الأنام، بوجه أبيض قد غشاه نور الإيمان، وسيماء الصالحين قد أحاط به من كل مكان.
...إلى قوله: إذا خرج نهاراً ازدحم الناس على تقبيل يده، والتشبث بأهدابه، والتبرك برؤية وجهه، وهو يكره ذلك، وينفر عنه؛ يغضب إذا مُدح، ويقول: يا فلان، دعْ هذا لمن يفرح به؛ ويُسَرّ إذا نُصح؛ من رآه بديهة هابه، وانفتح له قلبه محبة، ويقول الرائي: من هذا الذي ملأ قلوبنا نوراً، ووجوهنا حبوراً؟
فيقال: هذا إبراهيم الكينعي.
فيقول الرائي: سبحان من يصطفي ويعطي.
من قَبّل يده المباركة، وجد لها حلاوة وعليها طلاوة، ويود تقبيلها على الدوام؛ ما وضع يده على قلب قاس إلا رق وانشرح، ولا على أليم إلا سُرِّي عنه ولعينيه فتح؛ إذا تلا الكتاب العزيز، سمعت في جوفه الأزيز، إذا رآه العلماء تواضعوا لرؤيته، وعكفوا على اقتطاف ثمرات حكمته، وإذا رآه أبناء الدنيا عافوها.
...إلى قوله: وإذا رآه أهل المعاصي والفسوق أعجمهم القلق، ورشحت أجسادهم بالعرق، وارتعدت أوصالهم بالفرق، واستحيوا من الله عند رؤيته، وأضمروا التوبة؛ وسأذكر من تاب على يديه في موضعه ـ إن شاء الله تعالى ـ.
...إلى قوله في الفصل الرابع في رياضاته: لما عرف بعين التحقيق، وفكرة التوفيق، عدوّه الملازم، وهي النفس الأمارة، ثاغرها جهاراً، وسلّ عليها سيف العزم ليلاً ونهاراً، وإعلاناً وإسراراً، ومنعها فضلات الطعام، والشرب والمنام، وقلل مخالطة الأنام، مدة من الزمان؛ حتى خرجت من النفوس الأمارة بالسوء، إلى النفوس اللوامة.
...إلى قوله: كنت أسمعه يحاسبها، فأظن معه رجالاً يخاصمونه، حتى أشرف عليه، وليس معه أحد مدة من الزمان؛ حتى خرجت من النفوس اللوامة إلى النفوس المطمئنة، فتروحت واطمأنت، وانشرحت مدة من الزمان، فتعلقت بالمولى، ومحبته وخدمته، حتى رضيت وقنعت.
قال لي يوماً: لو أعطيت /181(2/181)


الدنيا بجوانبها، ومفاتيح الجنة كلها، لما اخترت إلا وقوفي بين يدي الله ساعة أناجيه.
ولاتخرج النفس الأمارة إلى النفس اللوامة إلى النفس المطمئنة إلا بعد الرياضة التامة، والمثاغرة القوية، والمحاسبة العظيمة، والحرب خدعة، وهي التي قال الله تعالى: {يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ(27)ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً(28)فَادْخُلِي فِي عِبَادِي(29)وَادْخُلِي جَنَّتِي(30)} [الفجر].
أما رياضته في المطعم: فاعتمد على الصيام الأبد إلا في العيدين، وأيام التشريق.
...إلى قوله: شاهدته يوماً يقع من قامته من غلبة النوم، فجاهدها بقلّة الإدام مدة.
...إلى قوله: حتى انقادت له بأنها لاتناول الطعام إلا في السحر، فاعتدل على ذلك، وديدن عليه واستقام، وانشرح حتى الموت.
سمعته يقول: كم من ليلة أسابق الفجر على عشائي، فتارة أسبقه وتارة يسبقني.
...إلى قوله: وقف على هذه الصفة من الصيام والقيام، زهاء ثلاثين سنة، حتى بلغ من الضعف غاياته، ومن السقم نهاياته، حتى رق جلده، ويرى بياض في غالب عظمه من رقة جلده.
...إلى قوله: ومع هذا كان صليباً في الصلاة، وقوياً على القيام، والصيام، والسير إذا أحب، المرحلة أو المرحلتين أو الثلاث، ما أفتره فيما أحب هذا الضعف عن صيام ولا قيام؛ صدق ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ حيث يقول: ((صوموا تصحّ أجسامكم من الآلام، وقلوبكم من الأسقام))، ما علمت أنه مرض في المدة هذه إلا يسيراً عارضاً، إلا مرة ضعف ضعفاً عظيماً، حتى يظنه الرائي خرقة ملقاة، وقعد ثلاثة أيام ملقى على قفاه، فقال له أخوه سعيد بن منصور الحجي ـ رحمه الله تعالى ـ: إبراهيم، اذكر ربك؛ فقام منزعجاً بأعلى صوته: ياسعيد، لم أنسه فأذكره، ياسعيد، لم أنسه فأذكره؛ ثلاثاً أو أربعاً، ثم استلقى وبكى.
...إلى قوله في وصفه إذلال نفسه: كان لايعد نفسه إلا من أعظم /182(2/182)


الأعداء.
...إلى قوله: ولا افتخر بشيء مما على الدنيا؛ زاره الإمام الناصر أمير المؤمنين محمد بن علي بن محمد بمدينة ذمار، وكان ـ رحمه الله ـ في دهليز لبعض إخوانه، فسلّم عليه، وقبل يده في الظلام.
وقال للإمام: إن علم الله مني محبة لوصولك إليّ لم يكن لي جزاء إلا النار.
وزاره رجل فاضل، فقال: أتينا من أرض بعيدة لزيارتك، فقال: أمثلي يزار؟ أمثلي يؤتى؟ وبكى حتى أبكى، وغشي عليه طويلاً؛ فسقط ما في يد ذلك الرجل، وظن أن قد فارق الحياة، وتلك غشية تصيبه الفينة بعد الفينة.
...إلى قوله: وكان إذا خالط الإخوان فقلبه مع الله، وجسده بينهم؛ وإن سكت فلسانه يتقلب بذكر الله، تارة يقول: يا الله يا الله، وتارة يقول: الله الله؛ وإن تكلّم بكلمة شخص بعدها ببصره إلى السماء للمراقبة.
...إلى قوله: كانت نيته في كل صباح محدودة، أن كل قول، وعمل، وترك، ومخالطة، وعزلة، وفكر، وذكر، وإيناس مسلم، وتذكير غافل، وإيثار، وابتداء سلام لكل وجه حسن، يقرب إلى الله للوجه الذي يريده على الوجه الذي يريده؛ وكان يحث إخوانه على هذه النية؛ ومن كان له مال أمره بالزيادة على هذه، أن كل ما خرج من يده لايرجع إليه، ولاعوضه، من صغير وكبير، ومثقال ذرة من حق وجب يعلمه الله عليه إن كان، وإلا فقربة وصدقة، وعلى كل وجه حسن يريده؛ وكان يحب الوقوف في المساجد إذا كان معه من يدافع عنه الناس؛ لأنه لا يُكَلَّم في المسجد، ولا يَتَكَلَّم فيه؛ وإذا وصله غريب أخذ بيده وخرجا عن المسجد، وكالمه وفاكهه، وقضى حاجته؛ وكانت أخلاقه كأخلاق الأنبياء (ع).
...إلى قوله: الفصل الخامس في أوراده، وعباداته، وأفكاره، وإخلاصها تعظيماً /183(2/183)


لجلال الله، وكبريائه، لما عرف الله حق معرفته، وراضَ نفسه رياضة جذبته إلى خدمته، وخافه مخافة لو قسمت على أهل دهره لكفتهم، وشكره شكر ملائكته وأنبيائه الذين عصمهم، ورجاه رجاء أهل المحبة الذين قربهم، وبكأس مودته أرواهم، وبرضاهم عنه أرضاهم، وبتبجيله حباهم، وبمناجاته أصفاهم؛ فوظف ـ رحمه الله ـ أيامه ولياليه، وجميع ساعاته، أوراد الصالحين من الذكر، والفكر، والصلوات والتلاوات، بحيث لو فاته شيء قضاه ولو شقّ، مع أن اشتغاله عن ذلك ليس إلا في خير.
...إلى قوله: وما كان مأثوراً في الوضوء وبعده، ومن الصلوات، فهو يفعله ويلاحظ عليه، ويسأل عنه علماء الحديث، ويباحثهم عن سندهم.
ثم بسط القول في أنواع عبادته، سفراً وحضراً، بما يتعسر، ولايكاد يتيسر، إلا لمن يسره الله تعالى عليه فهو يسير، والله على كل شيءٍ قدير.
قال: وكنا نسمع ونروي في كتب العبادات عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) أن أوراده الصالحة في اليوم والليلة ألف ركعة غير الأذكار وإملاء الحكمة؛ وكذا عن زين العابدين علي بن الحسين، كان له خمسمائة، نخلة يصلي عند كل نخلة ركعتين كل يوم، غير التلاوة والأوراد، ونشر العلوم؛ وكذا عن عبدالله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب صلى الفجر بوضوء العشاء ستين سنة، فإذا كان آخر الليل، قال: إلهي لم أعبدك حق عبادتك.
قلت: وكذا ابن أخيه علي بن الحسن، والد الإمام الحسين صاحب فخ؛ ما كانوا يعرفون الأوقات في السجن إلا بأوراده.
وإمام الأئمة الهادي إلى الحق، كان يقطع الليل ركوعاً وسجوداً ونشيجاً، حتى يسمع وقع دموعه يتقاطر على /184(2/184)


الحصير من خلف مكانه.
والإمام الحجة المنصور بالله عبدالله بن حمزة، صام، وقام، خمس عشرة سنة متصلة.
وغيرهم من أئمة الهدى؛ مع ما هم فيه من الجهاد والاجتهاد، والاهتمام بهداية العباد ـ صلوات الله عليهم وسلامه ـ ولو فتحنا الكلام في هذا الباب، لأدخلنا إلى ماليس في حساب.
قال: فإن قلتَ: أنى يتهيأ هذا العمل الكثير في هذا الوقت اليسير لهذا الرجل، ولهؤلاء السادة؟
قلت: إن ذلك يسير على من يَسَّره الله عليه؛ لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَءَاتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ (17)} [محمد]، ولقوله تعالى: {وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ } [البقرة:261]، ((والخير عادة)) ـ قاله صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ.
وروي: أن رجلاً صالحاً من أهل صنعاء في زمان الهادي إلى الحق (ع) رأى النبي الخضر في جامع صنعاء، فقال له: أنت النبي الخضر؟
قال له: نعم.
قال: ادع الله لي.
فقال له: يسر الله عليك طاعته.
فقال له: زدني.
فقال: ما أجد زيادة.
[في تفكر الكينعي]
...إلى قوله: ومن أوراده الصالحة التفكر في آلاء الله، ومخلوقاته، وفي زوال الدنيا، وأحوال الآخرة؛ كان له ورد بالتفكر بالنهار، وورد بالليل؛ دخلتُ عليه يوماً وهو مغشي عليه، فرفعت رأسه إلى حجري، وفاتحته الكلام، فانتعش وقال: هاك هذا القرطاس اقرأه؛ فأخذته من يده المباركة، وقبلتها، فإذا /185(2/185)

13 / 151
ع
En
A+
A-