فيه ما نسخته بخطه:
حسبي ربي، نقل من التصفية للديلمي عن بلال أنه قال: أَذَّنْتُ أيام رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ لصلاة العتمة، وانتظرت خروج رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ فلم يخرج من الدار، فدخلت إليه فوجدته ساجداً، ويسيل من دمعه نهر، فقلت: يارسول الله، الصلاة؛ فرفع رأسه من السجود، فقلت: بأبي وأمي أنت يا رسول الله، أشرّ أصابك؟
فقال: ((نزل جبريل، وقال لي: يامحمد، إن صلاتك، وصومك، وحجك حسن؛ ولكن انظر بعين العبرة إلى القدرة إلى السماء مع طوله وعرضه، وغلظه وتأليفه، وهو معلق بلا علاق ولا عمد، فانظر بعين العبرة إلى قدرتي؛ فتفكر ساعة أحبّ إليّ من عبادة ألف سنة)).
قلت: وقد روي بنحو هذا في تفسير قوله عز وجل: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190)} [آل عمران]، وذكره في الكشاف.
قال: وفتح يوماً كتاب التصفية للديلمي ـ رحمه الله ـ وقد علمه بخيط من صوف، قال فيها: (فائدة شافية كافية) التفكر على خمسة أوجه:
الأول: في صنع الله، وعظمته، وقدرته؛ فمنه تتولد المعرفة.
الثاني: في نعمائه، وإحسانه؛ فمنه تتولد المحبة.
الثالث: في وعده ووعيده، وشدة انتقامه؛ فمنه يتولد الخوف، والزهد، والورع، وترك الاشتغال.
الرابع: في ألطافه، وحسن صفاته، وإرادته لصلاحك، وإرشادك؛ فمنه يتولد الرجاء، والرغبة، والمواظبة على ما يقرب إليه. /186(2/186)


الخامس: التفكر في سوء نفسه، وهتك حرمات ربه، وقبح معاملته إياه؛ فمنه يتولد الحياء، وذلة النفس.
فقال: اكتب في الحاشية: يالها من كلمة شافية موقظة.
وسرتُ معه إلى خبان مدحج لزيارة الإخوان ثمة، فانتهينا إلى فوق هجرة الأخشبي ببني قيس تحت عِرفةٍ شاهقة، فاستقام مبهوتاً، فبهتنا حذراً عليه من التردي في ذلك الشاهق، فوثبت عليه أنا وأخ لنا أمسكناه، فقال: تقولون مم خلق الله هذه الجبال، والصخرات الصم؟
ثم ارتعش ملياً وغشي عليه، ثم أفاق، وقال: سبحان من خلق هذه الجبال، من عدم على غير مثال.
ثم قال: قُتل الإنسان ما أكفره من أي شيء خلقه.
ثم قال: الذي خلقها سوداء وغبراء يجعلها جوهراً شفافاً، كما روي أن حصباء الجنة من درّ وياقوت؛ فسبحان من أحاط بكل شيء علماً، وأحصى كل شيء عدداً، ولم يعجل على من عصى، وستر على من غفل وجهل بالمولى.
...إلى قوله: ثم قال: والحوت الذي أقسم الله به: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1)} [القلم]، لو أدرجت السماوات السبع، والأرضون السبع، في أحد منخريه ما تبرم بهنّ.
...إلى قوله: الذي خلق هذه الجبال من عدم، قادر أن يجعل فيها روحاً.
ثم قال: إن هذا الجبل من مكة إلى عدن يسمى في العراق جزيرة اليمن؛ لأن البحر من جميع جوانب هذه الجزيرة، من عدن إلى مكة، إلى الشحر إلى تهامة؛ ويحكى أن بحر عدن، وبحر هرموز ـ كذا في الأصل ـ كالكمين للقميص، وبحر الهند كالقميص، والله أعلم.
ثم قال: قيل: إن الأرضين السبع بجنب سماء الدنيا كحبة خردل، ثم السماء الدنيا تحت الثانية كريشة في فلاة، /187(2/187)


والأرضون السبع، والسماوات السبع، بجنب العرش العظيم، كخاتم في أرض فلاة.
قال: وذكر الثعلبي في قوله تعالى: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17)} [الحاقة:17]، قال: على صورة الوعول، ما بين ظلفه إلى ركبته خفقان الطير المسرع ثمانين ألف عام.
فما قمنا من ذلك المقام إلا وقد تقطعت أوصاله من تململ أعضائه، وما سرنا إلا ورجلان يمسكان بيده.
وقال يوماً في معنى قوله تعالى: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21)} [الذاريات]: يا ابن آدم، سافرت المشارق والمغارب لتعرفنا، فلو سافرت في نفسك لوجدتنا في أول قدم، درت البلاد تطلبنا، ونحن أقرب إليك من حبل الوريد، ونحن معكم أين ما كنتم.
...إلى قوله: وأفكاره ـ رحمه الله ـ عجيبة، ونتائجه غريبة، وعلومه باهرة، وحكمه ظاهرة.
قال ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((من أخلص لله أربعين صباحاً ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه))، فكيف من أخلص لله عمره، وهو خمسون أو ستون سنة؟!‍!
قال: قال له بعض إخوانه: أما أنا، فإن الصوم يشق بي.
فقال ـ رحمه الله ـ: وأنا الإفطار يشقّ بي، سبحان الله، الذي أنت تأكله بالنهار تأكله في الليل، وتنال درجة الصائم الذي ليس له جزاء إلا الجنة، كما في الخبر.
وإن لربي صفوة من عبيده .... قلوبهم في روض حكمته تجري
...الأبيات.
إلى قوله: وجدتُ بخط يده المباركة ما نسخته: حسبي ربي /188(2/188)


قال شقيق بن إبراهيم البلخي ـ رحمه الله تعالى ـ: حصن العمل ثلاثة أشياء:
الأول: أن يرى العبد أن القوة على العمل من لطف الله وتوفيقه؛ ليكسر به العجب.
الثاني: أن يبتدي العمل بالإخلاص؛ ليكسر به هوى النفس والشيطان.
الثالث: أن يبتغي ثواب العمل من الله؛ ليكسر به الطمع من الناس.
ولا يحكم ذلك إلا بشيئين:
أحدهما: أن يعرف قطعاً أن أهل السماوات والأرض، لو أرادوا أن يزيدوا في رزقه حبة خردل، أو ينقصوا، أو يقدموه قبل وقته، أو يؤخروه، لم يقدروا على ذلك أبداً.
الثاني: لو اجتمعوا على أن ينزلوا به مكروهاً لم يرده الله به ـ قلت: أي لم يمكنهم الله تعالى منه، فالمعنى لم يرد تمكينهم منه، بل دفعهم، قال:ـ لم يقدروا على ذلك؛ أو يدفعوا منه مكروهاً أراده الله ـ تعالى ـ به لم يقدروا على ذلك.
قال: ووجدت بخطه: قال الوافد للعالم من أهل البيت (ع).
قلت: المشهور أن الوافد قاموس آل محمد، محمد بن القاسم؛ والعالم والده نجم آل الرسول القاسم بن إبراهيم ـ صلوات الله عليهم ـ وهو كتاب من جوامع العلم، وسواطع الحكم، كله سؤال من الوافد، وجواب من العالم، /189(2/189)


وقصدهما ـ صلوات الله عليهما ـ إلقاء الحكمة؛ فهو من باب قوله:
نحن أدرى ـ وقد سألنا ـ بنجدٍ .... أقصير طريقه أم طويلُ؟
وكثير من السؤال اشتياق .... وكثير من رده تعليلُ
وقوله:
في كل يوم أستفيد تجارباً .... كم عالم بالشيء وهو يسائلُ
(رجع): صف لي الإخلاص.
قال العالم: الإخلاص مثل نور الشمس، أدنى غيم أو غبار يكدر من ضوئها قدر ذلك الغبار؛ إن كان رياءً محضاً أظلمت، وإن كان مشوباً بغرض دنيوي، أو تعجيل منفعة، كان ذلك على قدر ذلك؛ فافهم، فمن كان لله أخوف فهو به أعرف.
ومن هاهنا أفرغ القلم؛ فهذا ما انتهى إلي من جواهر حكمته في هذا الفصل؛ أسأل الله بذاته العظمى، وأسمائه الحسنى، أن ينفعنا بما علمنا وعرفنا، ولاجعله حجة علينا.
في بعض كتب الحكمة: إذا كان يوم القيامة، قامت كلمة الحكمة بين يدي الله ـ تعالى ـ وتقول: يارب، أنصفني من هذا، وقف عليّ، ولم يعمل بي.
اللهم احملنا على عفوك، ولاتحملنا على عدلك.
قلت: وأنا أقول حامداً لله ـ تعالى ـ على جلاله، ومصلياً ومسلماً على محمد وآله، متوسلاً إليه ـ تعالى ـ بما توسل، سائلاً له ـ جل وعلا ـ ما سأل.
أرباه أرجوكَ فيما رجا .... إلهي فحقق رجا سائليك
[من مكارم أخلاقه]
قال في الفصل السادس، في مكارم أخلاقه، وتحمله لمشاق إخوانه: ومنها: أنه جدد العزم والنية، وارتحل إلى مكة والحجاز، في تحمل مشقة السفر العظيم، في سبب دَيْن علق في ذمة بعض خواص إخوانه، فشمر لله - تعالى - /190(2/190)

14 / 151
ع
En
A+
A-