أنها شَيَّبَتْ به ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسَلَّم ـ، وهو في مقام النبوة، ومحل العصمة ـ صلوات الله عليه وآله وسلامه ـ؛ وماعند اللَّه هوادة لأحد من خلقه، وما حكمه إلا واحد في جميع عباده.
ومنها ماهو عام لهم ولغيرهم، كوعيد اللَّه في كتابه، وسنة رسوله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسَلَّم ـ، على جميع حدوده، وإيجاب البراءة من جميع أعدائه، نحو: قوله تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } [المجادلة: 22] الآيات.
فأعرضوا عن هذه الآيات والأخبار، واتخذوها ظهرياً، وأغلقوا الباب، وقطعوا الخطاب، وصيروها نسياً منسياً؛ ومن أظلم ممن ذكّر بآيات ربه ثم أعرض عنها إنا من المجرمين منتقمون؛ سنجزي الذين يصدفون عن آياتنا سوء العذاب بما كانوا يصدفون.
كل ذلك ميلاً إلى الهوى، وحباً للرئاسة، وإخلاداً إلى الدنيا؛ ومن يتولهم منكم فإنه منهم؛ والمرء مع من أحب؛ وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.
فإن قيل: إنهم إنما قبلوا حديثهم؛ لظنهم صدقهم، ولم يتولوهم ولا أحبوهم.
قيل: إن كنتَ لاتعلم؛ فاعلم أنهم تولوهم، وترضوا عنهم وعدلوهم، وعدلوا كل من شمله اسم الصحبة، ومنعوا الكلام فيهم بالكلية؛ بل عدوا ذلك جرحاً، ووضعوه قدحاً، كما صرحت به دفاترهم، وجرى عليه أولهم وآخرهم؛ وكان الأولى بمن بلغ به الجهل بحالهم إلى هذا، أن يسكت؛ فإن سكوته أسلم.
[كلام على معاوية وبقية بني أمية]
هذا، ومنها ماهو خاص لأناس منهم، بأسمائهم وأعيانهم، كرأس الباغين، معاوية بن أبي سفيان.
أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل، وابن عساكر؛ عن سعيد بن المسيب، قال: رأى النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسَلَّم ـ بني أمية على منابرهم؛ فساءه ذلك، فأوحى اللَّه إليه (إنما هي دنيا أعطوها)؛ فقرّت عينه، وهو قوله تعالى: {وَمَا /164(1/164)
جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ } [الإسراء: 60].
قال فخر الدين الرازي في تفسيره: وهذا هو قول ابن عباس، عن عطاء.
ثم قال أيضاً: قال ابن عباس: الشجرة الملعونة في القرآن: بنو أمية.
قال: ورأى رسول اللَّه ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسَلَّم ـ في المنام بني مروان يتداولون.
وقال النيسابوري في تفسير سورة القدر: ذكر القاسم بن المفضل، عن عيسى بن مازن، عن الحسن بن علي (ع)، أن رسول اللَّه ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسَلَّم ـ رأى في منامه بني أمية، يطئون منبره واحداً بعد واحد ـ وفي رواية: ينزون على منبره نزو القردة ـ فشق ذلك عليه، فأنزل اللَّه: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1)} [القدر] إلى قوله: {خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3)} يعني: ملك بني أمية.
وروى السيوطي في تاريخ الخلفاء (ص 13) عن الترمذي، بسنده إلى الحسن بن علي (ع)، أن النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسَلَّم ـ، رأى بني أمية على منبره، فساءه ذلك، فنزلت: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1)} [الكوثر] ونزلت: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1)} [القدر].
إلى قوله: قال: {خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3)} [القدر] يملكها بنو أمية، يامحمد.
قال: وأخرج هذا الحديث الحاكم في مستدركه، وابن جرير في تفسيره؛ وساق سنده إلى عبد المهيمن بن عباس بن سهل؛ حدثني أبي عن جدي، قال: رأى رسول اللَّه ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسَلَّم ـ، بني الحكم بن أبي العاص ينزون على منبره نزو القردة، فساءه ذلك، فما استجمع ضاحكاً حتى مات؛ وأنزل اللَّه في ذلك: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ } [الإسراء: 60].
قال: إسناده ضعيف، لكن له شواهد من حديث عبدالله بن عمر، ويعلى بن مرة، والحسن بن علي، /165(1/165)
وغيرهم؛ وقد أوردتها في كتاب التفسير، والمسند، وأشرت إليها في كتاب أسباب النزول. انتهى.
وعنه ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسَلَّم ـ: ((إن أهل بيتي يلقون من أمتي قتلاً وتشريداً، وإن أشد قومنا لنا بغضاً بنوا أمية وبنوا المغيرة وبنوا مخزوم)) أخرجه الحاكم، وقال: صحيح الإسناد.
وقد ساق الشوكاني في فتح القدير الأخبار في هذا المعنى، وزاد: وأخرج ابن مردويه، عن عائشة أنها قالت لمروان بن الحكم: سمعت رسول اللَّه ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسَلَّم ـ يقول لأبيك وجدك: ((إنكم الشجرة الملعونة في القرآن)).
قال الشوكاني: في هذا نكاره؛ وعلل ذلك بأن جد مروان، لم يدرك زمن النبوة.
قلت: وذلك ساقط؛ لأن اللام ليست للتبليغ هنا؛ بل بمعنى عن، كما في قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ ءَامَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ } [الأحقاف: 11] وقوله تعالى: {الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ } الآية [آل عمران:168] أي: عنهم وفي شأنهم.
وهنا كذلك أي: يقول عن أبيك وجدك.
فهذا هو الذي يجب المصير إليه، ولامعنى للتشكيك في الرواية الصحيحة، التي لها شواهد متضافرة؛ بل متواترة، بمثل هذا التعليل العليل.
وأيضاً، فلو كانت للتبليغ، لأمكن ذلك باعتبار الحَكَم، وعطف والده عليه تغليباً؛ وهذا واضح للمنصفين.
وفي البخاري بسنده إلى أبي هريرة، أنه قال: سمعت الصادق المصدوق يقول: ((هلكة أمتي على يد غلمة من قريش)).
قال مروان: لعنة اللَّه عليهم غلمة.
قال أبو هريرة: لو شئت أن أقول بني فلان بني فلان، لقلت.
قال في فتح الباري في الجزء (13) ص (9): تنبيه، يُتعجب من لعن مروان الغلمة، مع أن الظاهر أنهم من ولده، كأن اللَّه أجرى ذلك على لسانه؛ ليكون أشد عليهم في الحجة، لعلهم يتعظون.
وقد وردت أحاديث في لعن الحكم، والد مروان، وما ولد، أخرجها الطبراني؛ وبعضها فيه مقال وبعضها جيد. انتهى المراد. /166(1/166)
[نقاش في معنى الصحبة]
ونقول لهم فيما يقعقعون به، ويموهون على من لانظر له، ولا رؤية عنده، في شأن الصحابة، التي أضاعوا بسببها حقوق اللَّه، وحقوق رسوله، وحقوق الجامعين للصحابة والقرابة: إن أردتم الصحبة اللغوية على الإطلاق، التي هي الملازمة للغير، فليست من أسماء المدح والتعظيم في شيء؛ وقد سمى اللَّه تعالى بها الخارج عن دينه، الكافر بربه.
قال ـ عز وجل ـ: {قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ } [الكهف: 37].
وإن أردتم الصحبة الشرعية، التي تقتضي التجليل والتعظيم، والتبجيل والتكريم، المحمود أهلها في الكتاب الكريم، وسنة الرسول العظيم؛ فلا ولا كرامة؛ لاتطلق إلا لمستحقيها، الثابتين على الدين القويم، اللازمين لهدي الرسول الأمين، وصراطه المستقيم، الذين آمنوا به وعزروه ونصروه، واتبعوا النور الذي أنزل معه، ولم يبدلوا ولم يغيروا، حتى أتى اللَّه كل منهم بقلب سليم.
ولا ريب أن لصحابة سيد المرسلين ـ صلوات الله عليهم، وعلى الطاهرين من آلهم ـ منزلة عظمى، ومرتبة كبرى؛ ولكن ذلك لمن خاف مقام ربه، ونهى النفس عن الهوى، ولم يستبدل الآخرة بالأولى؛ فأما من طغى، وآثر الحياة الدنيا، فإن الجحيم هي المأوى؛ بل ذنبه أعظم، وجرمه أطم؛ لمشاهدته لأنوار النبوة، وكفرانه لعظيم ماأنعم اللَّه به عليه، كما أخبر اللَّه تعالى في نساء نبيه ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسَلَّم ـ.
وعلى كل حال، فكل فضيلة لاتتم إلا بالسلامة من موجبات سخط ذي الجلال، ومحبطات صالح الأعمال؛ وقد قرعت سمعك النصوص المعلومة على العموم والخصوص؛ ومابعد كلام اللَّه أحكم الحاكمين، وكلام رسوله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسَلَّم ـ أصدق القائلين مقال /167(1/167)
[كون إجرام الصحابي أقبح من غيره]
قال والدنا الإمام الهادي إلى الحق المبين، عز الدين بن الحسن بن أمير المؤمنين(ع) في المعراج؛ في سياق كلام، أجاب به على صاحب البهجة العامري: وأن صحبة رسول اللَّه ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسَلَّم ـ شرف ورفعة؛ ولكن لم يثبت أنها تبيح المحرمات، ولا تكفر الذنوب الموبقات؛ بل العقل والنقل يقضيان بعكس ذلك.
أما العقل: فلا شك أن المناسب عنده وفي حكمه، أن جراءة الصحابي، الذي صحب رسول اللَّه ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسَلَّم ـ دهراً طويلاً، وشاهد أنوار النبوة، وانفجار أنهار الحكمة، فأخذ دينه من غير واسطة أعظم موقعاً من جراءة غيره، وأدل على الشقاوة، وشدة التمرد، وعظيم العتوِّ؛ إن لم يشهد ذلك بالنفاق، وجميع مساويء الأخلاق.
وأما النقل: فقوله تعالى: {يَانِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ } [الأحزاب: 30].
فأكد ماذكرناه، ودل على أن صحبتهن لرسول اللَّه صَلَّى الله عَليْه وآله وسَلَّم، وهي أبلغ صحبة، وأخصها وأعظمها، لم تكن سبباً في التجاوز عنهن؛ بل في التغليظ عليهن؛ فكيف تكون صحبة معاوية مع نوع من النفاق والتمرد العظيم، وأبلغ الشقاق، سبباً في تجاوز ماكاد به الإسلام، وأحدثه من المصائب العظام، والحوادث الطوام؟!
ثم ساق (ع) أخبار الحوض وغيرها.
وكلام أئمة الهدى على هذا المنهج.
وقد أورد في الجزء الرابع من شرح النهج، بحثاً نفيساً، جواباً على ماتُوَعْوَع به الحشوية في هذا المقام.
ولقد قارب حد الإنصاف، والخروج عن التورط في دائرة الانحراف والاعتساف، العلامة المحقق، سعد الدين التفتازاني، حيث قال في شرح المقاصد مانصه: إن ماوقع من الصحابة من المشاجرات، على وجه المسطور في كتب التواريخ، والمذكور على ألسنة الثقات، يدل بظاهره على أن بعضهم قد حاد عن طريق الحق، وبلغ حد الظلم والفسق، وكان الباعث له الحقد، والفساد /168(1/168)