بأفواههم، ويأبى اللَّه إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون.
وتهافت في أثر الملوك الجبارين، والعلماء المضلين، الذين حذر عنهم سيد المرسلين، الأتباعُ من العوام، والهمج الرعاع من الطغام، أتباع كل ناعق، وسيقة كل سائق، وركضوا في ميادين الدول، كما وصفهم اللَّه عز وجل: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ } [الفرقان:44]، وهم الجم الغفير، والجمع الكثير، وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل اللَّه، وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين؛ فعظمت الفتنة، واشتدت المحنة، وتمت الفرقة المنهي عنها في الكتاب المبين، وعلى لسان الرسول الأمين.
وحجج الله تعالى واضحة المنهاج، بينة الفجاج، ودينه قويم، وصراطه مستقيم؛ ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حيي عن بينة وإن اللَّه لسميع عليم.
وهذا مع ماتقدم معظم ماخالفوا فيه أهل بيت نبيهم من العقائد، وإليك النظر أيها المطلع المتبع لكتاب ربه، وسنة نبيه ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسَلَّم ـ، إن كنت عن طريق الحق غير حائد، ولا لضروري المعقول والمنقول بجاحد، لتنظر أي الفريقين أهدى سبيلاً، وأي الطائفتين أقوم قيلاً، وأبين دليلاً.
والمقصود بالخطاب أرباب النظر والاعتبار، من ذوي الأبصار؛ إنما يتذكر أولو الألباب.
فأما من أعمى بصائرهم الهوى، وأعشى أبصارهم الردى، من طائفتي المتمردين والمقلدين، الذين أَلْفَوا آبائهم ضالين؛ فليسوا بمقصودين؛ إنك لاتسمع الموتى ولاتسمع الصم الدعاء إذا ولّوا مدبرين،/229(1/229)
وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون.
ومالم نورده من الدلائل، فللإحالة على ماقرره علماء الأمة، وحرره في علم الأصول أعلام الأئمة، في جميع المسائل.
[الأمور التي نقم بها أهل الحق على أعدائه:(1)ـ التشبيه (2)ـ قدم القرآن (3)ـ نفي الحكمة (4)ـ الجبر]
فأقول، وبتسديد الله وبتوفيقه أصول: إن مما نقمه طائفة التوحيد والعدل، من آل الرسول ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسَلَّم ـ ومن دان بدينهم من علماء المعقول والمنقول، على سائر فرق الأمة من العامة مجموعَ أمور من الأصول:
الأول: التشبيه للطيف الخبير، الذي ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.
فمنهم من تكلم به صراحة، من الحشوية، والمجبرة، والروافض، وصنّفوا فيه، وحققوه؛ ومنهم من أُلزم بذلك إلزاماً، كالمثبتين للرؤية.
ولقد أحسن الزمخشري حيث يقول:
وجماعة سمّوا هواهم سنّة .... وجماعة حمر لعمري موكفهْ
قد شبّهوه بخلقه وتخوّفوا .... شنع الورى فتستروا بالبلكفهْ
الثاني: اعتقادهم أن كلام الله تعالى، قديم مع الله تعالى؛ بل قالوا بإثبات سبع صفات قديمات، وهي المعاني على زعمهم: القدرة، والعلم، والحياة، والسمع، والبصر، والكلام، والإرادة.
والقائلون بهذا الأشعرية، ومن وافقهم.
قال بعض علماء آل محمد (ع): فأما مقالة الأشعرية في إثبات هذه المعاني السبعة وأنها قديمة، وأن الذات هي الثامنة؛ فإنها زائدة على مقالة /230(1/230)
النصارى، الذين قالوا: إن الله ثالث ثلاثة، بزيادة بينة؛ لأن الثمانية أكثر من الثلاثة إلخ.
تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً؛ ولقد تهالكوا أشد التهالك في القول بقدم القرآن، وتكفير من يقول بأنه مخلوق لله تعالى بلا حجة ولا بيان.
أما طغام الحشوية، فلم يبالوا بالافتضاح بين البرية، وقالوا بقدم المتلوّ في المحاريب المكتوب في المصاحف علانية.
وأما الأشعرية، فعدلوا كما هي عادتهم في التمويه واللبس، إلى إثبات الكلام النفسي، وأنه لله تعالى صفة قديمة أزلية، فخرجوا عن المعقول وموضوعات اللغة العربية؛ وقد أقيم عليهم البرهان، وأن كلامهم في غاية البطلان، في الكتب الأصولية.
الثالث: إطباقهم على نفي الحكمة عن جميع أفعال الحكيم العليم، واعتقادهم أنه يفعل الأشياء لالحكمة وصواب، فخالفوا بذلك أحكام العقول ومحكم الكتاب، والمعلوم أن كل فعل لا لحكمة فهو عبث؛ وأفعاله ـ جل وعز ـ عندهم كلها من هذا الباب، وحرف ذووا الزيغ والتحريف من متكلميهم ـ لتلفيق ذلك المعتقد السخيف ـ كلامَ الحكيم اللطيف.
قال الرازي: إنهم يتأولون كل لام في القرآن ظاهرها الغرض؛ لأنه تعالى لا يفعل كذا لكذا. انتهى.
فكم من آية في الكتاب المبين حرّفوها، ودلالة في الذكر الحكيم صرفوها؛ فهذا صريح الرد لكلام أحكم الحاكمين.
قال ـ سبحانه وتعالى، وهو /231(1/231)
أصدق القائلين ـ: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)} [الأنبياء] {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ } [النساء: 165] {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)} [الذاريات] {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115)} [المؤمنون] {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38)} [الدخان].
وكم كرر العزيز الحكيم العليم؛ تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون؟!.
[شيء من عقائد الأشعرية الباطلة]
ولقد كثرت المغالطة من أشعرية المجبرة، في أكثر مسائل الأصول، لما لم تستقم لهم على قود مذاهبهم الردية مسالك المعقول، فأوقعهم ذلك في الاضطراب والمناقضة، ولم يزالوا في ملاوذة ومعارضة، حتى مال من لا عرفان له بمراوغتهم، إلى الحكم بموافقتهم، وليس كذلك، وأنّى له بذلك.
فمما ناقضوا فيه: تعريفُهم للمعجز بأن الله تعالى أنزله لتصديق الرسل.
قال بعض العدلية: ودعوى العضد، أنهم يقولون بالمصالح تفضلاً يرده تصريحهم في الأصول، بأن تعليل أفعاله تعالى بالحكم محال؛ لأنه يكون مستكملاً بالغير وهو محال؛ ومناقضة بعضهم في كلامه في الكلام والأصول ـ عجيبة. انتهى. /232(1/232)
وقال السيد الحافظ، محمد بن إبراهيم الوزير: إذا تكلموا بالفطرة، أقروا بالحكمة، وإذا ذكروا المذهب جحدوا. انتهى.
وقد قال الرازي: لايمكن الحكم بصحة ماجاءت به الأنبياء، إلا على أصول المعتزلة. انتهى.
فهذا كلام محققهم؛ فهل يرتضي عاقل لنفسه أن يذهب إلى مذهب لايمكنه معه تصحيح دينه؟!.
إن ذلك لغاية العجب؛ وقد شهد الرازي على إمامهم الأشعري، بتناقض قواعده.
وقالوا: إنه جل وعلا لايقبح منه قبيح، فجوزوا أن يقع من الغني العليم الحكيم ـ سبحانه وتعالى ـ فعل جميع القبائح، ولم ينزهوه ـ عز وجل ـ عن ارتكاب شيء من الفضائح، وسدوا على أنفسهم تصديق الشارع، ولم يبق لديهم طريق إلى إثبات شيء من الشرائع؛ إذ لامانع من أن يكون كلامه ـ سبحانه ـ عندهم كذباً، وأن يظهر المعجز على يد الكاذب، ومغالطة بعضهم بأن ذلك صفة نقص لاتنفعهم؛ وقد تحيّر محققوهم في هذا المقام، وأقروا بتهافت الأقدام.
قال العضد في المواقف، والشريف في الشرح: واعلم أنه لم يظهر لي فرق بين النقص في الفعل، وبين القبح العقلي فيه؛ فإن النقص في الأفعال هو القبح العقلي بعينه فيها؛ وإنما تختلف العبارة دون المعنى، فأصحابنا المنكرون للقبح العقلي، كيف يتمسكون في دفع الكذب عن الكلام اللفظي، بلزوم النقص في أفعاله تعالى؟ إلخ ماذكره ابن الإمام (ع) في الهداية.
وقال الجويني: لايمكن التمسك في تنزيه الرب ـ جل جلاله ـ عن الكذب لكونه نقصاً؛ لأن الكذب عندنا لايقبح لعينه. انتهى.
أي: إنما يقبح لنهي الشارع عنه عندهم؛ لنفيهم الحسن والقبح عقلاً.
وقال صاحب التلخيص: الحكم بأن الكذب نقص؛ إن كان عقلياً، كان قولاً بحسن الأشياء وقبحها عقلاً، وإن كان سمعياً لزم الدور. انتهى.
وقال بعضهم: لايتم استحالة النقص على الله تعالى، إلا على رأي /233(1/233)