميني كما ترى.
فأمسكها الإمام (ع)، ونفث فيها، وتلا عليها، فامتدت أصابعه وكوعه، حتى بدت لحمة بيضاء في راحته، قد عَلَت على الأصابع؛ فكبر من حضر، واستعظم ما إليه نظر.
قلت: وقد أشرت إلى هذه الكرامة في التحف الفاطمية ، ولكن هنا زيادة تحقيق من المعاصر؛ وهذه الآيات، التي يمن الله ـ تعالى ـ بها لأوليائه، من أعلام الدين، ومؤيدات اليقين، والحمد لله رب العالمين.
قال: ومنها: ما روى لي إبراهيم الكينعي ـ رحمه الله تعالى ـ قال: مسح على مُقْعَد، أعرفه يسير على عود في يده؛ فشفي من حينه وساعته.
وفضائله مسطورة في سيرته؛ وكان أوراده المباركة، منها: إحياء الليل، وصيام أكثر الدهر، وحسن الخلق، وتحننه على المسلمين؛ وكان إذا عرف أن نفقته طحنت على مطحن الصدقة لم يأكل منه شيئاً.
قلت: واعتبر ذلك في عباد عصره، وعصر ولده الناصر، وأبدال دهرهما، وكذا أعصار الأئمة الهادين، وأعلام الأمة السابقين ـ صلوات الله عليهم أجمعين ـ، فأئمة أهل كل عصر، وقادة أهل كل دهر، قدوة المهتدين بهديهم، وأسوة المقتدين بأثرهم، إلى ما رغبوا فيه، ومالوا إليه؛ وفي أمثال /196(2/196)
العامة: (دين الرعية على دين الملك).
قال: قال لي ـ أي الإمام الولي المهدي (ع) ـ: تقف معنا في ذمار، هذا الشهر الكريم رمضان، ولاتفطر إلا معي.
فقلت: سمعاً وطاعةً لأمير المؤمنين.
فكنت أصلي معه المغرب، فيحيي ما بين العشائين بالصلاة والبكاء، والخضوع والخشوع، ما يزعج السامع؛ فإذا كان بعد تمام العشاء، وتمام أوراده المباركة، استقبل إخوانه بوجه لم أر مثله، كأنه القمر ليلة البدر؛ نوره قد علا، ولحيته تملأ صدره، كأنها قطنة مخلوجة؛ فيحضر الطعام، فيمد يده للدعاء، وهو يرتعش كالسنبلة، فتارةً يدعو، وتارة يصيبه ثمول فيسكت ساعة، وتارة تقع دموعه على الأرض؛ فإذا قرب الطعام أدارني في إخوانه العلماء الفضلاء، وأقعدني على طرف سجادته، ومدّ يده إلى سكرجة فيها عشاؤه، أكثر الأحيان آتي على أخيره، ويقول: يا ولدي هذا من نفقتي، هي أطيب لك؛ ربما في طعام إخواننا شيء من الصدقة.
بنفسي من شفيق ورفيق، ما أشبه أخلاقه بأخلاق رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ في قوله ـ تبارك وتعالى ـ: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)} [القلم].
قال: ومن فضله (ع) أن تولى أمور نهيه وأمره، وحله وعقده، وحضور مقاماته، العلماءُ الأفاضل، والسادات الأماثل، والعباد المجتهدون، والزهاد المشمرون، والقضاة المبرزون.
وعدد أسماءهم، وأنا أذكرهم بلفظه، مع سلوك الطريقة السابقة في التصرف اليسير بالاختصار، والتقديم والتأخير، وهم: الهادي بن يحيى بن الحسين وزيره، ووصيه؛ والسيد الإمام داود بن يحيى بن الحسين وزيره، ووصيه. /197(2/197)
قلت: هما ابنا السيد الإمام يحيى بن الحسين اليحيوي، صاحب الياقوتة؛ وقد سبقوا (ع).
قال: والسيد الإمام، الحسين بن يحيى بن حمزة، كان أميراً له بصعدة؛ والسيد الإمام، قدوة أهل الإسلام، محمد بن أبي القاسم وزيره، كان معه في حرب ظفار فتوجع، وأذن له الإمام بالنقلة إلى حوث، فقال: أحب [أن] ألقى الله وأنا في طريق الجهاد، فتوفي ودفن بظفار، وقبره مشهور مزور؛ ثم ولده من بعده، السيد عماد الدين، يحيى بن محمد بن أبي القاسم؛ ثم السيد الإمام، شمس الملة والدين، أحمد بن الناصر، كان وزيره، والمتولي عن أمره في بلاد سنحان، وبكيل، والمغارب، والمشارق.
قال: ثم الفقيه شمس الدين، أحمد بن ساعد، كان أيضاً وزيره، وحاكمه بمدينة ذمار، وفيه من العلم والفضل، والورع والزهد، ما شهرته تغني عن ذكره؛ ثم الفقيه الإمام، أحمد بن عيسى الشجري، كان حاكماً متولياً؛ ثم القاضي العلامة، شمس الدين، أحمد بن محمد الشامي، كان وزيره، وتوليته بلاد مدحج؛ ثم الفقيه المجاهد، إسماعيل بن محمد، كان والياً للمغرب؛ ثم القاضي، آية الزمان، وبركة الأوان، الحسن بن سليمان، كان متولياً وجامعاً للأموال، وحاشداً للرجال، للجهاد في سبيل الله بين يدي الإمام المهدي (ع)؛ وقد قدمت في زهده وورعه فصلاً شافياً.
قلت: قال في الفصل الرابع: ويزور ـ أي إبراهيم ـ في كل عام شيخه في الدين، وقدوته في التقوى واليقين، إمام أهل السنة والكتاب، ولبابة أولي الألباب، زاهد اليمن والشام، والسيد الحصور القوام، المبرأ من مقارفة الآثام، ولي العترة الكرام، الباذل نفسه لهم من كافة الأنام، تاج أهل الإيمان؛ القاضي/198(2/198)
حسن بن سليمان، توجه الله بتاج كرامته، وأزلفه بجواره، وأعاد من بركاته.
...إلى قوله: نشأ على الزهد والورع، والخوف والفزع، ما لايمكن شرحه؛ وحاز العلم والعمل، ما كان يوجد في وقته مثله من أحد، في علم الفقه، والأخبار النبوية، والتفاسير ـ سيما في فقه الناصر (ع) ـ كان لباسه شملتين من خشن الصوف الأغبر، وكوفية صوف، وكان يحيي الليل قياماً، والنهار ذكراً وفكراً، ودرساً للعلوم؛ وعمر مائة سنة ونيفاً وثلاثين سنة؛ وكان له كرامات تروى، وفضائل تحكى.
...إلى قوله: وروى لي سيدي إبراهيم بن أحمد، قال: زاره الخضر (ع) أربع مرات، يكالمه ويحادثه، ويعلّمه أدعية مجابة.
ومنها: روى لي السيد الفاضل العالم، أحمد بن عبدالله بن محمد بن أمير المؤمنين يحيى بن حمزة، عن ابن عمه، آية زمانه، وبركة أوانه، علي بن عبدالله بن محمد بن أمير المؤمنين يحيى بن حمزة، عن إبراهيم الكينعي ـ رحمه الله تعالى ـ قال: مات أخ من إخوان حسن بن سليمان، وكان صالحاً عابداً، فجاءه وهو مسجى ميت، فقال: السلام عليك يا فلان، ففتح عينيه ساعة، ثم أطبقهما.
قال: ولما فتح الله على الإمام المهدي لدين الله علي بن محمد، بذمار وبلاد مدحج، قال لي يوماً: لابد لي من إعانة هذا الإمام، وولده صلاح (ع)، لا سلبهم الله ما خوّلهم، وحفظ عليهم ما أعطاهم؛ لكن ياولدي، ما جئت وأنا أحسنه إلا أني أكون أخزن لهم التبن؛ لأن السَّوَس يخونون فيه ويبيعونه.
قلت: صانك الله عن ذلك.
ثم ساق في فضائله وبركاته ما يطول ـ رضي الله عنهم ـ.
ولنعد إلى تمام الكلام.
قال: والفقيه الإمام، الحسن بن محمد النحوي، كان وزيره، وحاكمه في /199(2/199)
صنعاء اليمن؛ ثم الفقيه الفاضل الزاهد، سعيد بن الدعوس، كان والياً لبلاد عنس.
قلت: وقد تقدم قوله: كعبدالله بن الحسن الدواري، حاكمه بصعدة، ووزيره ووصيه؛ ولكن رتبت علماء الشيعة ـ رضي الله عنهم ـ على الحروف.
قال: هؤلاء فضلاء العصر، وأوتاد الدهر؛ وكانوا كحواري عيسى بن مريم (ع)، وكأصحاب محمد ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ ما ترك واحد منهم ممكناً فيما عرف أنه يحسنه.
(رجع) إلى أحوال الإمام المهدي لدين الله علي بن محمد (ع).
قال: ثم اختار الله له ما لديه، ونقله إلى واسع رحمته، بعد إبلائه في الله، وجهاده في سبيل الله، ما يقر الله به عينه، ويزلفه عنده ـ إن شاء الله تعالى ـ أصابه خلط فالج، أزال عنه التكليف.
[الإمام الناصر محمد بن علي (ع)]
وولده الإمام الناصر (ع)، القائم بالأمر والنهي، وسداد الثغور، مدة سنة كاملة؛ ثم إن الإمام الناصر جمع العلماء من صعدة، وبلاد مدحج، وقال: هذا الإمام قد سقط عنه تكليف الإمامة، وكنت أصدر وأورد عن أمير المؤمنين، الذي أجمع على إمامته علماء المسلمين؛ فالآن ألقيتُ حبلها على غاربها، فانظروا لأنفسكم، وهذه عُهَدُ المسلمين وآلات الجهاد بأيديكم.
فحاروا في الأمر، وساروا إلى ظفار بأجمعهم، واتفق علماء الأمصار، إلى ألف وثلاثمائة من العلماء، وأهل البصائر المنورة؛ فنظروا لأنفسهم ولمذهبهم ولدينهم، فأجمع رأيهم على تقليده الإمامة، وتحميله الزعامة؛ فما ساعدهم.
قالوا: الواجب عليك القيام، وإن تركت فأنت مخلّ بواجب.
وراجعوه، فوجدوه كاملاً في العلوم؛ فبايعه العلماء، ومن حضر ذلك الجمع المبارك، منهم السيد الإمام /200(2/200)