واللازب الأعظم، كيف لا والدين بسوحهم متصل، والعلم إلى صرحهم متسلسل، ومودتهم واتِّباعهم مطوّقة بهما الرقاب، كما صرّحت به السنة الشريفة ونطق به الكتاب، والمودة واِلاتباع ممن لا يعرفهم تحيلهما الألباب.
وتحتم حينئذ صرف العناية، مع تبلبل البال، وتوفر الأشغال، بعد استخارة الله تعالى، واستمداد الإعانة منه جل وعلا، والتسديد والتوفيق، إلى أقوم طريق.
وترجح تقديم فصل مشتمل على المقصد الأعلى، والمطلب الأسنى، مما يلزم الطالب للحق عرفانه، ويتوجه على مبتغي النجاة تحقيقه وإتقانه؛ حتى يكون على بصيرة من ذلك في الدين، غير مرتبك في حبائل المقلدين، ولا مرتطم في ضلال المضلين، من الجاهلين والمعاندين؛ وستطلع ـ إن شاء الله ـ على بيانه، وتكرع ـ بفضل الله تعالى ـ من معين برهانه، وتعرف الحق بالدليل، وتقتفي ـ بتوفيق الله تعالى ـ أوضح سبيل، إن لم تكن ـ والعياذ بالله ـ ممن غطّى الرين على قلبه، وغشي الزيغ أنوار بصره ولبّه، وأخذ دينه عن أفواه الرجال، وقلدهم فمالوا به من يمين إلى شمال، فكان من دين الله على أعظم زوال، كما ورد به الخبر، عن سيد البشر، صلى الله عليه وعلى آله خير آل؛ وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون؛ ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون.
وما أوجب التقديم لذلك، والاهتمام بما هنالك، إلا أنها كثرت في هذه الأعصار الضلالات، وانتشرت كل الانتشار الجهالات، وصار يدعي اتِّباع الحق والدليل، ويموه على الرعاع من الأتباع بالوقوف على منهاج السنة ورفض التقليد ليصدهم عن السبيل ـ من ليس من ذلك القبيل؛ بل هو رافض للحجج المنيرة، مفرق لعمى بصره بين ما جمع الله تعالى على لسان رسوله - صَلَّى الله عَليْه وآله وسَلَّم - في الآيات المتكاثرة، والأخبار المتواترة، من الكتاب والسنة والعترة المطهرة، واقف في حومة الدعوى، داع إلى تقليد أرباب الزيغ بمجرد الأهواء؛ ومن الناس من يجادل في الله بغير علمٍ ولاهدى ولاكتاب منير، ثاني /18(1/18)
عطفه ليضل عن سبيل الله له في الدنيا خزي ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق.
ووقعت شبههم هذه الباطلة، وتأثرت محالاتهم المضمحلة الماحلة، في قلوب كثير ممن لاثبوت لأفهامهم في مجال العلوم، ولارسوخ لأقدامهم في مقام المنطوق والمفهوم، ولا اطلاع لهم على الحقائق، ولاتمييز بالنظر الصحيح بين مخالف وموافق.
ومَنْ لا يتق الضحضاح زلّت .... به قدماه في البحر العميقِ
وصار الحال كما قال:
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى .... فصادف قلباًفارغاً فتمكنا
وأكد هذا أن مؤلفات المخالفين منشورة، قد امتلأت بها جوانب المعمورة، وأسفار الهداة، من سفن النجاة، عن الانتشار محصورة ومهجورة؛ حتى صار الذين لا هوى لهم في مجانبة الحق، يطلعون على نقولات الباطل المختلق، ولايهتدون إلى أقوال أئمتهم، وردود أعلام ملّتهم، ويرون الروايات عن الرواة، فلا يفرقون بين معدّل ومجروح، ومقبول ومطروح، ولا يعرفون من هو في حزب المضلين الغواة، ومن هو في حزب المهتدين الهداة، مع سفن النجاة.
[تشنيع المؤلف على من شنَّع على العترة ونسب إليهم ترك الإسناد]
وإن من العجائب ـ وما عشتَ أراك الدهر عجباً ـ أن أناساً من رؤساء هؤلاء الفريق، صاروا يموهون على الأغمار، بأن العترة الأطهار (ع)، وأتباعهم الأبرار ـ رضي الله عنهم ـ، ينهون عن اتباع الدليل، ويأمرون بالتقليد، ويَسِمون من خالف آل محمد ـ صلوات الله عليه وعليهم ـ ورفض الأدلة المعلومة من الكتاب والسنة، بالاجتهاد المطلق، والاتباع للحق.
ويا سبحان الله! ومن الذي دعا الخلق إلى الحق، واتباع الكتاب والسنة، وهدى العباد، وسن لهم الجهاد والاجتهاد، والأخذ ببرهان الأدلة، غير أهل بيت النبوة، ومعدن الرسالة، قرناء التنزيل، وأمناء التأويل، ـ صلوات الله وسلامه عليهم؟! /19(1/19)
[سبب تقليد غير العترة وتنزيه الأئمة الأربعة عن مخالفتهم]
وقد علم كل ذي علم أنها ما تأسست التقليدات، التي لأجلها نُصبت المقامات، في الحرم الشريف للمذاهب الأربعة، إلا بعناية الدول المضلة؛ لصد الناس، عن العترة المطهرة عن الأرجاس، المنزهة عن الأدناس؛ وهي من البدع المحدثة في الأديان، التي ما أنزل الله بها من سلطان.
وقد علم أولوا العلم أن هؤلاء الأئمة، الذين أضافوا إليهم المقامات، وأمروا الناس بتقليدهم، كانوا من أنصار أئمة العترة، القائمين بما أمرهم الله تعالى لهم من المودة والنصرة، وأقوالهم وأفعالهم معلومة؛ وحاشاهم عن رفض التمسك بالثقلين، وتنكّب سفينة النجاة، وترك المودة لمن أمرهم الله تعالى بمودته، وألزمهم بموالاته وطاعته، من أعلام أهل بيت نبيهم الهداة.
قال المحدث الكبير، يحيى بن أبي بكر العامري، في الرياض المستطابة: وقد ذكر ابن الجوزي وغيره أن الأئمة المتبوعين في المذاهب بايع كل واحد منهم لإمام من أئمة أهل البيت؛ بايع أبو حنيفة لإبراهيم بن عبدالله بن الحسن، وبايع مالك لأخيه محمد، وبايع الشافعي لأخيهما يحيى. انتهى المراد.
ومتابعة أبي حنيفة للإمام الأعظم زيد بن علي (ع) مشهورة.
قال السيوطي في تاريخ الخلفاء صفحة (242): وفي سنة (45) كان خروج محمد وإبراهيم ابني عبدالله بن حسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب.
إلى قوله: وآذى المنصورُ خلقاً من العلماء ممن خرج معهما، أو أمر بالخروج، قتلاً وضرباً وغير ذلك؛ منهم: أبو حنيفة، وعبد الحميد بن جعفر، وابن عجلان.
وممن أفتى بجواز الخروج مع محمد، على المنصور، مالكُ بن أنس ـ رحمه الله ـ وقيل له: إن في أعناقنا بيعة للمنصور، فقال: إنما بايعتم مكرهين، وليس على مكره يمين.
وسيمر بك ـ إن شاء الله تعالى ـ في كتابنا هذا عند عروضه في محله ما تطلع عليه /20(1/20)
[قصيدة ابن الوزير في المقامات]
ولله السيد الإمام، جمال الدين، الهادي بن إبراهيم الوزير ـ رضي الله عنهم ـ حيث يقول لما عاين المقامات:
خبرونا ما شأن هذي المقاما .... ت؟ وما جاءكم بها من شريعهْ؟
ما دليل الكتاب فيها؟ وما جا .... ءَت به سنة النبي الرفيعهْ؟
أم أقام الاجماع فيها دليلاً؟ .... فأرونا هذا وهذا جميعَهْ
قد صبرنا لكم على الجبر والأقـ .... ـوال تلك الملفقات الشنيعهْ
وعلمنا أن الدلائل منكم .... في أصول الهدى سراب بقيعهْ
غير أن الذي عجبنا له منـ .... ـكم وخالفتموا علوم الشريعهْ
هذه البدعة التي في المقاما .... ت وتضييقها الطريق الوسيعه
قلتمُ: لامقام فيها لزيد .... ولأتباعه هداة وشيعه
ما دليل اختصاصكم بالمقاما .... ت وإيذائكم لنا بالوقيعه؟
خبّرونا دليلكم أيها القو .... م فأذن الإنصات منا سميعهْ
كيف كانت صلاة أصحاب بدر .... قبل ما تعمرون للزيغ ريعهْ
وما أرادوا إلا سلب الأمر عن أولي الأمر، وطمس الذكر لأولي الذكر، فخاب ما راموا وظهر أمر الله وهم كارهون؛ ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون.
هذا، فكيف ينسب المبتدعون ذلك إلى ورثة الكتاب والسنة، وكلُّ إمام منهم(ع)، يدعو إلى كتاب الله وسنة رسوله - صَلَّى الله عَليْه وآله وسَلَّم -، كلَّ من بلغته الدعوة، ومؤلفاتهم مشحونة بالأدلة، على وجوب اتباع الأدلة؟! ولكن لابد لكل مبتدع من دعوى (كلمة حق يراد بها باطل) أو تلفيق شبهة زيغ يُستَهوى بها الجاهل الغافل، وهذا هو لبس الحق بالباطل، الذي /21(1/21)
ينهى عنه الملك العادل، بأمثال قوله عز وجل: {وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42)} [البقرة].
ولهذا تعين البيان، بحسب الإمكان؛ لما أخذ الله تعالى من الميثاق في منزل الفرقان، وسنة سيد ولد عدنان؛ ولسنا ـ والحمد لله ـ نستنكر من غلبة الباطل وكثرة أهله، ولانستوحش لانقباض الحق وقلة حزبه، فإن سنة الله ـ عز وجل ـ في عباده، وعادته المستمرة في بلاده، التخليةُ بين خلقه في هذه الدار؛ ليتمكن الجميع من الاختيار، وقد أخّر الجزاء لدر القرار.
[إشارة إلى انزواء الدنيا عن الخلاصة المصطفاة]
واقتضت حكمته الربانية قبض الدنيا عن خاصة أوليائه، وانزواءها عن خلاصة أصفيائه؛ ليكون الاتباع لخالص الدين، والطاعة لمحض اليقين.
وعلى كل حال فحزبه المنصورون وإن قُهروا، وجنده الغالبون وإن غلبوا، كما قصه ـ عز وجل ـ في الكتاب المبين: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128)} [الأعراف].
وقد قال عمار، الذي يدور مع الحق حيثما دار ـ رضوان الله عليه ـ لما أُخّر عن المقام الذي اختاره الله تعالى له ورسوله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسَلَّم ـ إمامُه وإمام الأبرار:
يا ناعي الإسلام قُمْ فانعه .... قد مات عرفٌ وبدا منكر
ما لقريش لا علا كعبها .... من قدّموا اليوم ومن أخروا
وذلك في صدر الإسلام، فكيف بمثل هذه الأيام، التي هي من أعلام النبوة، بتصديق مواعيد الله على لسان رسوله - صَلَّى الله عَليْه وآله وسَلَّم -، من اغتراب الإسلام، وتغيير الأعلام، واقتراب ظهور دينه الحنيف، وتجديد شرعه الشريف، بقيام خاتم الأئمة، ومقيم الحجة من أهل بيت نبيه، مهدي هذه الأمة، كاشف الظلمة، ومفرج الغمة؛ فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر /22(1/22)