المعتزلة، القائلين بالقبح العقلي.
حكاه ابن الهمام في المسايرة، وشارحه المقدسي في المسامرة، وقد تقدم كلام الرازي.
وقالوا: لاحكم للعقل في حسن الأشياء وقبحها، فلا حسن ولا قبح للأفعال قبل ورود الشرع؛ ولو عكس الشارع فحسن ماقبح، وقبح ماحسن، لم يكن ممتنعاً.
[رجوع الشريف، والغزالي إلى التوحيد والعدل]
وقال الغزالي ـ وقد كان من رؤوسهم إلا أنه قد صحّ رجوعه، ورجوع المحقق الشريف إلى القول بالتوحيد، والعدل، والدخول في زمرة الزيدية الهادية المهدية، أشياع العترة الزكية؛ أما الشريف، فهو الذي يحق لمنصبه المنيف؛ وأما الغزالي، فمثله في علمه من يتنزه عن ذلك المذهب السخيف، والله ولي التوفيق ـ مالفظه: إن الأشعرية قدحوا في الحكمة بأسرها، فكان ماذهب إليه المعتزلة أهون. انتهى من النبراس.
وقال فيه ناقلاً عن بعضهم: وحسبك بمذهب فساداً، استلزامه جواز ظهور المعجزات على يد كاذب، واستلزامه جواز نسبة الكذب إلى أصدق الصادقين، وأنه لا يقبح منه تعالى، واستلزامه جواز التسوية بين التثليث والتوحيد في العقل؛ وأنه قبل ورود النبوة لا يقبح التثليث، ولا عبادة الأصنام، ولا تشبيه المعبود، ولايقبح شيء من أنواع القبائح أصلاً؛ وقد التزم النفاة ذلك.
إلى قوله: وأنه لافرق قبل السمع بين ذكر الله، والثناء عليه، وحمده، وبين ضد ذلك، وبين شكره بما يقدر عليه العبد، وبين ضده، ولابين الصدق والكذب، والعفة والفجور، والإحسان إلى العالم والإساءة إليه بوجه ما، وأن التفريق بالشرع بين المتماثلين من كل وجه؛ وقد كان تصور هذا المذهب كافياً في العلم ببطلانه، وأنه لايتكلف رده، ولهذا رغب عنه فحول النظار من الطوائف كلهم.
إلى قوله: وكذا الإمام أسعد بن علي الزنجاني، بالغ في إنكاره على أبي الحسن الأشعري، القول بنفي التحسين والتقبيح، وأنه لم يسبقه إليه أحد، وكذا أبو القاسم الراغب، وأبو عبدالله الحليمي، وخلائق /234(1/234)


لا يُحصون؛ وكل من تكلم في علل الشرع، ومحاسنه، وماتضمنه من المصالح، ودرء المفاسد، لايمكنه إلا بتقرير الحُسْن والقبح العقليين.
إلى قوله: ومنه يعلم مجازفة ابن حجر المكي، في فتاويه الصغرى.
إلى قوله: وإنها ـ أي قاعدة الحُسْن والقُبْح ـ لو بطلت لبطل القياس، وانهار الأساس.
حتى قال: فإن العضد ـ وناهيك به ـ لما بلغ إلى القياس في شرح أصول ابن الحاجب اضطرب، وبعد وقرب، حتى وقع في مناقضة المذهب.
وكذا من هو أكبر منه في فن الكلام، كالبيضاوي في المنهاج، وكفى به، وكذا من دونهما، كالسبكي في جمع الجوامع، والمحلي في شرحه، والقاضي زكريا في لبه وشرحه، فمن شاء أن يراجعها فليراجع.
وإنما يقولون بأفواههم ماليس في قلوبهم.
إلى قوله: وكم وكم لهم من جنس هذا الصنيع؛ وليست هذه المناقضة بأغرب من التصميم على مناقضة القرآن العظيم، فإن قولهم: لو عكس الشارع القضية ـ كما قال المعترض ـ فقَبّح ماحسنه، وحَسّن ماقبحه، لانقلب الأمر ـ مناد بخلاف قوله تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ(35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36)} [القلم] وكأنهم في هذا الخطاب وأمثاله هم المعنيون، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وفي لفظ {تَحْكُمُونَ } من هذه الآية الكريمة، إشارة جلية، إلى أن الأحكام العقلية، يفهمها كل من سلمت فطرته عن تغيير الجبرية.
انتهى المراد.
[الرابع من تلك الأمور، الجبر]
الرابع: اعتقادهم الجبر؛ فذو الجلال، هو ـ جل وعلا ـ عندهم الفاعل لكل ضلال، والخالق لكل عصيان وفسق وكفر، والقاضي بكل فساد، والمريد لكل غيّ وعناد، وأنه ـ جل وعز ـ خلق في عبده المعصية، وأرادها منه ونهاه عنها، ويعذبه عليها، وأنه تعالى ماخلق الكافرين إلا للكفر والعصيان، وأنه تعالى كره منهم البر والإيمان، وأنه تعالى كلّف العاصين /235(1/235)


الطاعة، ومنعهم عليها الاستطاعة؛ تعالى الله الملك القائم بالقسط، العزيز الحكيم، الذي لايريد ظلماً للعالمين، ولايرضى لعباده الكفر، ولايحب الفساد.
وفي هذا القول إبطال جميع ماأنزل الله من الأمر والنهي، والوعد والوعيد؛ ولم يبقَ معنى لإرسال الرسل، وإنزال الكتب؛ تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.
وقد دان بذلك جميع الجبرية، من جهمية، وأشعرية، وسائر القدرية.
قال الإمام الحجة، المنصور بالله، عبدالله بن حمزة، في الشافي، في تعداد الفرق، وقد ذكر الجبرية، ومنهم الأشعرية.
إلى قوله: والأشعري بصري، وليس له سلف يرجع إليه.
إلى قوله: لأنه درس على أبي علي الجبائي، شيخ المعتزلة، وخالفه إلى مقالة المجبرة.
إلى قوله: بل أحيا مذاهب لجهم بن صفوان كانت داثرة، فحرّفها وصحّفها؛ ليبقى له أدنى مسكة من الإسلام؛ وقد حيل بينه وبين ذلك بالدليل.
ومما أحدثه: أنه تعالى مسموع، وأنه أسمع نفسه موسى.
وروي عنه: أنه يُدْرك بجميع الحواس؛ وأصحابه يطلقون أنه مسموع.
وكان يقول: إن علم الله، وقدرة الله، وحياته، وسمعه، وبصره، معان قديمة.
وما أطلق قبله أحد القول بأنها قديمة.
وزعم أن الكلام صفة الله تعالى شيء واحد، ليس بذي حروف ولا سور، وأنه التوراة والإنجيل والقرآن، وأن هذه الكتب المنزلة ليست بكلامه، ومايتلى ويكتب ويحفظ مخلوق، وليس بكلامه تعالى.
وزعم أن أمره ونهيه شيء واحد، والأمر بالصلاة هو الأمر بالزكاة، ولا يقدر على أنه يأمر وينهى ويخبر بشيء، ولا يصح أن يأمر بأكثر مما أمر.
وزعموا أن كلامه لم يسمع قط، وأنه لم يزل يخاطب موسى: ياموسى؛ ويخاطب آدم: اسكن أنت وزوجك الجنة.
وزعم أن أهل الجنة يرون الله لافي جهة، غير منفرد منهم، ولاخارج من أجسامهم؛ وذلك يوجب أنهم يرونه في أنفسهم.
وزعم أنه تعالى يرضى الكفر ويحبه؛ ولم يوافقه أحد على ذلك.
وزعم أنه لو كَلّفَ /236(1/236)


العاجز لَحَسُنَ، ولو كَلَّفَ جمع الضدين لَحَسُنَ، ويحسِّن تكليف مالايطاق، وأن الاستطاعة مع الفعل، وأن جميع الأوامر تكليف مالايطاق.
وزعم أنه لو عاقب الأنبياء على ذنوب الفراعنة، وأثاب الفراعنة على طاعات الأنبياء، لَحَسُنَ منه.
وزعم أن الثواب والعقاب ليسا بجزاء على الأعمال.
وزعم أن الفعل خلق لله كسب للعبد؛ وجوّز على الله الإلغاز والتعمية.
وزعم أنه لاصيغة للعموم؛ وأبطل أدلة الشرع.
وزعم أنه لانعمة لله على الكافر.
وزعم أنه لايقبح شيء عقلاً، ولايحسن عقلاً، ولو حسَّن الكذب وكل القبائح جاز، ولو أظهر المعجز على كذاب جاز.
وزعم أنه يفعل لالغرض.
وزعم أنه يضل عن الدين، وأنه يخلق الكفر في الكافر، ويمنعه الإيمان وقدرة الإيمان، ثم يعاقبه عليه.
وزعم أن اليد، والجنب، والوجه صفات، وأن الاستواء على العرش صفة، وأنه يجوز له أن يُؤْلم أنبياءه وأصفياءه، والأطفال والمجانين، من غير عوض.
إلى قوله: وغير ذلك من المذاهب، التي يطول تفصيلها؛ ولم يكن له في زمانه سوق، وفشا مذهبه بعده.
ولا شك أنه قفا قريبه أبا موسى، في كيد الإسلام وإذهابه؛ وأكثر أقواله هذه غير معقولة، لاتقبلها العقول السليمة.
إلى آخر كلامه (ع).
[تمويه الأشعرية بالكسب]
هذا، وأما تمويه الأشعرية بالكسب، فراراً على زعمهم من لوازم الجبر، فلا معنى له؛ بل مذهبهم عين مذهب الجبر، فالكسب كما قالت العدلية: أمر لاتحقق له.
وعباراتهم تفيد محض كلام الجبرية؛ فقد فسروا الكسب بما يرجع إلى المحلية، وجعلوا العبد محلاً لما يخلقه الله ويوجده ـ على زعمهم ـ فيه من الأفعال؛ وليس العبد عندهم بموجد لطاعته، ولا معصيته، ولا قدرة له مؤثرة في شيء من الأعمال.
وقد اعترف محققوهم بفساد ماتستروا به من الكسب؛ وإليك نصوصهم في ذلك المقال.
صرح الجويني في مقدمات البرهان، بأن الكسب تمويه؛ بل لو سئلوا عن كل جزء من أجزاء الفعل، فإن كان من الله فهو الجبر، وتعطل معنى الكسب، /237(1/237)


والجزء الاختياري، وإن كان من العبد فهو مذهب أهل العدل؛ فليس لهم جواب عن هذا السؤال، إلا بالجبر أو العدل، وما زادوا على تفسيره بالمحلية، وماخرجوا عن زمرة الجبرية.
قال بعض العدلية: الأشاعرة تحيروا، وحيروا أتباعهم، وصاروا يوهمون أنهم على شيء، وأنهم متمسكون بذَنَب الحق؛ وهم في طرق الضلال، وعجزوا عن التعبير عن هذا الخيال، وهم في الباطن معترفون بأنهم في حومة الإشكال.
قلت: ومعترفون أيضاً في الظاهر، كما تعرفه من الأقوال.
قال: ألا ترى أن التفتازاني، وهو من أشدهم في نصرة الأشعري، ولو بمجرد الجدال، قد اعترف بصعوبة إيضاح معنى الكسب.
وقال الغزالي: لا تُعْرف مسألة الكسب، لا في الدنيا ولا في الآخرة.
وقال ابن عربي: مكثت ثلاثين سنة أبحث عنها ولم أعرفها.
ثم اعترف بالجبر.
حتى قال: والذي أظنه أن الأشعري، إنما قال بالكسب، مع معرفته أنه ليس تحته مسمى، تستراً عما يلزم الجبر من اللوازم..إلخ.
أفاده في الاحتراس.
قال بعضهم: ومن العجائب: إصرارهم على دعوى الكسب، مع عدم عثورهم على ماهيته، قرناً بعد قرن، منذ عصر الشيخ أبي الحسن ـ أي: الأشعري ـ إلى تاريخنا، وقد تعب من تعب منهم، في البحث عن حقيقته، وأفنى عمره في طلب معرفته، فلم يجد مايشفي، وكأنهم يلتمسون محله، الذي واراه فيه الشيخ الكبير، ويظنون بأنفسهم القصور أو التقصير، وهم في هذا التعب والشقاء، ولم يعلموا أن الشيخ إنما دفنه تحت بيضة العنقاء. انتهى.
قال ـ أيده الله ـ تعالى في تخريج الشافي: ومع هذا فهم يقولون: يُمْدَحُ الفاعل ويُذَم، كما يُمْدح صاحب الجمال، ويُذَمّ المبروص.
قاله الكِرماني في /238(1/238)

50 / 135
ع
En
A+
A-