فقلتم: بلى وقلنا: لا، فأنتم بالاسم أولى.
ثانيها، أنكم لهجتم بذكر القدر، في إضافة القبيح إليه؛ فنسبتم إليه كما يقال: تمري.
ثالثها، ماروي عن النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسَلَّم ـ أنه سئل مَن القدرية؟؛ قال: ((قوم يعملون بالمعاصي، ثم يقولون قدرها اللَّه عليهم)).
ورابعها، أنه شبههم بالمجوس، ومذهب المجبرة عين مذهب المجوس؛ لأن المجوس يقولون: من يَقدِر على الخير، لا يَقدِر على الشر ـ قلت: وهو النور عندهم ـ ومن يقدر على الشر لايقدر على الخير ـ قلت: وهو الظلمة ـ.
قال: والمجبرة يقولون: من يقدر على الإيمان لايقدر على الكفر، ومن يقدر على الكفر لايقدر على الإيمان.انتهى المراد.
قلت: وهذا على قول بعضهم، بأن للعبد قدرة موجبة للفعل، ليس لصاحبها اختيار؛ والشبه الجامع لمذهب الجبرية، أن من يأتي من قبله الخير، يستحيل أن يأتي منه الشر، كالمؤمن، فإنه عندهم جميعاً غير متمكن من الكفر، والكافر على العكس.
وقال الإمام الحجة عبدالله بن حمزة (ع): قد صحّ عند الجميع ماروي عن رسول اللَّه ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسَلَّم ـ أنه قال: ((القدرية مجوس هذه الأمة)).
إلى أن قال: وقد صحّ أن المجوس يقولون في نكاح البنات، والأمهات: إنه بقضاء اللَّه وقدره..إلخ كلامه.
قال ـ أيده الله ـ في التخريج: الحديث أخرجه أبو داود، والحاكم عن ابن عمر.
وعنه ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسَلَّم ـ: ((صنفان من أمتي لا تنالهما شفاعتي يوم القيامة: المرجئة، والقدرية))، أخرجه الطبراني عن واثلة وجابر، وأبو نعيم عن أنس. /244(1/244)
وعنه ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسَلَّم ـ: ((صنفان من أمتي لايردان علي الحوض، ولايدخلان الجنة: القدرية، والمرجئة))، أخرجه الطبراني عن أنس.
وعنه ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسَلَّم ـ: ((صنفان من أمتي ليس لهما في الإسلام نصيب: المرجئة، والقدرية))، أخرجه البخاري والترمذي وابن ماجه عن ابن عباس، وابن ماجه عن جابر، والخطيب عن ابن عمر، والطبراني عن أبي سعيد.
وعنه ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسَلَّم ـ: ((لاتجالسوا أهل القدر، ولا تفاتحوهم))، أخرجه أحمد، وأبو داود، والحاكم عن عمر.
وعنه ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسَلَّم ـ: ((لُعنت القدرية على لسان سبعين نبياً)) أخرجه الدار قطني عن علي. انتهى.
أورد سعد الدين في شرح المقاصد، ماروي عنه ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسَلَّم ـ، في حديث القادم عليه من فارس فسأله: من أعجب مارأى؟
قال: رأيت أقواماً ينكحون أمهاتهم، وأخواتهم، فإن قيل لهم لم تفعلون ذلك؟ قالوا: قضى اللَّه علينا وقدر؛ فقال ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسَلَّم ـ: ((سيكون في آخر أمتي أقوام يقولون مثل مقالتهم أولئك مجوس)).
انتهى من إيقاظ الفكرة لابن الأمير. انتهى.
[إقرار ابن تيمية وابن القيم بأن المجبرة قدرية]
قلت: وقد أقر الشيخ ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم، بأن المجبرة قدرية؛ مع محاولتهما لإخراج أنفسهما بما سبق من تمويههم بالكسب، على رأي الأشعرية.
قال بعض أئمتنا ـ رضي الله عنهم ـ: ومنها ماذكره هذا ابن القيم في ذمِّه من استدل بالقدر على الجبر، وهو أيضاً حجة عليهم، وحجة للعدلية؛ وقد رأينا نقله ليعرف أن بديهة عقولهم، تنكر مايؤول إليه مذهبهم.
قال مالفظه: وأما المقام الثاني، وهو مقام الضلال، والردى والهلاك، فهو الاحتجاج به ـ يعني بالقدر ـ على اللَّه، وحمل العبد ذنبه على ربه، وتنزيه نفسه الجاهلة الظالمة، والأمارة بالسوء، وجعل أرحم الراحمين، وأعدل العادلين، وأحكم الحاكمين، وأغنى الأغنياء، أضر على العباد من إبليس كما صرح به بعضهم، واحتج عليه بما خصمه فيه من تدحض حجته، ولاتطاق مغالبته، /245(1/245)
حتى يقول قائل هؤلاء:
ألقاه في اليمّ مكتوفاً وقال له .... إياك إياك أن تبتلَّ بالماءِ
ويقول قائلهم:
دعاني وسد الباب دوني فهل إلى .... دخولي سبيل بينوا لي قضيتي
ثم ساق احتجاجات العدلية، وحكايات فضائح الجبرية.
ومنها قوله: وبلغ بعض هؤلاء أن علياً (ع) مر بقتلى النهروان فقال: بؤساً لكم، فقد ضركم من غركم.
فقيل: من غرهم؟.
فقال: الشيطان، والنفس الأمارة بالسوء، والأماني.
فقال هذا القائل: كان علي قدرياً، وإلا فالله غرهم وفعل بهم مافعل، وأوردهم تلك الموارد.
إلى قوله: وسمعته يقول ـ يعني ابن تيمية ـ: القدرية المذمومون في السنة، وعلى لسان السلف، هم هؤلاء الفرق الثلاث: نفاته، وهم القدرية المجوسية؛ والمعارضون به للشريعة، الذين قالوا: لو شاء اللَّه ماأشركنا، وهم القدرية المشركية؛ والمخاصمون به للرب سبحانه، وهم أعداء الله وخصومه وهم القدرية الإبليسية، وشيخهم إبليس، وهو أول من احتج على اللَّه بالقدر فقال: بما أغويتني.
قلت: وقد عنى بالأولى العدلية، وبالأخريين إخوانه الجبرية؛ وانظر إلى قوله هذا كيف أداه إلى المناقضة، والتوسط على زعمه بين الأقوال المتعارضة؟! والقصد بيان إقراره على نفسه؛ فقد أخرج الله تعالى الحق على لسانه؛ بل الإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره.
إلى أن قال: ولا ريب أن هؤلاء القدرية الإبليسية والمشركية، شر من القدرية النفاة؛ لأن النفاة إنما نفوه تنزيهاً للرب، وتعظيماً له أن يقدر الذنب، ثم يُلزم عليه ويعاقب العبد، على مالا صنع للعبد فيه البتة..إلخ.
فيقال: فما بال ذمهم أيها الشيخ على قول الحق؟ وإلى أي ملاذ لذت عن /246(1/246)
الولوج في زمرة الثلاث الفرق؟ نعوذ بالله من الخذلان!.
قال الناقل لكلامه من أئمتنا (ع): قال بعض العدلية: وغير خاف عليك ماذهبت إليه الجبرية، وقد سبق، فلا حاجة إلى تكريره، فقد وقعوا فيما شنعوا، وذموا، وكفوك المؤونة في فساد قولهم وبطلانه، وصحة مذهب العدل ورجحانه.
وأما تسترهم بالكسب، فهو شيء لامعنى له؛ وقد سبق كلام الرازي، وهو فحلهم، وقد صرحوا بأن للعبد قدرة لاتأثير لها.
قالت العدلية: فلا فائدة فيها إذاً؛ بل لاتسمى قدرة رأساً. انتهى.
واعلم أن الجميع مجمعون على نفي القضاء والقدر، على معنى الأمر بالمعاصي، وعلى إثباته بمعنى العلم، والكتابة، والأمر بالطاعة.
قال الإمام عز الدين بن الحسن (ع): اتفق أهل القبلة على إثبات القضاء والقدر، في جميع أفعال العباد بمعنى العلم، والكتابة، واتفقوا على نفيه بمعنى الأمر بكل أفعال العباد.
إلى قوله: ولقولهم ـ أي العدلية ـ بثبوته بمعنى العلم والكتابة، منعوا أيضاً من إطلاق نفي كونها بقضاء اللَّه وقدره.
وأما المجبرة فلإثباتهم بمعنى الخلق، أجازوا إطلاق القول بأنها بقضائه تعالى وقدره..إلخ كلامه.
[قصة الشامي في القدر مع أمير المؤمنين (ع)]
قلت: وقد أبانه، وصرح به على مقتضى مادانت به العدلية في الوجهين، وأوضح من الفرقة الموسومة بالقدرية المجوسية من الفريقين، مع ماتقدم من الدلالات القاطعة، والبراهين الساطعة، إمامُ الموحدين، باب مدينة علم سيد المرسلين ـ صلوات الله وسلامه عليهم ـ، المبين للأمة ما /247(1/247)
اختلفوا فيه من بعد أخيه، أمير المؤمنين، وسيد الوصيين، في جوابه للشامي الذي سأله.
رواه الإمام المنصور بالله عبدالله بن حمزة في الشافي بإسناده إلى أمير المؤمنين علي ـ كرم اللَّه وجهه ـ وقد سأله الشيخ الشامي عن مسيره إلى الشام: أكان بقضاء وقدر؟.
فقال علي (ع): والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، ماقطعنا وادياً، ولاعلونا تَلْعَةً، إلا بقضاء وقدر.
فقال الشيخ: عند اللَّه أحتسب عنائي؛ ماأرى لي من الأجر شيئاً.
فقال علي (ع): بلى أيها الشيخ، قد عظم اللَّه لكم الأجر على مسيركم، وأنتم سائرون، وعلى منصرفكم، وأنتم منصرفون، ولم تكونوا في شيء من حالاتكم مكرهين، ولا إليها مضطرين.
فقال الشيخ: فكيف والقضاء والقدر ساقانا وعنهما كان مسيرنا؟.
فقال علي (ع) للشيخ: لعلك ظننت قضاءً لازماً، وقدراً حتماً؛ لو كان كذلك لبطل الثواب والعقاب، وسقط الوعد والوعيد، والأمر من اللَّه والنهي، ولما كانت تأتي من اللَّه محمدة لمحسن، ولا مذمة لمسيء، ولما كان المحسن بثواب الإحسان أولى من المسيء، ولا المسيء بعقوبة الإساءة أولى من المحسن؛ تلك مقالة عبدة الأوثان، وجنود الشيطان، وخصماء الرحمن، وشهود الزور، وأهل العمى عن الصواب في الأمور، قدرية هذه الأمة ومجوسها؛ إن اللَّه أمر تخييراً، ونهى تحذيراً، وكلف يسيراً، ولم يعص مغلوباً، ولم يطع مكرِهاً، ولم يرسل الرسل هزؤاً، ولم ينزل القرآن عبثاً، ولم يخلق السماوات والأرض، وعجائب الآيات باطلاً؛ ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار.
فقال الشيخ: ماالقضاء والقدر، اللذان ماوطئنا موطئاً إلا بهما؟.
فقال (ع): الأمر من اللَّه والحكم.
ثم تلا: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ } [الإسراء:23].
فنهض الشيخ مسروراً بما سمع، وهو يقول شعراً:/248(1/248)