الإمام، وارث الحكمة، وشيخ الأئمة، أبي العباس الحسني (ع)، انتقلتُ إلى روايته لاستكمالها؛ لأن الشريف الرضي ـ رضي الله عنه ـ إنما يأخذ المختار؛ وفيها من ذكر الحجج الإلهية، والآيات الربانية، والمعجزات النبوية، والكرامات العلوية، مايبهر الأبصار؛ وربك يخلق ما يشاء ويختار،وعند الوصول إلى مافي المصابيح أذكر تحويل الرواية، وسند أبي العباس فيها، وقد وافق ذلك أيضاً؛ لأنه لم يذكر ـ فيما سبقـ نقل شيء من المصابيح على العادة، عند انتهاء السند في أمثاله.
قال إمام الأبرار، وقسيم الجنة والنار، أبو الأئمة الأطايب، علي بن أبي طالب، ـ صلوات الله عليه ـ: الحمد لله، الذي لبس العزّ والكبرياء، واختارهما لنفسه دون خلقه، وجعلهما حماً وحرماً على غيره.
قلت: وفي (لبس) إلخ استعارة مصرحة تبعية، شبّه اتصاف ذي الجلال بالوصفين، بلبس الردائين، أو مكنية، ويكون التشبية في الوصفين بالردائين، واللبس تخييل.
قال: واصطفاهما لجلاله، وجعل اللعنة على من نازعه فيهما من عباده؛ ثم اختبر بذلك ملائكته المقربين؛ ليميز المتواضعين منهم من المستكبرين، فقال سبحانه، وهو العالم بمضمرات القلوب، ومحجوبات الغيوب: {إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ(71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ(72) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ(73) إِلَّا إِبْلِيسَ }[ص]، اعترضته الحمية، فافتخر على آدم بخلقه، وتعصب عليه لأصله؛ فعدوّ الله إمام المتعصبين، وسلف المستكبرين، الذي وضع أساس العصبية، ونازع الله رداء الجبرية، وادَّرَع لباس التعزز، وخلع قناع التذلل.
ألا ترون كيف صغّره الله بتكبره، ووضعه الله بترفعه، فجعله في الدنيا مدحوراً، وأعد له في الآخرة سعيراً؟‍!.
ولو أراد الله أن يخلق آدم من نور، يخطف الأبصار ضياؤه، ويبهر العقول رواؤه، وطِيْب يأخذ /460(1/460)


الأنفاس عرفه، لفعل، ولو فعل لظلت له الأعناق خاضعة، ولخفت البلوى فيه على الملائكة.
إلى أن قال: فاعتبروا بما كان من فعل الله بإبليس؛ إذ أحبط عمله الطويل، وجهده الجهيد، وقد كان عبد الله ستة آلاف سنة، لايدرى أمن سني الدنيا أم من سني الآخرة، عن كِبْر ساعة واحدة.
إلى أن قال: إن حكمه في أهل السماء والأرض لواحد، وما بين الله وبين أحد من خلقه هوادة، في إباحة حما حرّمه على العالمين.
إلى أن قال: فإن الله سبحانه يختبر عباده المستكبرين في أنفسهم، بأوليائه المستضعفين في أعينهم، ولقد دخل موسى بن عمران، ومعه أخوه هارون ـ صلى الله عليهما ـ على فرعون، وعليهما مدارع الصوف، وبأيديهما العصي، فشرطا له إن أسلم بقاء ملكه، ودوام عزه؛ فقال: ألا تعجبون من هذين؟‍‍‍‍‍‍‍‍! يشرطان لي دوام العزّ، وبقاء الملك، وهما بما ترون من حال الفقر والذل، فهلا ألقي عليهما أساورة من ذهب.
إعظاماً للذهب وجمعه، واحتقاراً للصوف ولبسه.
ولو أراد الله ـ سبحانه ـ لأنبيائه حيث بعثهم أن يفتح لهم كنوز الذهبان، ومعادن العقيان ومغارس الجنان، وأن يحشر معهم طيور السماء، ووحوش الأرضين، لفعل؛ ولو فعل لسقط البلاء، وبطل الجزاء، واضمحلّت الأنباء، ولما وجب للقابلين أجور المبتلين، ولا استحق المؤمنون ثواب المحسنين، ولا لزمت الأسماء معانيها؛ ولكن الله سبحانه جعل رسله أولي قوة في عزائمهم، وضعفة فيما ترى الأعين من حالاتهم، مع قناعة تملأ القلوب والعيون غنى، وخصاصة تملأ الأبصار والأسماع أذى؛ ولو كانت الأنبياء أولي قوة لاترام، وعزة لاتضام، وملك تمتد نحوه أعناق الرجال، وتشد إليه عقد الرحال، لكان ذلك أهون على الخلق في الاعتبار، وأبعد لهم من الاستكبار، ولآمنوا عن رهبة قاهرة لهم، أو رغبة مائلة بهم، فكانت النيات مشتركة، والحسنات مقتسمة؛ ولكن الله سبحانه أراد أن يكون الاتباع لرسله، /461(1/461)


والتصديق لكتبه، والخشوع لوجهه، والاستكانة لأمره، والاستسلام لطاعته، أموراً له خاصة لا تشوبها شائبة؛ وكلما كانت البلوى والاختبار أعظم، كانت المثوبة والجزاء أجزل.
ألا ترون أن الله ـ سبحانه ـ اختبر الأولين، من لدن آدم ـ صلوات الله عليه ـ إلى الآخرين من هذا العالم، بأحجار لا تضر ولا تنفع، ولا تبصر ولا تسمع، فجعلها بيته الحرام، الذي جعله الله للناس قياماً؛ ثم وضعه بأوعر بقاع الأرض حجراً، وأقل نتائق الدنيا مدراً، وأضيق بطون الأودية قطراً، بين جبال خشنة، ورمال دمثة، وعيون وشلة، وقرى منقطعة، لايزكو بها خفّ، ولا حافر ولاظلف؟!
ثم أمر آدم (ع) وولده أن يثنوا أعطافهم نحوه، فصار مثابة لمنتجع أسفارهم، وغاية لمُلْقَى رحالهم، تهوي إليه ثمار الأفئدة، من مفاوز قفار سحيقة، ومهاوي فجاج عميقة، وجزائر بحار منقطعة، حتى يهزوا مناكبهم ذللاً، يهللون لله حوله، ويرملون على أقدامهم شعثاً غبراً له، قد نبذوا السرابيل وراء ظهورهم، وشوهوا بإعفاء الشعور محاسن خَلْقهم، ابتلاء عظيماً، وامتحاناً شديداً، واختباراً مبيناً، وتمحيصاً بليغاً، جعله الله سبباً لرحمته، ووصلة إلى جنته.
ولو أراد سبحانه أن يضع بيته الحرام، ومشاعره العظام، بين جنات وأنهار، وسهل وقرار، جمّ الأشجار، داني الثمار، ملتف البناء، متصل القرى، بين برة سمراء، وروضة خضراء، وأرياف محدقة، وعراص مغدقة، وزروع ناضرة، وطرق عامرة، لكان قد صغر قدر الجزاء، على حسب ضعف البلاء؛ ولو كان الأساس المحمول عليها، والأحجار المرفوع بها، بين زمردة خضراء، وياقوتة حمراء، ونور وضياء، لخفف ذلك مصارعة الشك في الصدور، ولَوَضَع مجاهدة إبليس عن القلوب، ولنفى معتلج الريب من الناس؛ ولكن الله يختبر عباده بأنواع الشدائد، ويتعبدهم بأنواع المجاهد، ويبتليهم بضروب المكاره، إخراجاً للتكبر من قلوبهم، وإسكاناً للتذلل في نفوسهم، وليجعل ذلك أبواباً فُتُحا إلى فضله، وأسباباً ذللاً لعفوه.
فالله الله في عاجل /462(1/462)


البغي، وآجل وخامة الظلم، وسوء عاقبة الكبر؛ فإنها مصيدة إبليس العظمى، ومكيدته الكبرى، التي تساور قلوب الرجال، مساورة السموم القاتلة، فما تكدي أبداً، ولاتشوي أحداً.
قلت: معنى ما تكدي: ما ترد عن تأثيرها؛ ولاتشوي أحداً: لاتخطئ المقتل، وتصيب غيره، وهو الشوي، والشويُّ الأطراف، كاليد والرجل. أفاده الشارح.
قال (ع): لا عالماً لعلمه، ولامقلاً في طمره؛ وعن ذلك ما حرس الله عباده المؤمنين بالصلوات والزكوات، ومجاهدة الصيام في الأيام المفروضات، تسكيناً لأطرافهم، وتخشيعاً لأبصارهم، وتذليلاً لنفوسهم، وتخفيضاً لقلوبهم، وإذهاباً للخيلاء عنهم، ولما في ذلك من تعفير عتاق الوجوه بالتراب تواضعاً، والتصاق كرائم الجوارح بالأرض تصاغراً، ولحوق البطون بالمتون من الصيام تذللاً؛ مع مافي الزكاة من صرف ثمرات الأرض وغير ذلك، إلى أهل المسكنة والفقر؛ انظروا إلى مافي هذه الأفعال، من قمع نواجم الفخر، وقدع طوالع الكبر.
قلت: وفي كلامه ـ صلوات الله عليه ـ دلالة واضحة، على كون العبادات مشروعة؛ لمصالح وحكم للعباد، غير مجرّد الشكر، ولكن ليس على الكيفية التي تذهب إليها بعض المعتزلة في الألطاف؛ ولا تنافي بين ذلك، وبين وجوب تأديتها للشكر، كما نصّ عليه محققوا أئمتنا (ع).
إلى أن قال ـ صلوات الله عليه ـ: ألا وقد أمرني الله بقتال أهل البغي، والنكث والفساد في الأرض؛ فأما الناكثون فقد قاتلتُ، وأما القاسطون فقد جاهدتُ، وأما المارقة فقد دوّخْتُ، وأما شيطان الردهةفقد كفيته بصعقة، /463(1/463)


سمعت لها وجبة قلبه، ورجّة صدره؛ وبقيت بقية من أهل البغي؛ ولئن أذن الله في الكرة عليهم، لأديلنّ منهم، إلا من يتشذر في أطراف البلاد تشذراّ.
[من المصابيح لأبي العباس من أمير المؤمنين]
ومن هنا مذكور في المصابيح فنسوق الرواية منها لما سبق.
قال السيد الإمام، أبو العباس الحسني (ع): (ذِكْر بعض دلائل رسول الله -صَلَّى الله عَليْه وآله وسَلَّم -).
عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده، عن أبيه الحسين (ع)، أن أمير المؤمنين (ع) خطب الناس، فقال:
أنا وضعتُ كَلْكَل العرب، وكسرتُ قرن ربيعة ومضر، ووطئت جبابرة قريش؛ لقد وضعني الله في حجر المصطفى ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسَلَّم ـ وأنا ابن أربع سنين، يضمني إلى صدره، ويكنفني في فراشه، ويمسني جسده وعرقه، ويقبلني فأمص ريق حكمته، وآكل في قصعته، وألعق أصابعه؛ حتى كان يمضغ الشيء ويلقمني مِنْ فِيْهِ؛ وأنا أصف لكم من علاماته ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسَلَّم ـ.
لقد قرن الله به أكرم ملائكته، وأقربها إليه، ومنه يكون الوحي؛ إسرافيل (ع)، كان معه ليله ونهاره؛ ولقد كان يرفع رأسه نحو السماء لما أتاه الوحي مِن أول الليل إلى آخره، كأنما ينتظر شيئاً؛ فأنا أول من رأى نور الوحي، وشمّ منه ريح النبوة.
قلت: وفي النهج: أرى نور الوحي والرسالة، وأشم ريح النبوة؛ ولقد سمعت رنة الشيطان، حين نزل الوحي عليه ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسَلَّم ـ، فقلت: يارسول الله، ماهذه الرنة؟ فقال: ((هذا الشيطان قد أيس من عبادته؛ إنك تسمع ما أسمع، وترى ما أرى، إلا أنك لست بنبي، ولكنك الوزير، وإنك لعلى خير)) إلخ.
وقد ساق شارح النهج العلامة، الروايات على شواهد فصول هذه الخطبة الشريفة، بما فيه كفاية.
(رجع) ثم ذكر في رواية المصابيح تكليم الجمل، والبقرة، والذئب، لرسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسَلَّم ـ.
إلى قوله ـ صلوات الله عليه ـ: وكنت معه إذ قال: ((يأتيني تسعة نفر من حضرموت؛ يسلم ستة، ولايسلم ثلاثة)) فوقع /464(1/464)

94 / 135
ع
En
A+
A-