من أمتي ما قالت النصارى في ابن مريم، لقلت فيك اليوم مقالاً، لا تمر بملأ من المسلمين إلا أخذوا التراب من تحت قدميك؛ للبركة)).
وله طرق كثيرة.
وما يفهمه الخبر من منع قول الطوائف، الذي ترك القول لخوف وقوعه، كما في قوله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((لولا أن أشق على أمتي... الخبر)) لما تفيده: لولا، على ما هو مقرر في العربية؛ فالمراد إمتناع صدور قولهم، مسنداً أو مستمداً للشبهة من قوله الذي تركه، واكتفى ببيان منزلته منه ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ، أو امتناع قول طوائف أخر، غير هؤلاء، لو قال ذلك القول لغلوا كما غلوا، لا الامتناع على الإطلاق؛ كيف وقد أخبر بكون ذلك في صدر الخبر الأول، وفي أخبار متسعة النطاق.
وفي الخبر هذا دلالة بينة على تقرير شرعية أخذ التراب وفضل الطهور للتبرك، ولم يمنع منه القول لذلك، وهو مما يرد على من منعه، وادعى كونه شركاً،’ بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير.
هذا، وممن أخرج الخبر الشريف في تشبيه الوصي بعيسى بن مريم (ع) بلفظ: ((إن فيك شبهاً من عيسى بن مريم))، أبو علي الحسن بن علي الصفار في الأربعين، وابن المغازلي في المناقب، وأحمد، والحاكم وصححه، وابن أبي عاصم، وابن شاهين، وابن جرير، والعقيلي، والدورقي، وابن الجوزي، كلهم عن علي (ع)، والنسائي بلفظ: ((إن فيك مثلاً من عيسى))، والبزار، وأبو يعلى، والحاكم أبو القاسم من طرق عن علي (ع)، ورواه أيضاً عن أبي رافع.
وفي الأرواح للمقبلي: أخرج الحاكم وصححه، والبخاري في تاريخه، عن علي ـ رضي الله عنه ـ قال: قال لي النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((إن بك يا علي من عيسى مثلاً))، والسيوطي في الجامع الكبير بلفظ: ((يا علي إن فيك من /636(2/636)
عيسى مثلاً)).
قال الإمام محمد بن عبدالله الوزير (ع): وقد جاء في الحديث مرفوعاً وموقوفاً: ((يهِلك فيك ـ أو يهِلك في ـ اثنان: محب غال، ومبغض قال)) انتهى؛ وهو كما قال.
وأخرج الإمام الرضا علي بن موسى، بسند آبائه، عن علي (ع): من أحبني وجدني عند مماته بحيث ما يحب، ومن أبغضني وجدني عند مماته بحيث يكره.
قال ابن أبي الحديد في شرح قول الوصي (ع): فإنكم لو قد عاينتم ما قد عاين من مات لجزعتم...إلخ، ما لفظه: ويمكن أن يعني به ما كان (ع) يقوله عن نفسه: إنه لا يموت ميت حتى يشاهده (ع) حاضراً عنده.
ثم روى قول أمير المؤمنين، مخاطباً للحارث الهمداني:
أحار همدان من يمت يرني .... من مؤمن أو منافق قِبَلا
يعرّفني طرفه وأعرفه .... بعينه واسمه وما فعلا
أقول للنار وهي توقد للـ .... ـعرض ذَرِيهِ لا تقربي الرجلا
ذَرِيهِ لا تقربيه إنّ له .... حبلاً بحبل الوصي متصلا
...إلى قول الشارح: ففي الكتاب العزيز ما يدل على أن أهل الكتاب لا يموت منهم ميت حتى يصدّق بعيسى بن مريم (ع)، وذلك قول الله - تعالى -: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (159)} [النساء].
قلت: الشاهد في أول الآية: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ }، [النساء:159]، انتهى. /637(2/637)
وهذا تحقيق لكمال المشابهة بينهما ـ عليهما الصلاة والسلام ـ.
وقد ثبت في الكتاب المبين، وسنة الرسول الأمين، تنزيل أمير المؤمنين، وسيد الوصيين، منزلة نفس سيد المرسلين ـ عليهم صلوات رب العالمين ـ كما في آية المباهلة: {وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ } [آل عمران:61]، وفي أخبار لا يتأتى لها انحصار، بلفظ: ((كنفسي)) و((عديل نفسي)) و((علي نظيري)) و((كرأسي من جسدي)) و((علي مني بمنزلتي من ربي))، وهي وما في معناها من الأحاديث الجمّة، معلومة بروايات أئمة العترة، وسائر علماء الأمة.
وقد سبق من أخبار الولاية، والمنزلة، والمحبة، وتبليغ براءة، وغير ذلك، مما أجمعت عليه طوائف الأمة في الرواية، ما فيه كفاية لذوي الهداية.
[تشبيه علي(ع) بجماعة من الأنبياء(ع)]
ومما ورد في هذا المعنى بخصوصه، على لسان سيد المرسلين، تشبيه أخيه سيد الوصيين، بجماعة من النبيين ـ صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين - كقوله - صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((من أراد أن ينظر إلى آدم في علمه، وإلى نوح في فهمه، وإلى إبراهيم في حلمه، وإلى يحيى بن زكريا في زهده، وإلى موسى في بطشه، فلينظر إلى علي بن أبي طالب))، أخرجه أبو الخير الحاكمي، عن أبي الحمراء مولى النبي.
وأخرجه أحمد بن حنبل في المسند، وأحمد البيهقي في صحيحه بلفظ: ((وإلى عيسى في زهده)) ـ مكان ((يحيى)) ـ ((وإلى موسى في فطنته)).
وأورده ابن أبي الحديد في شرح النهج، في الأخبار التي ساقها من طرق المحدثين.
وأخرج الأول المحب الطبري الشافعي. /638(2/638)
قال في ذخائر العقبى ما لفظه: (ذكر تشبيه علي (ع) بخمسة من الأنبياء) عن أبي الحمراء قال: قال رسول الله - صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم -: ((من أراد أن ينظر إلى آدم في علمه...الخبر)).
قال: وعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ، قال: قال رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((من أراد أن ينظر إلى إبراهيم في حلمه، وإلى نوح في حكمه، وإلى يوسف في جماله، فلينظر إلى علي بن أبي طالب))، أخرجه الملا في سيرته، انتهى.
وأفاد في تخريج الشافي: أنه رواه في الشواهد، بسنده إلى ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ عنه ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ.
قال ـ أيده الله تعالى ـ: ورواه ـ أي الخبر الأول ـ الحاكم الحسكاني، بإسناده إلى أبي الحمراء، من شواهد التنزيل.
وروى ابن المغازلي، عن أنس، عنه ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((من أراد أن ينظر إلى علم آدم، وفقه نوح، فلينظر إلى علي بن أبي طالب)).
وقال النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ، وهو في جمع من أصحابه: ((أريكم آدم في علمه، ونوحاً في فهمه، وإبراهيم في حكمته؟)).
فقال أبو بكر: يا رسول الله، أقست رجلاً بثلاثة من الرسل، من هو؟
فقال النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((ألا تعرفه يا أبا بكر؟)).
قال: الله ورسوله أعلم.
قال: ((أبو الحسن، علي بن أبي طالب)).
رواه الخوارزمي، عن الحارث الأعور، عن علي.
وعنه ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((من أراد أن ينظر إلى آدم في وقاره، وإلى موسى في شدة بطشه، وإلى عيسى في زهده، فلينظر إلى هذا المقبل))، فأقبل علي بن أبي طالب، رواه الخوارزمي، بإسناده إلى أبي الحمراء مولى النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ.
[انتهى] من التفريج.
وعنه ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((من أراد أن ينظر إلى آدم في علمه، /639(2/639)
وإلى نوح في حكمه، وإلى إبراهيم في حكمته، فلينظر إلى علي بن أبي طالب))، أخرجه الكنجي عن ابن عباس؛ ورواه الحاكم أبو القاسم عن أبي الحمراء بلفظ: ((ونوح في فهمه)).
وقال النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((من أراد أن ينظر إلى موسى في شدة بطشه، وإلى نوح في حلمه، فلينظر إلى علي بن أبي طالب))، أخرجه الإمام المرشد بالله، بسنده إلى الحسين السبط، عن أبيه علي (ع) في أماليه.
قال السيد محمد بن إسماعيل الأمير في شرح قوله في التحفة:
وبعيسى صحّ فيه مثل .... فسعيداً عدّ منهم وشقيا
بعد أن ساق الأخبار في ذلك: إذا عرفت هذا، فهذه شرائف الصفات: العلم، والحلم، والفهم، والزهادة، والبطش، والحسن؛ ثم إنه حاز أكمل كل واحدة، فإن علم الرسل أكمل العلم، وحلمهم أكمل الحلم، وفهمهم أتم فهم، وزهادتهم أبلغ زهادة، وبطشهم أقوى بطش؛ فناهيك برجل كمله الله بهذه الصفات، وأخبر نبيه أنه حازها، وشابه أكمل من اتصف بها، وأن من أراد أن ينظر من كان متصفاً بها من أولئك الرسل ويشاهده كأنه حي، نظر إلى هذا المتصف بها؛ ولذلك قيل:
يدل بمعنىً واحد كلُّ فاخر .... وقد جمع الرحمن فيك المعاليا
...إلخ كلامه.
وقد أورد في هذا الباب، وغيره من ذلك الكتاب، مباحث حسنة.
هذا، ومما جاء في ذلك المعنى: قوله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((تفترق أمتي فيك، كما افترقت بنو إسرائيل في موسى))، أخرجه ابن عبد البر في /640(2/640)